الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمون كلهم على صيامه وتهون المشقة باشتراكهم في الصيام، فإن الاشتراك في العبادة له نفع عظيم، ومساعدة جسيمة، ولله في العبادات حكم وأسرار ولطف كبير، ولله الفضل وله الحمد والشكر والثناء الحسن الجميل.
الركن الرابع بعد الصلاة: الحج
الرابع من العبادات: الحج:
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 96، 97)، فالحج ركن من أركان الإسلام وفريضة من فرائضه كما هو مشهور في حديث ابن عمر:((بُني الإسلام على خمس: شهادة إلا إله الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا)).
ومن رحمة الله تبارك وتعالى بعباده المؤمنين أنه لم يوجب عليهم الحج إلا مرة واحدة في العمر واشترط لوجوب الحد الاستطاعة؛ فقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ، فالحج واجب على كل مسلم بالغ عاقل حرٍّ مستطيع، وتتحقق الاستطاعة بأمن الطريق والصحة، وملك النفقة التي تكفيه لذهابه وإيابه؛ شريطة أن تكون فاضلة عن حاجته وحاجة من تلزمه نفقتهم، من امرأة، وولد، وخادم، ونحو ذلك.
ويُشترط في حق المرأة أن تكون مستطيعة أن يصحبها زوج أو محرم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يخلونّ رجل بامرأة إلا
ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني امرأتي خرجت حاجّة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: انطلق فحج مع امرأتك)). فالاستطاعة في حق المرأة مشروطة بالشروط المذكورة في حق الرجل، وتزيد عليه أن يصحبها زوج أو محرم؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم المرأة أن تسافر وحدها.
والمحرم هو: من يحرم على المرأة أبدًا كالأب والابن، والأخ وابن الأخ وابن الأخت، ونحوهم مما حرم الله علي النساء، كما ذكر ذلك في كتابه، ومتى تحقَّقت الاستطاعة في حق المسلم أو المسلمة؛ وجب المبادرة بالحج من العام نفسه؛ فإن الحج في أرجح أقوال العلماء واجب على الفور لا على التراخي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة وتعرض الحاجة))، والله سبحانه يقول:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} (لقمان: 34)، والزمان أكبر شاهد على ضرورة التعجل بالحج؛ ففي كل عام تتغير القوانين وتزيد التكاليف، فالسعيد الموفق من عجل بتبرئة ذمته بأداء فريضة ربه {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} .
هذا؛ وإن للحج فقهًا يُعرف من كتب الفقه إن شاء الله تعالى، لكننا نقول: إن الحج كعبادة الله سبحانه وتعالى فرضها الله على المسلمين المستطيعين كما بينا في هذه العبادة فوائد عظيمة، بيّنها العلامة السعدي رحمه الله فقال: قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الحجّ أحدُ أركان الإسلام ومبانيه العظام، وأن من حج البيت فلم يرفث، ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وكل هذا في الصحيحين.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الحج والعمرة ينفيان الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وورد في فرضه وفضله وثوابه أحاديث كثيرة، وذلك لما فيه من المنافع العامة والخاصة، وقد بيَّن ربنا سبحانه وتعالى مجمل حكمه ومنافعه حيث قال:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (الحج: 27، 28) أي: منافع دينية واجتماعية ودنيوية، وقال الله تعالى:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} (المائدة: 97)، فإن به تقوم أحوال المسلمين، ويقوم دينهم ودنياهم، فلولا وجود البيت الحرام في الأرض وعمارته بالحج والعمرة والتعبدات الأخرى؛ لآذن هذا العالم بالخراب.
ولهذا كان من أمارات الساعة واقترابها هدم البيت الحرام بعد عمارته وتركه بعد زيارته؛ فإن الحج مبني على المحبة والتوحيد الذي هو أصل الأصول كلها، فإن حقيقته استزارت المحبوب لأحبابه، وإيفادهم إليه؛ ليحظوا بالوصول إلى بيته، ويتمتعوا بالتذلل له والانكسار له في مواضع النسك، ويسألوه جميع ما يحتاجونه من أمور دينهم ودنياهم؛ فيجزل لهم من قراه ما لا يصفه الواصفون، وبذلك تتحقق محبتهم لله، ويظهر صدقهم بإنفاق نفائس أموالهم، وبذل مُهَجهم في الوصول إليه.
فإن أفضل ما بذلت في الأموال، وأتعبت فيه الأبدان، وأعظمه فائدة وعائدة ما كان في هذا السبيل، وما تُوسّل به إلى هذا العمل الجليل، ومع ذلك فقد وعدهم بإخلاف النفقات، والحصول على الثواب الجزيل والعواقب الحميدة.
ومن فوائد الحج: أن فيه تذكرة لحال الأنبياء والمرسلين، ومقامات الأصفياء المخلصين، كما قال تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125)،
والصحيح في تفسيرها أن هذا عام في جميع مقاماته في الحج من الطواف وركعتيه، والسعي والوقوف بالمشاعر، ورمي الجمار، والهدي، وتوابع ذلك. ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول في كل مشعر من مشعر الحج:((خذوا عني مناسككم)).
فهو تذكير بحال إبراهيم الخليل والمصطفين من أهل بيته، وتذكير بحال سيد المرسلين وإمامهم ومقاماته في الحج التي هي أجل المقامات، وهذا التذكير أعلى أنواع التذكيرات؛ فإنه تذكير بأحوال عظماء الرسل إبراهيم، ومحمد صلى الله عليه وسلم ومآثرهم الجليلة، وتعبداتهم الجميلة. والمتذكر بذلك مؤمن بالرسل معظم لهم، متأثر بمقاماتهم السامية، مقتضيًا بآثارهم الحميدة، ذاكرٌ لمناقبهم وفضائلهم فيزداد به العبد إيمانًا ويقينًا.
كما أن الحج شُرع لما فيه من ذكر الله الذي به تطمئن القلوب، ويصل به العبد إلى أكمل مطلوب.
ومن فوائد الحج: أن المسلمين يجتمعون في وقت واحد، وموضع واحد على عمل واحد، ويتصل بعضهم ببعض، ويتم التعاون والتعارف، ويكون وسيلة للسعي في التعرف المصالح المشتركة بين المسلمين والسعي في تحصيلها بحسب القدرة والإمكان، وبذلك تتحقق الوحدة الدينية، والأخوة الإيمانية، ويرتبط أقصى المسلمين بأدناهم، فيتفاهمون، ويتعارفون، ويتشاورون في كل ما يعود بنفعهم، وبذلك يكتسب العبد من الأصدقاء والأحباب ما هو أعظم المكاسب، ويستفيد بعضهم من بعض.
وأما توابع ذلك من المصالح الدنيوية بالتجارات والمكاسب الحاصلة في مواسم الحج، ومواضع النسك، فإنها تفوق العدّ، وكل هذا داخل في قول ربنا:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (الحج: 28). إنه لموسم عظيم لا يشبه شيء من مواسم
الأقطار، كم أُنفقت فيه نفائس الأموال، وكم أتعبت في السعي إليه الأبدان، وكم حصل فيه شيء كثير من أصناف التعبدات، وكم أريقت في تلك المواضع العبرات، وكم أقيلت في العثرات، وغفرت الذنوب والسيئات، وكم فرجت فيه الكربات، وقضيت الحاجات، وكم ضجّ المسلمون فيه بالدعوات المستجابات، وكم تمتع فيه المحبون بالافتقار إلى رب السموات، وكم أسبغ الباري فيه عليهم من ألطاف ومواهب وكرامات، وكم عاد المسرفون على أنفسهم كيوم ولدتهم الأمهات، وكم حصل فيه من تعارف نافع واستفاد منه العبد من صديق صادق، وكم تبادلت فيه الآراء والمنافع المتنوعة، وكمّ تم للعبد فيه من مآب ومطالب متعددة، ولله الحمد والمنّة.
هذه هي أصول العبادات الصلاة والصيام والزكاة والحج هذه الشرائع المتقدم ذكرها، قد تبين أنها من أعظم الضرورات، وأنه لا غنى للخلق عنها للفوائد الجلية المترتبة عليها، والأضرار الكثيرة الناشئة عن فقدها، وأنها أعظم منن الله على عباده، وأعظم محاسن الدين الإسلامي، وأن كل دين خلا منها، وكل طريق فقدت منه؛ فإنه شر محض، وضرر صرف، وأنه إذا وجد خير في شخص أو طائفة من الناس؛ فانظر وتأمّل تجد بلا شك أصله ومنبعه مأخوذ من الدين الإسلامي، وإن غُيّرت صبغته، وسمي بغير اسمه، كما أنك لا تجد شرًّا ولا ضررًا إلا وجدت منبعه بمخالفة الدين الإسلامي، لا يشذّ عن هذا شيء، فالخير حيث كان الدين، والشر حيث فُقد الدين، والحمد لله الذي من علينا الإسلام، وشرح صدورنا له، وحبب إلينا الإيمان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.