الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السادس عشر
(علاقة الإسلام بالدعوات السابقة)
الإسلام هو الدين القيم الذي فطر الله الناس عليه
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فطر الله الإنسان على التدين، وركز في وجدانه الإيمان بأن هناك خالقًا لهذا الكون مدبرًا له:{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (الروم: 30) والدين صنو الإنسان في الوجود على هذه الأرض التي خلقها الله من أجل الإنسان، والإيمان بالله سبحانه وتعالى عهد وميثاق أخذه الله تعالى على بني آدم في عالم الذر، وقال عن هذا العهد والميثاق:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (الأعراف: 172، 173).
والحقيقة التي أجمع عليها مؤرخو الأديان هي أنه ليست هناك جماعة إنسانية بل وأمة كبيرة ظهرت وعاشت ثم مضت دون أن تفكر في مبدأ الإنسان ومصيره، وفي تعليل ظواهر الكون وأحداثه، ودون أن تتخذ لها في هذه المسائل رأيًا معينًا حق ًّ اأو باطلًا يقينًا أوظن ًّ اتصور به القوة التي تخضع لها هذه الظواهر في نشأتها، والمآل التي تصير إليه الكائنات بعد تحولها، وسواء اعترفت هذه المذاهب بالآلهة أم لم تعترف فالنتيجة واحدة، لكن المسألة إنما هي في صحة تسمية أمثال هذه المذاهب أديانًا.
وقد ورد لفظ الدين في اللغة وأطلق على معان ٍ عدة منها الطاعة والحساب والجزاء والقضاء والحكم والحال والعادة إلى غير ذلك، إلا أن الدين الذي يتعب ّ د به الله سبحانه وتعالى فهو لا يكون إلا وحيًا من الله إلى أنبيائه الذين يختارهم من عباده، ويرسلهم أئمة يهدون بأمر الله تعالى، قال تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم:
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (النساء: 163)، وقال سبحانه:{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الشورى: 3)، وقال سبحانه:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (الشورى: 13)، قال الرازي في تفسير هذه الآية: المراد شرع لكم من الدين دينًا تطابقت الأنبياء على صحته.
وقد بي َّ ن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدين القيم الذي فطر الله تعالى الناس عليه هو دين الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام:((ما من مولود إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أوينصرانه، أويمجسانه)). ولم يقل أويسلمانه؛ لأنه يولد مسلمًا، قال القرطبي رحمه الله: وهذا قول عامة السلف أن دين الفطرة هو دين الإسلام.
كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن العهد والميثاق الذي أخذه الله تعالى من بني آدم هو أن يعبدوه لا يشركوا به أحدًا، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابًا لو كانت لك الدنيا كلها أكنت مفتديًا بها، فيقول: نعم، فيقول الله تعالى: قد أردتُ منك أيسر من هذا وأنت في صلب أبيك آدم، ألا تشرك بي شيئًا ولا أدخلك النار وأدخلك الجنة، فأبيت إلا الشرك)).
وقد نزل آدم عليه السلام إلى الأرض وكان نبي ًّ امكلمًا وأعلمه الله سبحانه وتعالى من أول ساعة نزل فيها أنه سيأتيهم الهدى من الله عز وجل فمن اتبع هذا الهدى فاز ونجا، ومن أعرض عنه خاب وخسر قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا * وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ
لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه: 123 - 127).
وكان آدم عليه السلام نبي ًّ امكلمًا، فعاش مسلمًا وتبعه أبناؤه على الإسلام لله عز وجل ّ- وإفراد الله بالعبادة، وظلوا على ذلك طيلة عشرة قرون، ثم اجتالت الشياطين أكثر الناس فأخرجتهم من نور التوحيد إلى ظلمات الشرك، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي:((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين؛ فاجتالتهم عن دينهم))، وكان السبب في وقوع أكثر الناس في الشرك بالله وخروجهم عن الإسلام والتوحيد لله عز وجل الغلو في الصالحين؛ فقد مات جماعة من الصالحين في أوقات متقاربة فحزن الناس عليهم، فاتخذوا لهم صورًا يذكرونهم بها، فلما طال العهد عبد الناس تلك الصور.
كما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، التي قال الله تعالى فيها:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح: 23) قال ابن عباس في هذه الأسماء: أسماء رجال صالحين من قوم نوح؛ فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتن اسخ العلم ع ُ بدت.
ولما كان الله تبارك وتعالى يحب العذر، فقد أرسل رسله مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل قال الله تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213). قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الناس أمة
واحدة على الإسلام والتوحيد عشرة قرون، فاختلفوا ووقع أكثرهم في الشرك، فبعث الله النبيين مبشرين لمن ثبت على الإسلام والتوحيد، ومنذرين لمن خرج عن الإسلام إلى الكفر وعن التوحيد إلى الشرك.
وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض نوح عليه السلام قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (نوح: 1 - 4) وهكذا دعا نوح قومه إلى إفراد الله بالعبادة وإخلاص الدين له وترك ما يعبدون من دونه، وصرح عليه السلام بأنه مأمور أن يكون من المسلمين السابقين الأولين من عهد آدم عليه السلام قال الله تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْم إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس: 71، 72) هكذا صرح نوح عليه السلام بأنه مأمور من رب العالمين عز وجل أن يكون من المسلمين إشارة إلى السابقين الأولين من آدم عليه السلام ومن بعده من ذريته حتى اختلفوا.
فالإسلام هو دين الله عز وجل الذي ارتضاه لعباده وفطرهم عليه، وقد صرح كل الأنبياء ع13:01 بعد نوح عليه السلام بما صرح به قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ
أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 127 - 133).
وقال تعالى: عن يوسف عليه السلام أنه قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101)، وقال تعالى: عن لوط وأهله لما جاء قومه العذاب: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (الذاريات: 35، 36)، وقال تعالى:{قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْم إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} (يونس: 71)، {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} (يونس: 84، 85) فدللوا على إسلامهم وقال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} (المائدة: 44).
وقال تعالى في قصة سليمان بن داود عليهما السلام مع ملكة سبأ، وقد أرسل إليها كتابًا يدعوها فيه إلى الدخول في دين الله وهو دين الإسلام:{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (النمل: 29 - 31)، فلما أرسلت إليه بهديتها:{قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (النمل: 36 - 38)، وقال عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا
قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (النمل: 42 - 44).
وقال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 52).
ولذلك قال الله تعالى عن نصارى الحبشة: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (القصص: 51 - 53)، فلما بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم أمره باتباع ملة أبيه إبراهيم والاهتداء بهدي إخوانه المرسلين فقال عز وجل:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل: 123)، وسمى سبحانه وتعالى مجموعة من الرسل في سورة الأنعام، ثم قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (الأنعام: 90)، وقال تعالى:{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الشورى: 3)، وقال تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (النساء: 163)، وقال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (الشورى: 13).
ولذلك أمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 9) وأمره أن يصرح بأن دينه هو الإسلام فقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (النمل: 91)، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا أصبح يقول:((أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين)).
فالدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده وبعث به رسله هو الإسلام، هو دين جميع الأنبياء والمرسلين، وليس محمد ٌ صلى الله عليه وسلم أول رسول يدعو إلى الإسلام وإنما هو خاتم الرسل الذين بعثوا بالإسلام كما قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (الأحزاب: 40)، فدين الرسل واحد وهو الإسلام كما قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19)، وقال:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3)، وقال:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85).
وجوهر الإسلام هو التوحيد المستلزم لإفراد الله تعالى بالعبادة كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25)، وقال سبحانه:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل: 1، 2).
وصرح ربنا سبحانه وتعالى بأن كل نبي بعثه دعا إلى توحيد الله عز وجل قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} (هود: 25، 26)، وقال تعالى:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 65)، وقال تعالى:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (هود: 61)، وقال تعالى:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 85)، وقال سبحانه:{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 16).
وكثر في القرآن الكريم أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم بدعوة قومه إلى ما دعا إليه الأنبياء أقوامهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (النساء: 36)، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (الإسراء: 23)، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (الأنعام: 151)، {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (النحل: 51)، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: 110).
فدين الرسل واحد وهو الإسلام وجوهره التوحيد وهو إفراد الله تعالى بالعبادة، ونبذ كل ما ي ُ عبد من دونه سبحانه وتعالى ولذلك قال يوسف عليه السلام لصاحبيه في السجن:{إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 37 - 40).
فإفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة هو جوهر الدين الذي بعث الله به الرسل، ولذلك اتفقت الرسل كلهم على أصول العبادة من الصلاة والصيام والزكاة والحج، فقد حكى الله تعالى عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه قال:{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (إبراهيم: 40، 41). وقال عن إسماعيل عليه السلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (مريم: 54، 55).
وقال الله تعالى لموسى عليه السلام في أول ما أوحى إليه: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه: 13، 14)، ومما نطق به عيسى ابن مريم عليه السلام وهو في المهد صبي ًّ ا:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (مريم: 30، 31)، وقال تعالى لمريم أم عيسى:{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آل عمران: 43)، وقال الله تبارك وتعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: 83)، وقال:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (البقرة: 40)، ثم قال لهم:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة: 43).
وقال سبحانه وتعالى عن السابقين: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة: 5) وقال تعالى لنا نحن المسلمين أتباع محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183)، وقال لإبراهيم عليه السلام:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} (الحج: 27)، وقال:{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (البقرة: 125)، وقال سبحانه وتعالى عن الأنبياء السابقين:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: 73).
فالدين القيم الذي فطر الله الناس عليه هو الإسلام، وأساسه التوحيد وإفراد الله بالعبادة، وترك ما يعبد من دونه، وأصول العبادة هي الصلاة والصيام والزكاة
والحج اتفق عليها جميع الأنبياء. أما الشرائع وهي مجموعة الأحكام الت ي ك ُ ل ّ فت بها الرسل وأقوامهم فهي مختلفة، كما قال الله سبحانه وتعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48).
قال الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة: 48). قال الطبري في تفسير هذه الآية: ثم ذكر نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه أنزل إليه الكتاب مصدقًا لما بين يديه من الكتاب وأمره بالعمل بما فيه، والحكم بما أنزل إليه فيه دونما في سائر الكتب غيره، وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعة غير شريعة الأنبياء والأمم قبله، الذين قص ّ عليه قصصهم، وإن كان دينه ودينهم في توحيد الله والإقرار بما جاءهم به من عنده والانتهاء إلى أمره ونهيه واحدًا، فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكل واحد منهم ولأمته فيما أحل لهم وحرم عليهم.
عن قتادة في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} قال: سبيل ً اوسنة والسنن مختلفة للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، ي ُ حل ّ الله فيها ما يشاء وي ُ حر ّ م ما يشاء بلاء ً؛ ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل، وقال الزمخشري في قول الله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (الأنعام: 90): المراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع، فإنها مختلفة وهي هدى ما لم تنسخ، فإذا نسخت لم تبق هدى بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبدًا.