المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أقسام السنة من حيث ورودها إلينا - أصول الدعوة - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 بعض الآفات التي تصيب بعض الدعاة

- ‌العجلة

- ‌ضعف اليقين

- ‌التقصير في عمل اليوم والليلة

- ‌الدرس: 2 أصول العقيدة (1)

- ‌علاقة الدعوة بأصول الإسلام

- ‌تعريف العقيدة وأصولها الستة

- ‌الركن الأول: الإيمان بالله

- ‌الركن الثاني: الإيمان بالملائكة

- ‌الركن الثالث: الإيمان بالنبيين والكتب المنزلة على المرسلين

- ‌الدرس: 3 أصول العقيدة (2)

- ‌الركن الرابع: الإيمان بالكتب

- ‌الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر

- ‌الركن السادس: الإيمان بالقدر

- ‌الدرس: 4 العبادة

- ‌الركن الأعظم بعد الشهادتين: الصلاة

- ‌الركن الثاني بعد الصلاة: الزكاة

- ‌الركن الثالث بعد الصلاة: الصيام

- ‌الركن الرابع بعد الصلاة: الحج

- ‌الدرس: 5 الأخلاق

- ‌علاقة الأخلاق بالعقيدة

- ‌علاقة الأخلاق بالعبادة

- ‌تعريف الأخلاق وأهميتها

- ‌مكانة الأخلاق في الإسلام

- ‌خصائص الأخلاق في الإسلام

- ‌الدرس: 6 خصائص الإسلام

- ‌خاصية العالمية

- ‌خاصية الإنسانية

- ‌الدرس: 7 المبادئ العشرة لعلم أصول الدعوة

- ‌معنى أصول الدعوة، وموضوعه، وحكم تعلمه

- ‌موضوع علم أصول الدعوة

- ‌فضائل علم أصول الدعوة

- ‌نشأة علم أصول الدعوة، والمراحل التي مر بها

- ‌روافد علم أصول الدعوة، ونسبته، وثمرته، ومسائله، ومصادره

- ‌الدرس: 8 التصور الإسلامي للمعرفة بأنواعها المختلفة

- ‌الفرق بين العلم والمعرفة

- ‌الحس في الفكر الإسلامي

- ‌العلاقة بين العقل والنقل

- ‌الدرس: 9 دعوة المسلمين

- ‌أصناف المدعوِّين

- ‌الأصول الشرعية في دعوة الكفار والمنافقين

- ‌الأصول الشرعية في دعوة المسلمين

- ‌الدرس: 10 أهم الصفات التي يجب علي الداعية أن يتصف بها

- ‌الإيمان

- ‌الاجتهاد في الطاعات والتقرب بها إلى الله

- ‌التجرد والزهد

- ‌أن يكون في نفسه قدوة حسنة

- ‌أن يكون قوي الحجة مستظهرًا للأدلة

- ‌العلم

- ‌الدرس: 11 المدعوون

- ‌من هو المدعو

- ‌دعوة القرآن المشركين للإيمان

- ‌دعوة القرآن اليهودَ للإيمان

- ‌دعوة القرآن النصارى للإيمان

- ‌دعوة القرآن المنافقين للإيمان

- ‌الدرس: 12 المصادر التي يعتمد عليها الداعية في دعوته المصدر الأول: القرآن الكريم

- ‌التعريف بالمصدر الأول: القرآن الكريم

- ‌بيان القرآن الكريم للأحكام الشرعية

- ‌أهمية القرآن الكريم في حياة الداعية والمجتمع

- ‌الدرس: 13 المصدر الثاني: السنة

- ‌التعريف بالسنة وأهميتها في التشريع

- ‌أقسام السنة من حيث ورودها إلينا

- ‌الدرس: 14 الثقافة التي يحتاج إليها الداعية

- ‌الثقافة الدينية

- ‌معرفة علوم القرآن

- ‌الثقافة التاريخية

- ‌الثقافة الأدبية والواقعية

- ‌الدرس: 15 ركائز الدعوة في الإسلام

- ‌التصور الإسلامي للكون والحياة

- ‌التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع

- ‌الدرس: 16 علاقة الإسلام بالدعوات السابقة

- ‌الإسلام هو الدين القيم الذي فطر الله الناس عليه

- ‌حكمة اختلاف الشرائع من أمة لأمة

- ‌الدرس: 17 الأخلاق ومكانتها في الإسلام - أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (1)

- ‌الأخلاق ومكانتها في الإسلام

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الإخلاص

- ‌من أهم الأخلاق التي تلزم الداعية: الشجاعة

- ‌الدرس: 18 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (2)

- ‌من أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها: الإيجابية

- ‌من الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها التضحية

- ‌الدرس: 19 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (3)

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الصبر

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الرفق

- ‌الدرس: 20 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (4)

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العدل

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العفو

- ‌الدرس: 21 من خصائص الإسلام: الربانية والوسطية والوضوح

- ‌(من خصائص الإسلام: الربانية

- ‌من خصائص الإسلام: الوسطية

- ‌من خصائص الإسلام: الوضوح

الفصل: ‌أقسام السنة من حيث ورودها إلينا

الرضا والاستحسان أظهر في الدلالة على جواز الفعل من مجرد سكوته صلى الله عليه وسلم.

ويلاحظ هنا أن إباحة الفعل المستفادة من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم لا تعني أن الفعل لا يكون إلا جائزًا فقط، فقد يكون الفعل واجبًا بدليل آخر وعلى هذا فمجرد سكوت النبي صلى الله عليه وسلم لا يفيد أكثر من إباحة الفعل، وقد يستفيد الفعل صفة الوجوب أو الندب من دليل آخر، هذه هي أقسام السنة من حيث ماهيتها أي: ذاتها تنقسم إلى سنة قولية وفعلية وتقريرية.

‌أقسام السنة من حيث ورودها إلينا

أما أنواع السنة من حيث ورودها إلينا أي: من حيث روايتها وهو ما يُعبَّر عنه بسند السنة، فإنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: سنة متواترة وسنة مشهورة وسنة آحاد، وهذا التقسيم عند الحنفية متواترة ومشهورة وآحاد، أما جمهور العلماء أو المحدثين؛ فالسنة عندهم قسمان: متواترة وآحاد؛ لأن المشهورة عند الجمهور هي من نوع الآحاد ولا يجعلونها قسمًا قائمًا بنفسه كما يفعل الحنفية.

أولًا: السنة متواترة: ويمكن تعريفها بأنها التي رواها جمع كثير تُحيل العادة تواطؤهم على الكذب، أو وقوعه منهم من غير قصد التواطؤ عن جمع مثلهم، حتى يصل المنقول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون مستند علمهم بالأمر المنقول عنه صلى الله عليه وسلم المشاهدة أو السماع.

وهذا التعريف قد تضمن شروط التواتر.

متى يكون الخبر متواترًا؟

ص: 258

شروط التواتر هي: أن يكون الرواة للسنة جمعًا كثيرًا يمتنع تواطؤهم على الكذب أو وقوعه منهم من دون قصد حسب العادة، ولا يشترط للتواتر عدد معين، بل يعتبر ما يفيد العلم على حسب العادة في سكون النفس إليهم -أي: إلى الرواة- وعدم تأتّي التواطؤ على الكذب منهم، إما لفرط كثرتهم، وإما لصلاحهم ودينهم، ونحو ذلك، كما لا يشترط لتحقق التواتر أن يجمع الناس أو أن يُجمع الناس كلهم على التصديق به، بل ضابطه حصول العلم الضروري به، فإذا حصل ذلك؛ علمنا أنه متواتر وإلا فلا.

الشرط الثاني: أن يكون الرواة في كل طبقة من طبقات الرواية بهذا الوصف الذي ذكرناه في الشرط الأول.

الشرط الثالث: أن يكون مستند علم الرواة مستفادًا عن طريق المشاهدة أو السماع، ويترتب على هذا الشرط أمران:

الأول: إذا لم يكن الرواة عالمين بالمخبر به بأن كانوا ظانين؛ فإن الشرط لا يتحقق وبالتالي لا يتحقق التواتر.

والثاني: إذا كان علم الرواة مستندًا إلى أمر عقلي غير محسوس؛ فلا يتحقق التواتر، فإذا تحققت شروط التواتر أفاد الخبر اليقين، والعلم الضروري وهو الذي يُضطر إليه الإنسان؛ بحيث لا يمكن دفعه لأن الثابت بالتواتر كالثابت بالمعاينة، الخبر إذا بلغك عن طريق التواتر كأنك أنت الذي رأيت وكأنك أنت الذي سمعت، وعلى هذا فالسنة المتواترة مقطوع بصحة نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم دون أي شك، فتكون دليلًا من أدلة الأحكام، ومصدرًا تشريعيًّا لها بلا خلاف بين المسلمين.

ص: 259

والسنة المتواترة قد تكون قولية وقد تكون فعلية، والقولية المتواترة قليلة، والفعلية كثيرة، أما السنة المتواترة القولية؛ فهي نوعان: لفظي ومعنوي، فالنوع الأول: ما تواتر لفظه كقوله عليه الصلاة والسلام: ((من كذب علي متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار))، فهذا بلفظه نقل إلينا بالتواتر كل من رواه رواه بهذا اللفظ. وأما التواتر المعنوي: فهو ما تواتر المعنى المشترك فيه دون تواتر لفظه يعني: اتفق الرواة على المعنى واختلفت ألفاظهم، فيكون هذا المتواتر متواترًا معنويًّا، ولا يلزم هذا النوع أن يكون أصحاب كل رواية على حدة قد بلغوا حد التواتر، ولكن المعنى المشترك يشترط فيه بلوغ حد التواتر باعتبار مجموع الروايات.

ومثال هذا النوع: كون الأعمال مبناها النية، وأن اعتبار الأعمال بالنية، فهذا المعنى رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم بصورة متواترة، إذ وردت به أخبار كثيرة تبلغ حد التواتر في دلالتها على هذا المعنى، وإن كان كل خبر لم يبلغ بنفسه حد التواتر، فمن هذا الأخبار المروية عنه صلى الله عليه وسلم ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))، هذا لفظ يدل على أن الأعمال مبناها على النية، لفظ تان ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو سبيل الله)) لفظ ثالث ((رُبَّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته)) هذه الأخبار الكثيرة دلت على أن اعتبار العمل إنما يكون بالنية، فهذا المعنى تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاء في أخبار كثيرة، وإن اختلفت الألفاظ وتنوعت القضايا.

أما السنة المشهورة على مذهب الأحناف فهي التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم واحد أو اثنان أي: عدد لم يبلغ حد التواتر، ثم تواترت في عصر التابعين، وعصر تابعيهم بأن كان رواتها جموعًا لا يتوهم تواطؤهم على الكذب، فالسنة المشهورة إذن هي التي كانت في الأصل من سنن الآحاد؛ أي: ما نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم عددٌ دون عدد

ص: 260

التواتر، ثم اشتهرت، وتواترت في القرن الثاني والثالث، وهما عصرا التابعين وتابعي التابعين.

ومن هذا التعريف يتضح لنا بجلاء أن السنة المشهورة غير مقطوع بصحة نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنها مقطوع بصحة نسبتها إلى الراوي لها عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الحنفية عنها: أنها تفيد ظنًّا قويًّا كأنه اليقين، وهو يسمى بعلم الطمأنينة بصحة نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي بمنزلة السنة المتواترة عند الحنفية من جهة لزوم العمل بها، وجعلها مصدرًا تشريعيًّا، ودليلًا من أدلة الأحكام ومن هذا النوع حديث:((إنما الأعمال بالنيات))، وحديث تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها.

أما سنة الآحاد: فهي ما رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم عدد لم يبلغ حد التواتر؛ وذلك في عصر التابعين وتابعيهم فهي ما ليست سنة متواترة ولا مشهورة على قول الأحناف، أو ما ليست متواترة على قول الجمهور، فالسنة عند الجمهور -كما ذكرنا- متواترة وآحاد، وعند الأحناف فصلوا بين المشهور والآحاد، وسنة الآحاد عند الجمهور تفيد الظن الراجح بصحة نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وتفيد العلم لا الظن عند الظاهرية وبعض أهل الحديث.

ولكن؛ هل تعتبر سنة الآحاد مصدرًا من مصادر التشريع؟

الجواب: لا خلاف بين المسلمين أن سنة الآحاد حجة على المسلمين في وجوب العمل بها، والتقيد بأحكامها، وجعلها دليلًا من أدلة الأحكام، والبرهان على ذلك من وجوه عديدة نذكر منها: يقول الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) والطائفة في اللغة تطلق على الواحد، فلولا أن خبر الواحد حُجة في العمل لما كان لإنذار من يتفقه في الدين فائدة.

ص: 261

ثانيًا: تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم إرسال أمرائه وقضاته ورسله وسُعاته إلى الآفاق، وهم آحاد، ولا يرسلهم إلا لقبض الصدقات، وحل العهود وتقريرها، وتبليغ أحكام الشرع، وكان صلى الله عليه وسلم يلزم أهل النواحي قبول قول من يرسلهم إليهم، ولو لم يكن خبر الواحد حجة لما أمرهم بذلك.

ثالثًا: إنّ العامي بالإجماع مأمور باتباع المفتي وتصديقه مع أنه ربما يُخبر عن ظنه، فالذي يُخبر بالسماع عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يشك فيه أولى بالتصديق والقبول والعمل بموجب خبره.

رابعًا: إننا مأمورون بالحكم بشهادة اثنين مع أنّ هذه الشهادة تحتمل الكذب، فلو كان العمل بها لا يجوز إلا بانتفاء احتمال الكذب بصورة قاطعة لما عملنا بها، فإذا وجب العمل بالشهادة مع احتمالها الكذب، فلأن يجب العمل برواية الآحاد عنه صلى الله عليه وسلم أولى.

خامسًا: إجماع الصحابة في حوادث لا تُحصى على قبول خبر الواحد والعمل به، فأبو بكر مثلًا أعطى الجدة السدس؛ لورود الخبر بذلك، وعمر بن الخطاب ورَّث المرأة من دية زوجها لورود السنة بذلك وهي سنة آحاد، وأخذ الجزية من المجوس بسنة آحاد أيضًا، وهكذا فعل الصحابة الآخرون فيما بلغهم من أخبار الآحاد.

ولكن، ما هي شروط العمل بسنة الآحاد؟

الجواب: أجمع المسلمون على أن سنة الآحاد حجة على الجميع يلزم اتباعها، وأنها من مصادر التشريع، إلا أنهم اختلفوا في الشروط اللازمة لذلك أي: في شروط وجوب العمل بها، واستنباط الأحكام منها، ويمكن رد اختلافهم إلى قولين:

ص: 262

القول الأول: إن السنة التي رواها العدل الثقات بأن توافر في الراوي شروط قبول روايته حسبما يشترط أصحاب هذا القول، على اختلاف فيما بينهم في هذه الشروط، واتصل سند الرواية بالرسول صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الحالة يجب العمل بهذه السنة واستنباط الأحكام منها، وعدها مصدرًا للتشريع، وهذا قول الحنابلة والشافعية والظاهرية والجعفرية، وبعض الفقهاء من المذاهب الأخرى، أما إذا لم يتصل السند بأن سقط من سلسلة الرواة الصحابي الذي روى الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المُسمى بالحديث المرسل؛ فقد اختلف أصحاب هذا القول في وجوب العمل به، فعند الظاهرية لا يكون حجة ولا يجب العمل به، ومذهب الشافعي الأخذ به بشروط منها: أن يكون من مراسيل كبار التابعين كابن المسيب، وأن يسند من جهة أخرى، أو يوافق قول الصحابي، أو يفتي بمقتضاه أكثر العلماء.

ومذهب أحمد بن حنبل الأخذ بالمرسل والعمل به إذا لم يكن في الباب حديث متصل السند، فعند الإمام أحمد الحديث الضعيف أحسن من الأخذ بالرأي.

القول الثاني: وأصحابه لم يكتفوا بكون الرواة عدولًا ثقاة، وإنما اشترطوا شروطًا أخرى لا تتعلق بسند الرواية، وإنما تتعلق بأمور أخرى حتى يترجح عندهم جانب صحة الحديث، ونسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحاب هذا القول هم المالكية والحنفية، ونذكر فيما يلي بإيجاز شديد أهم شروطهم.

أولًا: شروط المالكية لقبول سنة الآحاد: اشترط المالكية لقبول خبر الآحاد عدم مخالفته لعمل أهل المدينة، والحجة في ذلك عندهم أن عمل أهل المدينة بمثابة السنة المتواترة؛ لأنهم ورثوا العمل عن أسلافهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم فكأن عملهم بمنزلة الرواية والسنة المتواترة، والمتواتر يتقدم على خبر الآحاد، وعلى هذا الأساس لم يأخذ الإمام مالك بحديث:((المتبايعان بالخيار حتى يتفرقا)

ص: 263

فقد قال مالك عن هذا الحديث: ليس لهذا عندنا -يعني: عند أهل المدينة- حد معروف ولا أمرٌ معمول به.

كما اشترطوا ألا يُخالف خبر الآحاد الأصول الثابتة، والقواعد المرعية في الشريعة وعلى، هذا الأساس لم يأخذوا بخبر المصرَّاة، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((لا تصرّوا الإبل والغنم)) ومعناه: ترك اللبن في الضرع عند إرادة البيع، فيُخدع المشتري حين يرى الضرع مليئًا، ويظن أن هذه هي عادة البهيمة، وإذا به بعد حلبها تعود إلى عادتها وينقص لبنها، فقال عليه الصلاة والسلام:((لا تصروا الإبل والغنم ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها)) إذا اشتراها مصراة ثم حلبها فوجد الفرق فهو بخير النظرين إن شاء أمسك وأمضى البيع، وإن شاء ردَّها على صاحبها بائعها وصاعًا من تمر الصاع من تمر مقابل اللبن الذي أخذه.

فرد المالكية هذا لأن هذا الخبر في نظرهم قد خالف أصل الخراج بالضمان، وأصل أن متلف الشيء إنما يغرم مثله إن كان مثليًّا وقيمته إن كان قيميًّا، فلا يضمن في إتلاف المثل جنسًا غيره من طعام أو عروض، وكذلك لم يأخذوا بخبر إكفاء القدور التي طبخت من الإبل والغنم، قبل قسمة الغنائم بحجة مخالفة الأصل رفع الحرج والمصلحة المرسلة، فقد كان يكفي أن يقال لهم: إن ما صدر عنكم لا يجوز، ثم يؤذن لهم بالأكل منها، فإتلاف المطبوخ إفساد منافي المصلحة مما يدل على عدم صحة الخبر. هذه الشروط التي اشترطها المالكية للعمل بسنة الآحاد.

أما الحنفية فقد اشترطوا لقبول سنة الآحاد ألا تكون السنة متعلقة بما يكثر وقوعه؛ لأن ما يكثر وقوعه لا بد أن ينقل عن طريق التواتر أو الشهرة؛ لتوافر الدواعي للنقل، فإذا لم ينقل على هذا الوجه ونقل عن طريق الآحاد؛ دلّ ذلك

ص: 264

على عدم صحة السنة، ومثال ذلك رفع اليدين في الصلاة؛ فإنه جاء عن طريق الآحاد مع عموم الحاجة إليه لتكرار الصلاة في كل يوم فلا يقبل.

ثانيًا: ألا تكون السنة مخالفة للقياس الصحيح وللأصول والقواعد الثابتة في الشريعة، وهذا إذا كان الراوي غير فقيه؛ لأنه إذا كان كذلك فقد يروي السنة بالمعنى لا باللفظ، وهو أمر كثير الوقوع؛ فيفوته شيء من معاني الحديث لا يتفطن له، فلا بد من الاحتياط ألا يقبل الحديث في هذه الحالة إذا كان مخالفًا للأصول العامة، ومقتضى القياس الصحيح.

على هذا الأساس لم يأخذ الحنفية أيضًا بحديث المصراة كما فعل الإمام مالك؛ لأن راوي الحديث وهو أبو هريرة عندهم غير فقيه، كما أن هذا الحديث خالف الأصول والقواعد المقررة كقاعدة الخراج بالضمان التي جاءت بالسنة، وهذه القاعدة تقتضي بأن غلة العين تكون ملكًا لمن يكون عليه الضمان عند هلاك العين، وعلى هذا يجب أن يكون اللبن للمشتري؛ لأن العين في ضمانه كما أن هذا حديث خالف قاعدة الضمان القاضية بأن الضمان يكون بالمثل إذا كان المتلف مثليًّا.

ثالثًا: اشترط الأحناف لقبول سنة الآحاد ألا يعمل الراوي بخلاف الحديث الذي رواه، لأن عمله يدل على نسخه أو تركه لدليل آخر، أو أن معناه غير مراد على الوجه الذي روي فيه، ويمثلون لذلك بحديث:((إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعًا، إحداهن بالتراب))، فإنهم لم يأخذوا به؛ لأن راوي الحديث كان يغسل الإناء ثلاثًا إذا ولغ فيه الكلب ولا يغسله سبعًا فردوا الحديث لترك الراوي العمل به.

والقول الراجح في مسألة قبول خبر الآحاد، نقول فيه: مع تسليمنا بأن الحنفية والمالكية ما اشترطوا هذه الشروط إلا ليطمئنوا على صحة السنة ونسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فإن

ص: 265

قولهم مرجوح صحيح أنهم أرادوا أن يحتاطوا للسنة إلا أن قولهم مرجوح، وقول غيرهم هو الراجح؛ لأن السنة متى صحت روايتها بأن رواها العدول الثقات الضابطون لزم اتباعها والأخذ بها واستنباط الأحكام منها، سواء وافقت عمل أهل المدينة أم خالفته، وسواء اتفقت مع الأصول المقررة ومقتضى القياس أم لم تتفق، وسواء عمل بها راويها أو لم يعمل، وسواء كانت في أمر يكثر وقوعه أو يقل؛ لأن أهل المدينة جزء من الأمة لا كلها، والعبرة بما يرويه الراوي لا بما يعمل به؛ إذ ربما يعمل بخلاف ما روى خطأ أو نسيانًا أو تأويلًا. فهو بشر غير معصوم.

وكون الأمر الذي جاءت به السنة كثير الوقوع لا تأثير له في قبول أو رد أخبار الآحاد؛ لأن الحاجة لمعرفة حكم ما يقل وقوعه كالحاجة لمعرفة حكم ما يكثر وقوعه، وكلاهما قد ينقله الآحاد فضلًا عن أن الكثرة أو القلة لا ضابط لها في هذا الباب.

أما التشبث بمخالفة سنة الآحاد للأصول فغير مقنع، لأن السنة هي التي تؤصّل الأصول، فإذا جاءت بحكم يخالف الأصول الثابتة فإنها تعتبر أصلًا قائمًا بنفسه يعمل في دائرته، كما في السلم "بيع السلم" مع أنه بيع معدوم والاستقراء دلَّ على أن المردود من سنة الآحاد الصحيحة السند بحجة المخالفة للأصول إنه في الحقيقة موافق للأصول لا مخالف لها، فحديث المصراة الذي ردّوه بحجة المخالفة للأصول غير مخالف للأصول التي قالوها، فقاعدة الخراج بالضمان لا تعمل هنا؛ لأن اللبن المصَّرى لم يحدث بعد الشراء، وإنما كان قبله، فليس هو من قبيل الغلة التي تحدث عند المشتري حتى يستحقه، وقاعدة الضمان لا تعمل هنا

ص: 266

أيضًا؛ لتعذّر معرفة مقدار اللبن الحادث عند المشتري لاختلاطه باللبن الذي كان قبل الشراء، فلا يمكن الضمان بالمثل، وإنما صار الرد بصاع من تمر؛ لأن التمر أقرب المثليات إلى اللبن بجمع أن كلًّا منهما مكيل ومطعوم ومقتات، فأين المخالفة للقياس والأصول.

أما التشبث بعدم فقه الراوي؛ فقول غير مستساغ، لأن رواة السنة عندهم من الفقه لملازمتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ما يكفي للاطمئنان بصحة نقلهم، وأنه لم يفتهم شيء من معناه؛ فضلًا عن معرفتهم بأساليب العربية وبيانها، وعلى هذا فقول الجمهور في قبول سنة الآحاد هو الراجح، فكل سنة صحت بأن رواها الثقات الضابطون وجب المصير إليها وعدم الالتفات إلى ما خالفها، ومن خالفها كائنًا من كان؛ لأن الله تعبدنا باتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل للوصول إليها إلا عن طريق الرواة، فإذا ثبت عندنا ضبطهم وعدالتهم، أو ترجح ذلك كان دليلًا على صحة نسبتها للرسول صلى الله عليه وسلم إما على سبيل العلم القاطع أو الظن الراجح، وكلاهما يوجبان العمل بها شرعًا.

إذا تبين ذلك وعرفنا أن السنة بقسميها المتواترة والآحاد حجة في العقائد والأحكام نقول: ما هي الأحكام التي جاءت بها السنة؟

الأحكام التي جاءت بها السنة أنواع:

النوع الأول: أحكام موافقة لأحكام القرآن ومؤكدة لها، ومن هذا النوع النهي عن عقوق الوالدين، وعن شهادة الزور، وقتل النفس، فالقرآن نهى عن عقوق الوالدين، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن عقوقهما، القرآن عن شهادة الزور، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها، وهكذا.

ص: 267

النوع الثاني: مبينة لمعاني القرآن ومفصلة لمجمله، ومن ذلك السنة التي بينت مناسك الحج، ونصاب الزكاة ومقدارها، ومقدار ما يقطع فيه السارق، ونحو ذلك مما سبقت الإشارة إليه.

النوع الثالث: قد تأتي السنة بأحكام مقيدة لمطلق القرآن أو مخصصة لعامه.

النوع الرابع: حُكم سكت عنه القرآن وجاءت به السنة؛ لأن السنة مستقلة بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن في هذا الباب يدل على ذلك قول النبي، صلى الله عليه وسلم:((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)) أي: أوتيت القرآن وأوتيت مثله من السنة التي لم ينطق بها القرآن، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:((ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله)).

ومن الأنواع التي بين النبي عليه الصلاة والسلام ولم تأت في القرآن تحريم الحمر الأهلية، وتحريم أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، والحكم بشاهد ويمين، وجواز الرهن في الحضر، ووجوب الدية على العاقلة، وميراث الجدة ونحو ذلك.

ما هي دلالة السنة على الأحكام؟ عرفنا أن السنة من حيث ورودها قد تكون قطعية وقد تكون ظنية أما من جهة دلالتها على الأحكام؛ فقد تكون ظنية أو قطعية، فهي كالقرآن من هذه الجهة من حيث الدلالة على الأحكام، فتكون الدلالة ظنية إذا كان اللفظ يحتمل أكثر من معنى أي: يحتمل التأويل، فإذا لم يحتمل التأويل تكون الدلالة قطعية، فمن القطعية قوله صلى الله عليه وسلم:((في خمس من الإبل شاة)). فلفظ خمس يدل دلالة قطعية على معناه، ولا يحتمل غيره، فيثبت الحكم لمدلول هذا اللفظ، وهو وجوب إخراج شاة زكاة عن هذا المال.

ومن الظنية قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)) فهذا حديث يحتمل التأويل، فيجوز أن يحمل على أن الصلاة لا تكون صحيحة مجزية إلا بفاتحة

ص: 268

الكتاب، ويحتمل أن يكون المراد أن الصلاة الكاملة لا تكون إلا بفاتحة الكتاب ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)) يحتمل نفي الصحة ونفي الكمال، وبالتأويل الأول نفي الصحة أخذ الجمهور، وبالتأويل الثاني نفي الكمال أخذ الأحناف، وقالوا بعدم وجوب قراءة "الفاتحة"، وتمسكوا بعموم قوله سبحانه وتعالى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (المزمل: 20).

لذلك كله وغيره تلقت الأمة السنة بالقبول، وأجمعت على أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع، وأنه لا غنى أبدًا للمسلمين عن السنة ولو بالقرآن، وأخبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الصحابة والتابعين في ذلك كثيرة جدًّا، ومن ذلك قول خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه:"لست تاركًا شيئًا مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمله أن أزيغ" يعني: مخافة أن أزيغ وأضل.

ولذلك لما امتنع نفر من المسلمين عن أداء الزكاة إلى أبي بكر متأولين قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (التوبة: 103) لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكل الأمر على نفر من المسلمين فامتنعوا عن أداء الزكاة قائلين: أمر الله رسوله بأخذها، وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحق لأحد أن يأخذها بعده، فهمَّ أبو بكر رضي الله عنهم بقتالهم، فقال عمر مراجعًا فيما هم به من قتالهم كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله))؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها".

ص: 269

ومن ذلك قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الذي طار في الآفاق واشتهر عند الجميع؛ عند العامة فضلًا عن الخاصة، حين أراد أن يُقبّل الحجر الأسود، قال:"والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك". وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قعد على المقاعد -يعني: مقاعد الوضوء- فتوضأ ثم دعا بطعام ممن مسته النار فأكل منه، ثم قام إلى الصلاة فصلى ثم قال:"قعدت مقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلت طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصليت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وعن علي رضي الله عنه قال: كنت أرى باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر القدمين.

وعنه رضي الله عنه أنه قال في القيام للجنازة: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمنا وقعد فقعدنا، يعني: أن الأمر بالقيام للجنازة عند مرورها منسوخ، وقد قمنا حين قام، وقعدنا لما قعد.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 270