الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاصية الإنسانية
من خصائص الإسلام العامة الإنسانية، فالإسلام يمتاز بنزعته الإنسانية الواضحة الثابتة الأصيلة، في معتقداته وعباداته وتشريعاته وتوجيهاته، إنه دين الإسلام، والدليل على ذلك هو هذا القرآن المصدَر الأول للإسلام، إذا نظرنا إلى المصدر الأول للإسلام وهو القرآن الكريم كتاب الله رب العالمين، وتدبرنا آياته، وتأملنا موضوعاته واهتماماته نستطيع أن نصفه بأن كتاب الإنسان؛ فالقرآن كله إما حديث إلى الإنسان أو حديث عن الإنسان، إن كلمة الإنسان تكررت في القرآن الكريم ثلاثًا وستين مرة، فضلًا عن ذكر الإنسان بألفاظ أخرى مثل بني آدم، التي ذُكرت ستّ مرات، وكلمة الناس التي تكررت مائتين وأربعين مرة في القرآن كله مكيّه ومدنيّه، ولعل من أبرز الدلائل على ذلك أن أول ما نزل من آيات القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس آيات من سورة العلق ذُكرت كلمة الإنسان في اثنتين منها، ومضمونها كلها العناية بأمر الإسلام.
استمع أخي الداعي إلى هذه الآيات: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} (العلق: 1 - 6) إن هذه الآيات الكريمة التي تُكتب في أقل من سطرين، والتي بدأ بها الوحي الإلهي تاريخًا جديدًا للبشرية، إن هذه الآيات تُعبّر أوضح التعبير عن نظرة الإسلام إلى الإنسان وعلاقته بالله تعالى وعلاقة الله تعالى به، إنها خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل إنسان يفهم الخطاب من بعده، الإنسان في هذه الآيات مأمورٌ أن يقرأ، والقراءة هنا رمزٌ لكل عمل نافع يقوم به الإنسان، وإنما خصّ
القراءة بالذكر لأنها نقطة الانطلاق للإنسان ومفتاح رقيه، ولأن العمل في الإسلام يجب أن يقوم على العلم، والعلم مفتاحه القراءة، وأمر الإنسان بالقراءة معناه: قدرته على أن يفعل، وقدرته على أن يترك أيضًا، وهذا يعني إثبات مسئولية الإنسان ودور إرادته، فالآلة الصماء لا تؤمر ولا تنهى.
ولم يؤمر الإنسان هنا بمجرد القراءة، بل أمر بقراءة مقيدة باسم ربه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} الخالق، والقرآن هنا حريص على التعبير عن ذات الله -سبحانه تعالى- في هذا المقام باسم الرب مضافًا إلى ضمير المخاطب وهو الإنسان، وذلك لما يوحي به اسم الرب من معاني التربية والرعاية والترقية في مدارج الكمال، وما توحي به الإضافة والخطاب من القرب والاختصاص والتكريم، وقد تكرر اسم الرب هكذا مرتين مع وصفه مرة بالخالقية ومرة بالأكرمية:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} فعلاقة الإنسان ليست بمجرد رب ولا برب كريم فقط، بل برب أكرم بل بالرب الأكرم على الإطلاق؛ لأنه سبحانه يعطي بغير حساب وبغير عوض ولا مقابل.
وذكر القرآن الكريم من دلائل أكرمية رب العالمين أنه سبحانه الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، فالله تعالى بالنسبة للإنسان مُعلم، والإنسان مُتعلِّم ما لم يكن يعلم، هذه ميزته استعدادٌ للتعلم بالقراءة والكتابة بالقلم، كما قال الله تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} (النحل: 78) هذه هي أولى الآيات نزولًا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو أول نص نزل به الوحي الإلهي على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو نص فريد ورائع حقًّا، حرص على تأكيد أمور معينة من أول لحظة:
من هذه الأمور: أن الإنسان مخلوق مكلف.
ثانيًا: العناية بشأن الإنسان حيث ذُكر في أول الآيات نزولًا مرتين.
ثالثًا: أول ما أُمر به الإنسان القراءة التي هي مفتاح التعلم.
رابعًا: تعظيم شأن القراءة؛ حيث أُمر بها مرتين.
خامسًا: أول أداة ذكرها الوحي هي القلم.
سادسًا: أول ما وصف الله به نفسه في أول الآيات نزولًا الرب الخالق الأكرم المعلم.
سابعًا: أول ما وصف به الله الإنسان القدرة على التعلم، ثم إن القرآن الكريم قد بيّن للإنسان حقيقته وجلّاها له حتى لا يزهو ويتكبّر ويفتخر، وحتى لا يزدري نفسه ويحتقرها، فذكر الله تبارك وتعالى الإنسان في القرآن الكريم بأصل نشأته، قال سبحانه:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (السجدة: 7 - 9)، وقال الله تبارك وتعالى عن الإنسان الأول:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر: 28، 29) وهكذا لفت القرآن الكريم نظر الإنسان إلى حقارة ذلك الماء الذي خلقه الله منه في رحم أمه من ماء مهين، {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِق * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِق * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِب} (الطارق: 6، 7) {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِين} (يس: 77) فذكر الله تبارك وتعالى الإنسان بأصله وأن أصله ماء مهين نطفة قذرة، ذكر الله تعالى الإنسان بأصله ليهذّب كبرياءه فيجعله متواضعًا واقعيًّا في حياته، كما قال بعضهم: من كان أوله نطفة قذرة وآخره جيفة نتنة وهو بين ذلك يمشي وبين جنبيه الأقذار كيف يتكبر؟!
فذكر الله تبارك وتعالى الإنسان بأصل خلقه من ماء مهين من ماء دافق؛ ليندِّد بغطرسة الإنسان ويهذّب كبرياءه فيجعله متواضعًا واقعيًّا في حياته، ثم بيَّن له عناية الله عز وجل به في ظلمات الرحم، حينما أنشأه جنينًا وربَّاه في بطن أمه حتى أتم خلقه {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُون} (الزُّمَر: 6)، ويقول سبحانه مبينًا الأطوار التي يمرّ بها الإنسان في بطن أمه حتى يخرج بشرًا سويًّا في أحسن صورة يقول سبحانه:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 12 - 14) ذكر الله تبارك وتعالى الإنسان برحمته به وتربيته له في بطن أمه؛ ليثير عنده عاطفة العرفان بالجميل والشكر للخالق والخشوع لله، فكان من نتيجة هذه التربية القرآنية دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم في السجود:((سجد وجهي للذي خلقه وصوّره وشق سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين، اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين)).
وفي مقابل ذلك كله بيّن الإسلام للنوع البشري أنه ليس من الذلة والمهانة والابتذال في درجةٍ يتساوى فيها مع الحيوان والجماد وسائر المخلوقات، فقال الله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: 70)، وقال سبحانه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} (الحج: 65)، وقال سبحانه:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (الجاثية: 13) فقد رزق الله تعالى الإنسان قدرة جعله بها يسيطر على ما حوله من الكائنات وسخرها له، ومنعه من أن يذلّ نفسه لشيء
منها، وجعله آمنًا من كل المخاوف إزاء كل هذه الكائنات، بل أشعره بأنها طوع يده سخرها الله تعالى لمصلحته، وهذه خطوة تربوية ربانية ينشِّئ بها القرآن الكريم الإنسان على الشعور بالكرامة وعزّة النفس، ويشعره في الوقت ذاته بفضل الله عز وجل، فإذا ركب شيئًا مما سخر الله له كالطائرة والسيارة والبهائم الحيوانية؛ ذكر الله تبارك وتعالى مسبّحًا شاكرًا بقوله:{سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} (الزخرف: 13، 14).
ومما كرّم الله تعالى به الإنسان أن جعله قادرًا على التمييز بين الخير والشر، فألهم الله تعالى النفس الإنسانية فجورها وتقواها، وغرس في جبلّتها الاستعداد للخير والشر، وجعل عند الإنسان إرادة يستطيع بها أن يختار بين الطرق المودّية للخير والسعادة أو الطرق الموصلة إلى الشقاء، وبيَّن له أن هدفه في هذه الحياة أن يترفّع بنفسه عن سبل الشر وأن يزكّي نفسه، أن ينمّيها ويطهّرها ويسمو بها في وقت معًا نحو الفضيلة والاتصال بالله عز وجل قال الله تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: 7 - 10).
وأخبر الله تبارك وتعالى الإنسان بما جُبل إليه من دنايا الأخلاق وقبيح الصفات، ثم أرشده إلى وسائل التزكية التي بها يزكو ويطهر فيصلح لمجاورة الرب سبحانه وتعالى في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، قال الله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (المعارج: 19 - 21)، فلما أخبر الإنسان بما جُبل عليه من دنايا الأخلاق وقبيح الصفات أرشده إلى وسائل التزكية فقال: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} (المعارج: 22 - 35).
فالجنة هي مأوي ومنزل الإنسان إذا زكّى نفسه وطهرها، أما من دسَّاها فقد خاب وخسر، ولذلك لعن الله عز وجل قومًا دعاهم غرورهم إلى أن يكذبوا بهذه الحقيقة فزعموا أن النفس الإنسانية لا تطغى قال تعالى:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} (الشمس: 11 - 13) ذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء، لكن القوم كذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقبها، فكان جزاء طغيانهم أن سوى الله بهم وبمدينتهم الأرض؛ لأنهم اختاروا طريق الشر ومعصية الله ورسوله قال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} (طه: 74 - 76).
ومما كرم الله به الإنسان وفضله أن وهبه القدرة على التعلم والمعرفة، وزوّده بكل أدوات هذه القدرة، كما قال في الآيات التي سبقت في أول سورة العلق:{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 3 - 5) بل إن الله سبحانه وتعالى علم آدم وهو في السماء قبل أن ينزل الأرض، وأظهر شرفه للملائكة بالعلم قال تعالى:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (البقرة: 31 - 33).
وزوَّد الله تبارك وتعالى الإنسان بكل الحواس التي يستطيع بها أن يتعلم ما أمره الله به أن يتعلمه فقال عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78) فالسمع معناه إحراز المعرفة التي اكتسبها الآخرون، والبصر معناه تنميتها بما يُضاف إليها من ثمرات الملاحظة والبحث، والفؤاد معناه تنقيتها من أدرانها وأوشابها ثم استخلاص النتائج منها، وهذه القوى الثلاث إذا تضافرت بعضها على بعض نتجت عنها المعرفة التي منَّ الله بها على بني آدم، والتي بها وحدها استطاع الإنسان أن يهزم سائر المخلوقات ويسخرها لإرادته، ولقد عاب الله تبارك وتعالى أقوامًا لم ينتفعوا بهذه الحواس التي وهبهم الله تبارك وتعالى إيَّاها، وتوعدهم على إهمالها بالنار فقال عز وجل:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179).
من أهم أهداف التعلم عند الإنسان والفكر: أن يتعلم الإنسان شريعة الله عز وجل كما قال الله تعالى حكاية عن الأبوين إبراهيم وإسماعيل أنهما دعوا الله ربهما: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيم} (البقرة: 129)، كما أن من أهم الأهداف التي وُهِب الإنسان من أجلها هذه الحواسّ أن يتفكّر في نفسه وفي الكون من حوله، فإن الله تبارك وتعالى أمر بذلك فقال:{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 20 - 21)، وقال سبحانه:{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (الغاشية: 20).
ولم يكتفِ الإنسان بتكريم الإنسان وتفضيله وتمييزه على الكائنات، بل حمَّله مقابل ذلك مسئولية عظيمة، وكلفه بتكاليف كثيرة، رتَّب عليها الجزاء الوفاق؛ حمّله مسئولية تطبيق شريعة الله وتحقيق عبادته، تلك المسئولية التي أبتْ سائر المخلوقات أن تحملها وأشفقت من حملها كما قال تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 72 - 73)، وكما جعل الله تعالى للإنسان حرية وإرادة وقدرة على التمييز بين الخير والشر، كذلك جعله مجزيًّا يوم القيامة بما اختار لنفسه في الدنيا من الخير أو الشر، قال تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 8)، وجعل الله تعالى مسئولًا عن الحواسّ التي وهبه إيَّاها؛ ليتفكر بها في خلق الله عز وجل فقال سبحانه:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36)، هذا الشعور بالمسئولية يُربِّي في نفس الإنسان الوعي واليقظة الدائمة، والبعد عن المزالق وعدم الاستسلام للأهواء والعدالة، والبُعد عن الظلم والبغي، والاستقامة في كل سلوك الإنسان وشئونه.
كذلك قرَّر الرسول صلى الله عليه وسلم مسئولية الإنسان عن ماله وعن عمره وعن شبابه وعن علمه، فقال صلى الله عليه وسلم:((لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)). وجماع المسئوليات مسئولية الإنسان عن عبادة الله عز وجل وتوحيده وإخلاص العبادة له وحده كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا
مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18)، وقال سبحانه:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: 110)، وقال سبحانه:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (الزمر: 66).
فعبادة الله وحده لا شريك له هي مسئولية الإنسان في هذه الحياة، فإن قام بها دخل جنة عالية قطوفها دانية فيها من النعيم ما لا عين رأيت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وإن استكبر عن عبادة الله عز وجل الذي خلقه فسواه دخل نارًا حامية كما قال الله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60)، وقال سبحانه:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (النساء: 172 - 173).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.