الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفرق بين العلم والمعرفة عند المحققين: أن المعرفة هي العلم الذي يقوم العالم بموجبه ومقتضاه، فلا يطلق المحققون المعرفة على مدلول العلم وحده.
الحس في الفكر الإسلامي
أما المعرفة الحسية، فالله سبحانه وتعالى قد ذكر الحس في القرآن الكريم في قوله:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} (مريم: 98) وامتن الله سبحانه وتعالى على الناس بما وهبهم من الحواس، فقال عز وجل:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شيئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78) وقال: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (المؤمنون: 78)، فالحواس لها أهميتها في المعرفة الإنسانية، ولذلك تناول مفكرو الإسلام على اختلاف مذاهبهم مسائل تتصل بالحواس، نذكر منها: عدد الحواس وأيّها أفضل، نظرًا لتنوع مدركات الحواس الظاهرة من مسموع وملموس ومبصر ومتذوق ومشموم كان الرأي الغالب عند المتكلمين والفلاسفة أنها خمس حواس: حاسة البصر وبها ندرك الأجسام والألوان وحسن التركيب في الصور، وحاسة السمع وبها ندرك الكلام والأصوات، وحاسة الذوق وبها ندرك الطعوم، وحاسة الشمّ وبها تدرك الروائح، وحاسة اللمس ويدرك بها الجسم والحرارة والبرودة واليبوسة واللين والخشونة، وقد زاد البعض حاسة أخرى وهي ما عبر عنه ابن حزم في قوله: علم النفس بالبديهات كعلمه بأن الجزء أقل من الكل، فإن الصبي الصغير في أول تمييزه إذا أعطيته ثمرتين بكى وإذا زدته ثالثة سُرّ، وهذا علم منه بأن الكل أكثر من الجزء، وإن كان لا ينتبه لتحديد ما يعرف من ذلك، ونحن نرى أن ابن حزم نقل
حاسة باطنة أو نقل ما يُسمى بأوليات العقول إلى عمل الحواس، ولا يُفسر هذا عند ابن حزم إلا بافتراض أخذه ولو لم يصرح بالحواس الباطنة، كما يذكر الرازي، وضمها إلى قائمة الحواس باعتبار أن مصادر المعرفة عنده كما هي عنده جمهور الفلاسفة والمتكلمين أعيانٌ وخبر ونظر، وقد ربط ابن القيم بين ما تتميز به الحاسة في إدراكها بين وجهة تفضيلها باعتبار أن اليقين مراتب، فيرى أن السمع مرتبة لكن مرتبة العين أتمّ وأكمل، وكأن كل واحدة فضلت من جهة، فالمدرك بالسمع أعم وأشمل والمدرك بالبصر أتم وأكمل.
عمل الحواس الظاهرة: قلنا إنه من أجل تنوع مدركات الحواس تنوعت الحواس أو العكس، من المقرر أن عملية الإدراك الحسي هذه مدخل إلى العلم العقلي؛ لذا كان من الضروري أن يتعرض العلماء لبحث مسألة طريقة عمل هذه الحواس الظاهرة، فلتعمل كل حاسة على حدة دون تداخل بينها وبين الحواس الأخرى، أو أن هناك تداخلًا لاعتبارات معينة، هناك من يرى أن الحواس تعمل كل على حدة ولا تداخل، بل إن كل حاسة تقوم بالوظيفة التي أناطها الله بها، بينما يرى آخرون أن الحواس تعمل بالمداخلة والمجاورة؛ لأن الملموسات والمذوقات والمشمومات كلها أجسام وليست أعراضًا، فلو كانت أعراضًا لاستحال أن تدرك بالاتصال أو تسمع بالآذان أو تشم أو تذاق أو تلمس، وهذا رأي بعض المعتزلة كما يذكر الأشعري، ويتفق ابن تيمية مع صاحب هذا الرأي بالنسبة للشم والذوق واللمس باعتبارهم حسًّا محضًا لا يحصل إلا بمباشرة المحسوس، أما ابن حزم، فمع أنه يرى عدم التداخل بين الحواس فإنه يرى أن الحواس الخمس لا تدرك المحسوسات إلا بالمقابلة والتفاضل؛ بأن يعظم الفرق بين الشيء في وضعين مختلفين، فتتمكن الحواس من إدراك المحسوس، أما إذا فقدت الأشياء ما يظهر هذا التقابل كأن تكون فاقدة لصفة اللون والطعم والرائحة والمحسّة كالنفس مثلًا،
فإن الحواس لا تدركها، بل هي التي تدرك كل المدركات، ولعل فخر الدين الرازي في تناوله للحواس الظاهرة أو وسائل الإدراك الخارجي من أكثر الذين تعرضوا للصلات بين الحواس والمقارنات بينها متأثرًا في بعض ما ذكر بفلاسفة المسلمين أمثال ابن سينا الذي تأثر بأرسطو في كثير من مسائل هذا الموضوع، كما ظهر في اعتباره الذوق نوعًا من اللمس باعتبارهما شعورًا مع الفارق في فائدة الجسم من كل منهما، فالذوق عبارة عن الشعور بما يلائم البدن ليطلبه، واللمس شعور خاص بما ينافيه ليتجنب عنه.
الحواس الباطنة: لم تكن الحواس الظاهرة هي كل الجهاز المعرف الحسي، بل رأى منكري الإسلام أن حواس باطنة تكمل دور الجهاز المعرفي الحسي، وإذا كنا قد أثرنا إلى رأي ابن حزم في حاسة سادسة وهي ليست من الحواس الظاهرة فإننا نشير إلى أن كثيرين غير ابن حزم قد رأوا ضرورة أن يكون هناك حواس باطنة تكمّل دور الحواس الظاهرة في المعرفة الحسية، ومستندهم في هذا أن الحواس الظاهرة تدرك الأشياء جزئيّة ومتناثرة، ولا تكون مدركاتها ذات قيمة ما لم يكن هناك حاسة أو أكثر تجمعها، فإذا أضفنا إلى ذلك أننا نجد صور المحسوسات بعد أن تغيب عنا موجودة في نفوسنا وأذهاننا بعد غيابها، ووجود هذا الصورة ليس من أعمال الحس الظاهرة؛ من أجل هذا رأوا أنه لا بد من قوة أو قوى تلتقط هذه الصور وتجمعها وتحتفظ بها وتُصدر أحكام عليها، وقد عدها البعض خمس قوى باطنة هي الحس المشترك والخيال والقوة المتخيلة، وتسمى أحيانًا المفكرة، والقوة الوهمية، والقوة الحافظة.
وطبيعي أن يكون هناك اختلافٌ بين عمل الحاسة الظاهرة والحواس الباطنة؛ من حيث أن الأولى ملامسة للمحسوس وبواسطة، بينما الثانية تصور له وتذكر
جمالًا يستلزم وجود المدرك المحسوس، وهذه الفروق وغيرها لا تنفي تكامل الحواس الباطنة مع الحواس الظاهرة في المعرفة الحسية.
ومن خلال هذه الإشارات التي أبانت مكانة الحسّ في الفكر الإسلامي نستنتج منها ما يلي:
أن للحس دورًا مهمًّا في عملية المعرفة، لكنه ليس المصدر الوحيد لها.
أن العالم الحسي واقع مشاهد لا يمكن إنكاره أو عّده شبحًا أو ظلالًا.
ثالثًا: أن الانطلاق من الحس والجزئيات أعطى المسلمين فهمًا جديدًا لمعنى التجربة، جعلتهم تجريبيين حقيقيين، دون أن يكون ذلك السبب العقل أو التقليل من شأنه، ووضع الحس موضعه وعرف للعقل قدره، وضبط كلاهما بمبادئ اليقين التي يعرفها المنهج الإسلامي.
رابعًا: أن الشك في الحواس وذكر خطئها وخداعها ليس شكًّا مذهبيًّا كما هو عند بعض اليونان، لكنه منهج يحذر في الشك في الإفراط في الثقة في الحواس، كما يشير إلى دور العقل وأهميته، بالإضافة إلى ضرورة الحرص على سلامة الحواس قبل الثقة في الأخذ عنها. أما العقل فهو مصدر عقل يعقل، وليس اسمًا لجوهرٍ قائمًا بنفسه، وإنما هو مجرد صفة كالعلم والفهم والإحساس والشم والذوق ونحو ذلك مما هو مقتضى قوى الإدراك، قال أهل اللغة: عقل يعقل عقلًا ومعقولًا أيضًا، وهو مصدر، وقال سيبويه: هو صفة.
وفي بيان هذا المعنى يقول الإمام ابن تيمية: إن العقل في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والأئمة لا يُراد به جوهر قائمٌ بنفسه باتفاق المسلمين، وإنما يُراد به العقل الذي في الإنسان، الذي هو عند من يتكلم في الجوهر والعرض من قبيل