الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس التاسع
(دعوة المسلمين)
أصناف المدعوِّين
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
تحدثنا عن دعوة غير المسلمين على اختلاف مللهم ونحلهم وديانتهم؛ تحدثنا عن دعوة المشركين واليهود والنصارى والمنافقين ونحن في هذا الدرس إن شاء الله تعالى نتحدث عن دعوة المسلمين.
والمسلمون هم الذين آمنوا بالله ورسوله ظاهرًا وباطنًا واتبعوا النور الذي أنزل معه، وهم ثلاثة أقسام بين الله تعالى في قوله:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (فاطر: 32، 33).
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: يقول الله تعالى: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم المصدّق لما بين يديه من الكتب الذين اصطفينا من عبادنا وهم هذه الأمة، ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع فقال: فمنهم ظالم لنفسه وهو المفرِّط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات، فمن ترك الواجب فقد ظلم نفسه ومن فعل المحرم فقد ظلم نفسه؛ ولذلك لما أكل الأبوان من الشجرة قالا:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) ولما قتل موسى عليه السلام القبطي قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص: 16) فالظالم لنفسه هو المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات، ومنهم مقتصد وهو المؤدي للواجبات التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله وهو الفاعل للواجبات والمستحبات التارك للمحرمات والمكرهات وبعض المباحات.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (فاطر: 32) قال: "هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورّثهم الله تعالى كل كتاب أنزله، فظالمهم يُغفر له ومقتصدهم يُحاسب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب"، والمسلمون جميعًا بأقسامهم الثلاثة يدعون إلى الله عز وجل، يُدعى الظالم لنفسه ليتوب من ظلمه ويدعى المقتصد ليجتهد في فعل الواجبات وترك المحرمات وليستزيد من النوافل وترك المكروهات، ويُدعى السابق بالخيرات بإذن الله تقربًا إلى الله ليثبت لما هو عليه ويزداد منه، فإن الله تبارك وتعالى قال:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (محمد: 17) وقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (مريم: 76) فمهما كان الإنسان مجتهدًا في طاعة الله عز وجل، إلا أنه لا شك تاركٌ لبعض المحبوبات، فيدعى السابق بالخيرات ليثبت على ما هو عليه ويزداد من الخيرات.
وقد خاطب الله تبارك وتعالى جماعةَ المسلمين بلقب الإيمان الذي يشملهم جميعًا خاطبهم بذلك في القرآن الكريم كثيرًا، وكلفهم بما يحب ونهاهم عما يكره؛ من ذلك قول ربنا سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} (النساء: 136)، وقوله سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الحديد: 28)، وقال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الأنفال: 29)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ
اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (الصف: 10 - 13)، وقال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التحريم: 8)، وقال سبحانه:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31).
والآيات الخاصة ببعض الطاعات والتحذير من بعض المحرمات مشهورة ناداهم الله تبارك وتعالى وأعلمهم بفرضية الصلاة وفرضية الصيام، وناداهم وحرَّم عليهم الخمر والميسر
…
إلى آخر ذلك، والنداءات في القرآن الكريم كثيرة، ينادي الله تبارك وتعالى بلقب الإيمان "يا أيها الذين آمنوا" لم يفرق سبحانه وتعالى بين الذكر والأنثى فهم جميعًا داخلون في الخطاب، وأحيانًا يُسمي الله تبارك وتعالى المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات تكريمًا للنساء وتشريفًا وتأكيدًا على أنهنَّ داخلات في الخطاب، إلا ما قام الدليل على اختصاصه بالرجال، يقول سبحانه وتعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71)، ويقول سبحانه:{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} (الحديد: 18)، ويقول سبحانه:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 35)، ويقول سبحانه: {لِيُعَذِّبَ
اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 73).
وأحيانًا يخصّ الله تعالى المؤمنات بالأمر فيما يتعلق بهنّ في مثل قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31)، وربما وجّه الله تبارك وتعالى الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ليكلّف النساء في مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 59).
وكثرت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة النساء خاصة، من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها؛ قيل لها: ادخلي الجنة من أيّ أبوابها شئتِ)) ومرَّ صلى الله عليه وسلم على امرأة تبكي عند قبرٍ لها فقال: ((اتقِ الله واصبري)) فقالت: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي. ولم تعرفه، فقيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتت بابه تريد أن تعتذر إليه؛ فلم تجد عنده حاجبًا ولا بوابًا، فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله لم أعرفك، فقال:((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))، بل كان عليه الصلاة والسلام يخص النساء بالموعظة، فكان يوم العيد إذا خطب الرجال تخطاهم إلى النساء فوعظهنّ وذكرهنّ وقال:
((يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكنّ))، بل إنه صلى الله عليه وسلم جعل للنساء يومًا يعلمهنَّ فيه لا يختلط بهن الرجال.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يهمل دعوة صغار المسلمين وتربيتهم وإن كانوا غير مكلفين، بل كان يأمر الصبيان وينهاهم ويعظهم ويذكرهم ويعلمهم العقيدة؛ ففي الحديث عن عمر بن أبي سلمة قال:"كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة -يعني: كان غلام صغير وكان يمد يده هاهنا وهاهنا من إناء الطعام- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا غلام سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)) "، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:((كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف)) بل كان عليه الصلاة والسلام يأمر الآباء بتعليم أبنائهم وتربيتهم ودعوتهم إلى عبادة الله عز وجل كان يقول: ((مُروا أولادكم وهم أولاد سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)).
فالمؤمنون جميعًا على اختلاف جنسهم ولغتهم وثقافتهم ومهنتهم بحاجة إلى الدعوة، وعلى الدعاة أن يحرصوا على الوصول بالدعوة إلى كل فردٍ من أفراد المجتمع، وإلى كل طبقةٍ من طبقاته، ولكن عُصاةَ المسلمين وهم الذين سمّاهم الله "ظالمي أنفسهم" أحوج المسلمين إلى الدعوة؛ لأنهم مقصرون في حق الله، ظالمون لأنفسهم بترك الواجبات وفعل المحرمات، فهم بحاجة دائمًا إلى داعية يذكّرهم بالله ويخوّفهم عذابه، بالرفق واللين والحكمة والموعظة الحسنة، لعلهم يتقون أو يُحدث لهم ذكرًا.