المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (خصائص الإسلام)   ‌ ‌خاصية العالمية إن الحمد لله نحمده - أصول الدعوة - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 بعض الآفات التي تصيب بعض الدعاة

- ‌العجلة

- ‌ضعف اليقين

- ‌التقصير في عمل اليوم والليلة

- ‌الدرس: 2 أصول العقيدة (1)

- ‌علاقة الدعوة بأصول الإسلام

- ‌تعريف العقيدة وأصولها الستة

- ‌الركن الأول: الإيمان بالله

- ‌الركن الثاني: الإيمان بالملائكة

- ‌الركن الثالث: الإيمان بالنبيين والكتب المنزلة على المرسلين

- ‌الدرس: 3 أصول العقيدة (2)

- ‌الركن الرابع: الإيمان بالكتب

- ‌الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر

- ‌الركن السادس: الإيمان بالقدر

- ‌الدرس: 4 العبادة

- ‌الركن الأعظم بعد الشهادتين: الصلاة

- ‌الركن الثاني بعد الصلاة: الزكاة

- ‌الركن الثالث بعد الصلاة: الصيام

- ‌الركن الرابع بعد الصلاة: الحج

- ‌الدرس: 5 الأخلاق

- ‌علاقة الأخلاق بالعقيدة

- ‌علاقة الأخلاق بالعبادة

- ‌تعريف الأخلاق وأهميتها

- ‌مكانة الأخلاق في الإسلام

- ‌خصائص الأخلاق في الإسلام

- ‌الدرس: 6 خصائص الإسلام

- ‌خاصية العالمية

- ‌خاصية الإنسانية

- ‌الدرس: 7 المبادئ العشرة لعلم أصول الدعوة

- ‌معنى أصول الدعوة، وموضوعه، وحكم تعلمه

- ‌موضوع علم أصول الدعوة

- ‌فضائل علم أصول الدعوة

- ‌نشأة علم أصول الدعوة، والمراحل التي مر بها

- ‌روافد علم أصول الدعوة، ونسبته، وثمرته، ومسائله، ومصادره

- ‌الدرس: 8 التصور الإسلامي للمعرفة بأنواعها المختلفة

- ‌الفرق بين العلم والمعرفة

- ‌الحس في الفكر الإسلامي

- ‌العلاقة بين العقل والنقل

- ‌الدرس: 9 دعوة المسلمين

- ‌أصناف المدعوِّين

- ‌الأصول الشرعية في دعوة الكفار والمنافقين

- ‌الأصول الشرعية في دعوة المسلمين

- ‌الدرس: 10 أهم الصفات التي يجب علي الداعية أن يتصف بها

- ‌الإيمان

- ‌الاجتهاد في الطاعات والتقرب بها إلى الله

- ‌التجرد والزهد

- ‌أن يكون في نفسه قدوة حسنة

- ‌أن يكون قوي الحجة مستظهرًا للأدلة

- ‌العلم

- ‌الدرس: 11 المدعوون

- ‌من هو المدعو

- ‌دعوة القرآن المشركين للإيمان

- ‌دعوة القرآن اليهودَ للإيمان

- ‌دعوة القرآن النصارى للإيمان

- ‌دعوة القرآن المنافقين للإيمان

- ‌الدرس: 12 المصادر التي يعتمد عليها الداعية في دعوته المصدر الأول: القرآن الكريم

- ‌التعريف بالمصدر الأول: القرآن الكريم

- ‌بيان القرآن الكريم للأحكام الشرعية

- ‌أهمية القرآن الكريم في حياة الداعية والمجتمع

- ‌الدرس: 13 المصدر الثاني: السنة

- ‌التعريف بالسنة وأهميتها في التشريع

- ‌أقسام السنة من حيث ورودها إلينا

- ‌الدرس: 14 الثقافة التي يحتاج إليها الداعية

- ‌الثقافة الدينية

- ‌معرفة علوم القرآن

- ‌الثقافة التاريخية

- ‌الثقافة الأدبية والواقعية

- ‌الدرس: 15 ركائز الدعوة في الإسلام

- ‌التصور الإسلامي للكون والحياة

- ‌التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع

- ‌الدرس: 16 علاقة الإسلام بالدعوات السابقة

- ‌الإسلام هو الدين القيم الذي فطر الله الناس عليه

- ‌حكمة اختلاف الشرائع من أمة لأمة

- ‌الدرس: 17 الأخلاق ومكانتها في الإسلام - أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (1)

- ‌الأخلاق ومكانتها في الإسلام

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الإخلاص

- ‌من أهم الأخلاق التي تلزم الداعية: الشجاعة

- ‌الدرس: 18 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (2)

- ‌من أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها: الإيجابية

- ‌من الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها التضحية

- ‌الدرس: 19 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (3)

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الصبر

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الرفق

- ‌الدرس: 20 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (4)

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العدل

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العفو

- ‌الدرس: 21 من خصائص الإسلام: الربانية والوسطية والوضوح

- ‌(من خصائص الإسلام: الربانية

- ‌من خصائص الإسلام: الوسطية

- ‌من خصائص الإسلام: الوضوح

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (خصائص الإسلام)   ‌ ‌خاصية العالمية إن الحمد لله نحمده

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس السادس

(خصائص الإسلام)

‌خاصية العالمية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:

والإسلام كدينٍ ختم الله تبارك وتعالى به الشرائع والنبوات على يدِ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم له خصائص كثيرة ومميزات كثيرة؛ منها كون هذه الرسالة عالمية لا تخصُّ جنسًا دون جنس ولا قومًا دون قوم، ولا أرضًا دون أرض ولا بيئة دون بيئة، فحديثنا اليوم عن خاصية من خصائص الإسلام وهي العالمية.

من المعلوم من الدين بالضرورة أن أركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وآيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا.

أول هذه الأركان الخمسة الركن الأساس الأعظم: شهادة إلا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الإيمان برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الإيمان بعموم رسالته وأنه صلى الله عليه وسلم فُضِّل على الأنبياء بكون رسالته للناس عامة، وكان كل نبي قبله يُبعث لقومه خاصة، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، منها قول ربنا سبحانه وتعالى:{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (التكوير: 26 - 28)، وقوله سبحانه:{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (القلم: 51، 52)، وقال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28)، وقال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان: 1)، وقال سبحانه:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (يوسف: 103، 104): {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ

ص: 111

بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام: 19) وقال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (الأنعام: 90).

فهذه الآيات كلها بيَّنت أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم رسالة عامة للعالمين، لا تختصّ بقومٍ دون قوم ولا بجنسٍ دون جنس، بل هي للعالمين كافة، ومن الجدير بالذكر أن هذه الآيات التي تحدَّثت عن عالمية رسالة النبي صلى الله عليه وسلم كلها مكية، أي: نزلت في أول الوحي وفي أول الرسالة، وبيَّنت أن محمدًا مبعوث من الله تبارك وتعالى ومرسل إلى الناس كافة، وأنه لن يجيء الناس بعد رسول الله محمد رسول ولن ينزل عليهم بعد القرآن كتابٌ من السماء، فالله تبارك وتعالى ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالقارات الخمس إلى قيام الساعة لن يطرقها من السماء طارق ولن يجيئها من عند الله رسول، وسيبقى كتاب محمد صلى الله عليه وسلم وحده صوت السماء بين الناس، إلى أن يُحشروا للحساب فيقال لهم:{لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُون} (الروم: 56)، وآية صدق ذلك أنه قد مضت على بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر قرنًا وما نزل من السماء وحي ولا بُعث في الناس رسول، فهذه آيات من آيات صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن رسالته عامة وأنه خاتم النبيين.

وإنما لفتنا النظر إلى أن الآيات التي قرأناها آنفًا في الاستدلال بها على عالمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لفتنا النظر إلى أنها كلها مكية؛ لندحض بذلك فريةً افتراها بعض المستشرقين، فزعموا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بدأ عربي الرسالة معنيًّا بقومه وحدهم، فلما نجح في إخضاعهم أغراه النجاح بتوسيع الدعوة فزعم أنه للخلق كلهم، وهذا تفكير متهافت بين السخف؛ فقد رأيت بالاستقراء أن عالمية الرسالة تم التصريح بها في أوائل ما نزل من الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 112

أما الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم التي صرح فيها بعموم رسالته إلى الناس كافة، فهي كما قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158) قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا نبينا: يا أيها الناس -وهذا خطاب للأحمر والأصفر والعربي والعجمي- إني رسول الله إليكم جميعًا، أي: جميعكم، وهذا من شرفه وعظمته صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس أجمعين كما قال تعالى:{قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام: 19)، وقال تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} (هود: 17)، وقال تعالى:{وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران: 20)، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للذين آتوا الكتاب من اليهود والنصارى، وأن يقول للأميين، وهم العرب {أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} .

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: والآيات في هذا كثيرة كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصى، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة: أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى الناس كلهم، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "كانت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عنه عمر مغضبًا، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو الدرداء ونحن عنده: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما صاحبكم هذا فقد غامر؛ أي: غاضب وحاقد)) قال: وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلَّم، وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقصّ عليه الخبر، قال أبو الدرداء: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول الله، لأنا كنت أظلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ إني قلت:

ص: 113

يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعًا، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت)) ".

وعن ابن عباس مرفوعًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي، ولا أقول فخرًا: بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود، ونصرتُ بالرعب مسيرة شهر، وأُحلت لي الغنائم ولم تحلَّ لأحدٍ قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي يوم القيامة، فهي لمن لا يشرك بالله شيئًا)).

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني فلم يؤمن بي لم يدخل الجنة)).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديّ أو نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به- إلا كان من أصحاب النار)).

فرسالة النبي صلى الله عليه وسلم رسالة عامة لكل الأزمنة والأجيال، ليست رسالة موقوتة بعصر معين أو زمن مخصوص ينتهي أثرها بانتهائه، كما كان الشأن في رسالات الأنبياء السابقين على محمد -صلى الله عليهم وسلم أجمعين- فقد كان كل نبي قبله يُبعث لمرحلة زمنية محدودة، حتى إذا ما انقضت بعث الله نبيًّا آخر، أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو خاتم النبيين ورسالته هي رسالة الخلود التي قدَّر الله بقاءها إلى أن تقوم الساعة ويُطوى بساط هذا العالم، فهي تتضمن هداية الله الأخيرة للبشرية، فليس بعد الإسلام شريعة ولا بعد القرآن كتاب ولا بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبيّ، ولم يسبق لنبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم أن أعلن أن رسالته هي الخاتمة، وألا نبي بعده، بل بشرت التوراة التي أنزلها الله على موسى بمن يأتي بعد موسى، وبشر الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى بمن يأتي بعد عيسى عليه السلام.

ص: 114

إن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي رسالة المستقبل المديد ولا شك، وهي أيضًا رسالة الماضي البعيد، إنها في جوهرها وأصولها الاعتقادية والأخلاقية رسالة كل نبي أُرسل وكل كتاب أُنزل، فالأنبياء جميعًا جاءوا بالإسلام ونادوا بالتوحيد واجتناب الطاغوت، كما صرح بذلك رب العالمين سبحانه وتعالى حيث قال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25)، وقال سبحانه:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36).

لقد أعلن كل نبي بعثه الله تعالى قبل محمد صلى الله عليه وسلم أنه من المسلمين، قالها نوح وإبراهيم ومن بعدهم من الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام:{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (النمل: 91)، وقال إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} (البقرة: 128)، {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 132)، ودعا موسى ربه قائلًا:{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101)، وقال موسى عليه السلام لقومه:{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (يونس: 84)، ولما آمن السحرة برب العالمين وهددهم فرعون بالقتل والتعذيب قالوا:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (الأعراف: 126) وبعث سليمان بن داود عليهما السلام إلى بلقيس ملكة سبأ يدعوها إلى الإسلام، قالت:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (النمل: 30، 31)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما أمره ربه أن يقول:{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِين} .

فرسالة محمد صلى الله عليه وسلم في جوهرها هي رسالة كل نبي جاء من عند الله منذ عهد نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي

ص: 115

أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) فهي رسالة كل الزمن، وهي أيضًا الرسالة الشاملة التي تُخاطب كل الأمم وكل الأجناس وكل الشعوب وكل الطبقات، إنها ليست رسالة لشعبٍ خاص يزعم أنه وحده شعب الله المختار وأن الناس جميعًا يجب أن يخضعوا له، وليست رسالة لإقليم معين يجب أن تدين له كل أقاليم الأرض وتُجبى إليه ثمراتها وأرزاقها، وليست رسالة لطبقة معينة مهمّتها أن تسخّر الطبقات الكبرى لخدمة مصالحها أو اتباع أهوائها أو السير في ركابها؛ سواء أكانت هذه الطبقة المسيطرة من الأقوياء أم الضعفاء، من السادة أم من العبيد، من الأغنياء أم من الفقراء والصعاليك، إنها رسالتهم جميعًا، وليست لمصلحة طائفة منهم دون سواها، وليس فهمها ولا تفسيرها ولا الدعوة إليها حكرًا على طبقة خاصة، كما قد يتوهّم كثيرٌ من الناس، إنها هداية رب الناس لكل الناس، ورحمة الله لكل عباد الله، كما قال الله تعالى في الآيات التي نبَّهنا على مكيتها، وأنها من أول ما نزل على رسول الله، قال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (الفرقان: 1)، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).

فإذا قال قائل: ولماذا كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الرسالات وشريعته هي خاتمة الشرائع؟

فالجواب: نقول وبالله تبارك وتعالى التوفيق: إذا قيل لماذا كانت الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع، أما كان من الأفضل والأنفع استمرار تنزّل الشرائع الإلهية وإبقاء باب الرسالات الإلهية مفتوحة، فالجواب: لا، وألف لا؛ لأن تنزّل الشرائع ليس من قبيل العبث واللهو، وإنما هو لسدّ نقص في تشريع سابق أو لإكماله بتشريع لاحق مناسب لمستوى البشرية. وحيث إن الشريعة الإسلامية

ص: 116

كاملة تامّة سدّت كل ما لم تأتِ به الشرائع السابقة، وأكَّدت ما جاءت به هذه الشرائع السابقة، فلا حاجة إذًا ولا داعي لمجيء شريعة أخرى؛ لأن الله تبارك وتعالى ما قبض رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ولا توفَّاه حتى أنزل عليه في حجة الوداع قوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3)، فمع هذا الكمال والتمام لا داعي لمجيء شريعة أخرى، وحيث لا شريعة أخرى فلا رسولَ آخر بعد محمد صلى الله عليه وسلم.

وعموم الشريعة الإسلامية وبقاؤها وعدم قابليتها للنسخ والتبديل والتغيير بالتنقيص أو الزيادة كل ذلك يستلزم عقلًا وعدلًا أن تكون قواعدها وأحكامها ومبادئها، وجميع ما جاءت به على نحو يحقّق مصالح الناس في كل عصر ومكان، ويفي بحاجتهم ولا يضيق بها، ولا يتخلف عن أي مستوى عالٍ يبلغه المجتمع البشري، إن هذا والحمد لله متوافرٌ في الشريعة الإسلامية؛ لأن الله تعالى وهو العليم الخبير إذ جعلها عامة في المكان والزمان، وخاتمة لجميع الشرائع، جعل قواعدها وأحكامها صالحةً لكل زمان ومكان، ومهيئة للبقاء والاستمرار لهذا العموم.

والدليل على ذلك أن الله تبارك وتعالى شرع الأحكام لكل ما يحتاجه الناس من الضروريات والحاجيات والتحسينيات، فمدار الشريعة كلها على تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل؛ أي: في الدنيا والآخرة، ودرء المفاسد والأضرار عنهم في العاجل والآجل أيضًا، حتى إن بعض الفقهاء قال وقوله حق: إن الشريعة كلها مصالح إما درء مفاسد أو جلب مصالح.

فهذا هو الدليل من الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة على عالمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يُبعث لقومه خاصة كما كان الأنبياء قبله يُبعثون إلى قومهم خاصة، وإنما فضّله الله تبارك وتعالى وميزه على سائر من سبقه من الأنبياء والمرسلين بأن جعله خاتم النبيين وجعل رسالته رحمة للعالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.

ص: 117