الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأعراض لا من قبيل الجواهر، وهذا العقل في الأصل مصدر عقل يعقل عقلًا، وهذا مثل لفظ السمع فإنه في الأصل مصدر سمع يسمع سمعًا، وكذلك البصر، ثم يعبر بهذه الألفاظ عن القوى التي يحصل بها الإدراك، فيقال للقوة التي في العين بصر، والقوة التي يكون بها السمع به سمع، وبهذين الوجهين يفسّر المسلمون العقل.
العلاقة بين العقل والنقل
العلاقة بين العقل والنقل أساس منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة هو اشتراط أن يكون الاستدلال شرعيًّا في دلائله، كما يكون شرعيًّا في مسائله، وأنه كما لا يمكن وجود مسألة اعتقادية ليس لها دليل شرعي، فكذلك لا يمكن وجود مسألة اعتقادية لا تكون نصوص الكتاب والسنة كافية في الدلالة عليها، والمسائل الاعتقادية إما أن تكون خبرية بحيث لا يمكن الاستدلال عليها إلا من جهة ورود النص بها، وإما أن يكون الاستدلال عليها ممكنًا بالعقل، لكن لا بد مع ذلك ورود النص عليها واشتماله على الدلالة العقلية، ومستند التسليم بالمسائل الخبرية هو اليقين بأن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما أوحاه الله إليه لا بد أن يكون حقًّا للدلائل القاطعة على نبوته، وأنه معصوم فيما يبلغه عن الله تعالى عن أن يقول ما هو باطل، وكذلك المسائل الاعتقادية التي يمكن أن يُستدل عليها بالعقل، فإن التسليم بها مع كونه هو مقتضى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم كالمسائل الخبرية، إلا أن نصوص الكتاب والسنة لا بد أن تتضمن الدلالة العقلية عليها؛ إذ ليست تلك النصوص أخبارًا محضة، بل هي أدلة نقلية عقلية.
وينبني على هذا الأصل وجوب التسليم بكل ما ثبت بالكتاب والسنة، واعتقاد عدم إمكان التعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح، وبيان ما تضمنته الأدلة النقلية من الحجة العقلية واعتقاد كفايتها في الدلالة على مسائلها، وجماع منهج أهل السنة في هذا الباب: أنهم لا يرون أمرًا يجب اعتقاده والإيمان به لم ترد به النصوص، كما أنهم لا يردون النصوص الثابتة بدعوى التعارض بين العقل والنقل، بل لا يُسلّمون بين التعارض أصلًا، يقول الإمام بن عبد البر: ليس في الاعتقاد كله من صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصًا من كتاب الله أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أجمعت عليه الأمة وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه، يسلم له ولا يناظر فيه، ويقول الإمام الزهري: من الله الرسالة ومن الرسول البلاغ وعلينا التسليم، ويقول الإمام أحمد: السنة عندنا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول ولا الأهواء، إنما هي الاتباع وترك الهوى، ويقول ابن سيرين: كانوا يرون أنهم على الطريق ما كانوا على الأثر.
أما الفطرة فهي في اللغة: الخلقة التي يكون عليها الإنسان في أول أمره، جاء في (الصحاح): الفطرة بالكسرة الخِلقة، وقد فطره يُفطره يفطره فطرًا أي: خلقه، والفطر الابتداء والاختراع، قال ابن عباس رضي الله عنه:"كنت لا أدري ما فاطر السموات حتى أتاني أعربيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها -أي: أنا ابتدأته"، وجاء في (لسان العرب): الفطرة الخلقة، أنشد ثعلب:
هوّن عليك فقد نال الغنى رجل
…
في فطرة الكلب لا بالدين والحسب
والفطرة: ما فطر الله عليه الخلق من المعرفة به، وقد فطره يفطُره بالضم: أي خلقه، وقال ابن الأثير في (غريب الحديث): كل مولود على الفطرة، الفطر الابتداء والاختراع، والفطرة الحالة منه كالجِلسة والرِّكبة، والمعنى أنه يولد على
نوع من الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل عنه من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد. وعلى هذا المعنى للفطرة جاءت آيات كثيرة منها قول الله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (فاطر: 1) وقوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (إبراهيم: 10) وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} (الأنعام: 79) وقوله تعالى عن سحرة فرعون بعدما آمنوا برب العالمين: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} (طه: 72)، فهذه الآيات وغيرها كثير تدل على أن المراد بالفطرة الخِلقة؛ لأن الفاطر هو الخالق، فيكون المقصود بمقتضى الفطرة هو مقتضى الخلقة التي خلق الله الناس عليها قبل أن تنحرف عنه بالتغيير والتبديل؛ ولهذا شبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم المولود على الفطرة بالبهيمة حين تُخلق مكتملة الخلق قبل أن تغيّر خلقتها بالجدع.
وعلى هذا يكون المقصود بالمعرفة الفطرية: ما تقتضيه الخلقة التي خلق الله الناس عليها من المعارف الضرورية بحيث يكون التسليم بها هو مقتضى الغريزة العقلية التي فطر الله الناس عليها، فلا يكون صدقها مستندًا إلى أدلة خارجة عنها، وإنما إلى مجرد تصورها، وليس المقصود بفطرية تلك المعارف أن تكون كامنة في النفس حاصلة للإنسان منذ ولادته، وإنما تكون حاصلة له بالقوة، بمعنى أنها المقتضى المباشر للغريزة العقلية، وهذا يقتضي من وجه آخر ألا تكون الفطرة هي مجرد القابلية لتلك المعارف؛ لأن مجرد قابلية الفطرة لها لا يقتضي بحفظها.
والله سبحانه وتعالى قد امتنَّ على الناس بما وهبهم من الحواس والعقل، وأمرهم بشكره على ذلك وأرشدهم إلى ضرورة الانتفاع بحواسهم وعقولهم:{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} (الملك: 23){قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ،
{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِق} (الطارق: 5){فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِه} (عبس: 24)، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الحج: 46) والآيات في ذلك كثيرة.
وقد ذمَّ الله تعالى الذين أهملوا عقولهم وعطلوا حواسهم فقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} (الأنفال: 22)، وقال:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179)، وأخبر سبحانه وتعالى أنهم سيندمون يوم القيامة على تعطيلهم حواسهم وعقولهم عن التعرّف على الله عز وجل ومراده، فقال عز وجل عن أهل النار أنهم قالوا بعدما دخلوها:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك: 10، 11).
فالقرآن الكريم أمرنا باستخدام حواسنا والانتفاع بعقولنا، ولم يكتفِ القرآن الكريم بالإشارة والتوجيه بل وضع ضوابط علمية دقيقة تكون ضابطًا لهذه المعرفة الحسية والعقلية، وهذه الضوابط تقوم على دعامتين:
الأولى: تقوم على أن ينهض كل جيل بتعليم الجيل التالي ما وصل إليه من تجارب وما استفاده من معارف، وأن يرشد العالمون غير العالمين، وبهذا تتقدم الإنسانية في سبيل الرقي والكمال، وقد وضع القرآن الكريم الضمانات الكافية لتصل هذه المعارف إلى الأسماء والعقول بعيدةً عن التضليل والتحريف.
وأهم هذه الضمانات:
أولًا: ألا يكتم عالمًا ما اهتدى من معارف وعلوم، فإن هذه المعارف ليست ملكًا خالصةً له، وإنما هي هداية من الله وبتوفيق منه، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((من سُئل عن علم فكتمه؛ أُلجم يوم القيامة بلجام من نار)) والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِمَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 159، 160).
ثانيًا: أمانة العلم ينبغي أن تكون في المحل الأول من الاعتبار؛ بحيث ينقل العالم معلوماته واضحة دقيقة لا لبس فيها ولا تحريف ولا زيادة ولا نقصان، فإن الله تبارك وتعالى عابَ على بني إسرائيل كونهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ونهاهم عن ذلك في أكثر من آية، كما نهى عن كتمان العلم.
ثالثًا: العلم حق مشاع للإنسانية جمعاء، وما بعث الله الرسل إلا معلمين مرشدين، سواء بالكتب المنزلة أو بالقدوة الطيبة، واشتراط الأجر في التعليم يتنافى مع مبادئ الإسلام، فإن الله تبارك وتعالى حكى عن جميع الأنبياء أنهم ما كانوا يسألون أقوامهم أجرًا على ما يدعوهم إليه، وما يعلمونهم من دين الله عز وجل.
رابعًا: البعد عن ضياع الوقت في المناقشات الجدلية، سواء من جهة المعلمين أو المتعلمين، فإن الله قال:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (الأنعام: 68)، وقال في وصف الكفار:{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَاب} وقال: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحج: 68).
خامسًا: الاستجابة للحق القائم على الدليل، وقد عاب القرآن الكريم على المتعنتين، الذين يغمضون أعينهم عن الضوء المنير، ويجعلون أصابعهم في آذانهم حتى لا ينفذ إليها اليقين، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا
فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26)، وقد ذكر القرآن الكريم على لسان نوح عليه السلام أنه قال عن قومه:{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} (نوح: 7).
سادسًا: الإقبال على النافع المفيد، وترك ما لا طائل وراءه من الأبحاث؛ فقد مدح الله تعالى المؤمنين بكونهم عن اللغو معرضون، {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان: 72) {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (القصص: 55)، وقد نهى الله تعالى عن الإلحاح في طلب المحال أو ما يشبه المحال، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101)، وقال سبحانه:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} (النازعات: 42، 43)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله علم نافعًا ويعوذ به من علم لا ينفع.
أما الدعامة الثانية: فهي دعامة التجارب العملية القائمة على التفكير المنطقي السليم، وهذه الدعامة لها ضوابطها التي رسمها القرآن الكريم، وهي تقوم على هذه الأسس:
أولًا: أن نحرر عقولنا مما رانَ عليها من تقاليد وعادات وأوهامٍ انحدرت إلينا من وراثات الآباء والأجداد أو من البيئة التي تحيط بنا منذ الطفولة، وبهذا نستطيع أن نفكّر ونبحث في حرية وطلاقة، وهذا يستدعي منا أن نشك في كل شيء ونضعه موضع التجربة والاختبار قبل أن نصل به مرتبة اليقين، وهذا ما نادى به ديكارت بعد نزول القرآن الكريم بعدَّة قرون؛ حيث نادى أن الشك أول مراتب اليقين، والقرآن الكريم ينعي على المشركين جهلهم حين يقولون:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُقْتَدُونَ} (الزخرف: 23) {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا
بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شيئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) ووصف الله سبحانه وتعالى المقلدين بأنهم يردّدون ما تلقونه كالببغاوات أو العجماوات قال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171).
ثانيًا: يدعونا القرآن الكريم إلى أن نستعمل الحواس والعقل معنا في تجاربنا المادية والمعنوية، فكلاهما متممٌ للآخر، وليس بينهم انفصال أو انشقاق كما يدَّعي الفلاسفة الحسيون أو الفلاسفة العقليون، والله تعالى يشير في تعداد نعمه علينا إلى الحواس وإلى العقل معًا فيقول:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شيئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78)، بل إن الله سبحانه جعلنا مسئولين عن استخدام هذه الوسائل، فقال جلَّ من قائل:{إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36).
ثالثًا: نبَّأ الله سبحانه وتعالى إلى أن في الإنسان نوعًا من المواهب الخفية غير الحواس الظاهرة وغير العقل المفكر، وسمى هذه المواهب باسم الحكمة، فقال سبحانه وتعالى ممتنًّا على من يؤتيها:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (البقرة: 269) إلا أن معرفة الحواس والعقل معرفةٌ قاصرة لا تستطيع أن تعرِّف الإنسان بالله ومراده وما يجب له على عباده وما لهم عليه إن هم أدوا حقه، وما يلحقهم إن هم لم يقوموا بحقِّه؛ لذلك كان الإنسان بحاجة إلى معرفة ذلك عن غير طريق الحواس والعقل، وليس ثمّ سبيل إلى هذه المعرفة إلا سبيل الوحي، فكانت المعرفة الوحيية أعلى أنواع المعرفة وأكملها؛ لأن مصدرها هو الله سبحانه وتعالى، ولذلك نرى لزامًا علينا أن نعرّف الوحي كما عرفنا الحسَّ والعقل والفطرة.
فنقول: يدور المعنى اللغوي للوحي على ثلاثة أصول، هي: الإعلام والسرعة والخفاء، قال ابن منظور: الوحي الإشارة والرسالة والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك. وفي (تهذيب اللغة) للأزهري: أصل الوحي في اللغة كلها إعلام في خفاء؛ ولذلك صار الإلهام يُسمى وحيًا. وقال ابن الأثير: الوحي الوحي أي: السرعة السرعة، ويمد ويقصر، يقال: توحيت توحيًا إذا أسرعت.
وأما الوحي في الشرع، فمن أجمع ما قيل في تعريفه ما نُقل عن الإمام الزهري في تفسيره لقول الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} (الشورى: 51) يقول الإمام الزهري رحمه الله: نزلت هذه الآية تعمّ من أوحى الله إليه من البشر، فكلام الله الذي كلم به موسى من وراء حجاب، والوحي ما يوحي الله إلى نبي من أنبيائه عليهم السلام؛ ليثبت الله عز وجل ما أراد من وحيه في قلب النبي ويكتبه وهو كلام الله ووحيه، ومنه ما يكون بين الله وبين رسله ومنه ما يتكلم به الأنبياء ولا يكتبونه لأحد ولا يأمرون بكتابته ولكنهم يحدثون به الناس حديثًا ويبينونه لهم؛ لأن الله أمرهم أن يبينوه للناس ويبلغونه إيَّاه، ومن الوحي ما يُرسل الله به من يشاء ممن اصطفاه من ملائكته فيكلمون به أنبياءه من الناس، ومن الوحي ما يرسل الله به من يشاء من الملائكة فيوحيه وحيًا في قلب من يشاء من رسله، فهذا التعريف قد شمل كلام الله تعالى لأنبيائه من وراء حجاب وكلام الله تعالى الذي يرسل به ملائكته وشمل الإلهام الذي هو إلقاء الوحي في قلب النبي، وهو الذي يقول عنه الإمام الزهري: أن الأنبياء لا يكتبونه ولا يأمرون بكتابته، ولكنهم يبينونه للناس، وهو يريد بذلك التفريق بين الوحي الذي يكون لفظه ومعناه من الله تعالى وهو القرآن، فهذا هو الذي يأمر النبي بكتابته، وأما الوحي الذي لا يكون
لفظه من الله فهو الأحاديث، وإن كانت من الشرع الموحى به إلا أن لفظها من النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن تُروى بالمعنى.
إن الإسلام لا يريد أن يبدّد طاقة العقل دونما فائدة، ولا يريد أن يزجّ بالعقل في مجالات من البحث هي فوق قدراته، مما يجعله يتخبط ولا يصل إلى علم صحيح؛ ولذلك حظر الإسلام على العقل جوانب من المعرفة؛ لأنها فوق طاقته مثل البحث في كُنه الذات العلية أو البحث في كنه عوالم الغيب أو البحث في حقيقة الروح أو البحث في موعد قيام الساعة، والعلماء يقولون: العلم قسمان: ما يقع تحت إدراك العقل، وما لا يقع تحت إدراكه، أو يقولون: العلم قسمان: علم غيب وعلم شهادة، كما قال الله تعالى عن نفسه:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (التغابن: 18).
أولًا: علم الغيب: وله صورتان، علم غيب مطلق وهو ما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدًا من خلقه، فلا سبيل إلى أن يدركه العقل أو يقف عليه البتة، وذلك مثل ما لله من كمالات وأسماء لم يوحها لأحد من خلقه، أو كعلم الساعة واليوم الآخر على نحو قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان: 34).
القسم الثاني: علم غيب نسبي، وهو ما أطلع الله عليه بعض خلقه؛ وذلك لأن الإنسان يعلم ويجهل ويذكر وينسى، وقد فضّل الله بعض الناس على بعض، وفوق كل ذي علم عليم، وأئمة الناس في هذا المقام الأنبياء والمرسلون، الذين اصطفاهم الله تعالى وأوحى إليه وأمرهم بالبلاغ عنه حتى يبصر الناس ويتعلموا، وهذا مقام فسيح جدّا بحيث يشمل كل الناس شريطة أن يكون له أصل ويقين، فمتى التمس الإنسان أسبابه حصّله؛
لأن الإنسان لم يُولد عالمًا وإنما العلم بالتعلم كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114).
ثانيا: علم الشهادة: وهو ما يخضع لحواس الإنسان ومدركاته مما له صورة في الواقع، وهو كذلك، تقصر العقول في إدراكه لتفاوت الناس في هذا الميدان كما هو معلوم مشاهد، فقد قسَّم الله بين الناس معيشتهم بحيث يحتاج الجميع إلى الجميع، وهم متفاوتون في كل شيء، بل الإنسان ذاته ليقصر عقله في وقت ويزكو في وقت آخر، ورضي الله عن عمر رضي الله عنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم توعَّد من قال بوفاته:"من قال: إن محمدًا قد مات قتلته بسيفي"، فلما خرج أبو بكر رضي الله عنه على الناس وقرأ عليهم قول الله عز وجل:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شيئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران: 144) بعدها قال عمر كغيره: "فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ"، وهذا القصور في الإدراك مردّه إلى تفاوت العقول أو إلى تأثير الشهوات عليها، فمن غضب أو أفرط في تفاعله مع المواقف قصر إدراكه وتفلّت منه بيانه وأزلف لسانه، فحبك الشيء يعمي ويصم وغضبك من إدراكك وهواك موجهٌ لتفكيرك، ولو جانب الحق والصواب، ومن هذا موقف عمر رضي الله عنه؛ فقد قصر إدراكه للآية الكريمة لغلبة الغضب عليه واستبداده به، ولذلك نرى كثير من الناس تقصر عقولهم عن إدراك الأشياء التي سبق لهم إدراكها، هذا فضلًا عن قصورهم عن إدراكها أصلًا، كذلك نجد العقول متفاوتة كمّا وكيفًا وحالًا، فما يدركه هؤلاء يعجز عن إدراكه الآخرون، وكذلك العقول تعجز تمامًا عن إدراك ما استأثر الله بعلمه فضلًا عن عجزه إدراك أسباب سعادتها إن أعيت نفسها في البحث عن كُنه الأشياء، البحث فيما وراء المادة أو وقعت أَسْر الشهوات والأهواء.
ومن هنا نقول: إن العقول القاصرة والعاجزة والمتباينة والمتفاوتة بين البشر في إدراك وجه الصواب فيما هو مشاهد- لحريّ بها أن تعجز تمامًا عن إدراك غيبٍ أو ما يتصل به، من أجل ذلك كله كان إرسال الرسل ضرورة لتعريف الناس وتبصيرهم حتى تذهب كل حُجة للمخالفين لهدي الله تعالى، وكانت رحمة الله وعدالته سبَّاقة:{مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (الإسراء: 15) فأرسل الله رسله يبصّرون الناس بالحق ويرشدونهم إلى الخير وينذرونهم عوامل الفساد والإفساد ولقاء ربهم، فحرروا العقول وهذّبوا الطباع وشرحوا الصدور وصفّوا الأرواح ونقوا النفوس وطمأنوا القلوب، فخلصوا من رق الشهوات وأصل الأهواء وتطهروا من رجس الشيطان ودنس النقائص والرزائل وأدركوا عوامل ثباتهم على الحق وتجنبهم للباطل، كل ذلك بفضل رسالة المرسلين وجهد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أما وقد ختم الله النبوة من محمد صلى الله عليه وسلم كما قال:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (الأحزاب: 40) فمن بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى يُصلح ما أفسد الناس، ويقيم ما اعوجّ بسبب الناس، إنهم دعاة الحق وورثة الأنبياء الهداة المصلحون والمرشدون الناصحون والدُّعاة العاملون أرباب المعرفة والنظر، ولعل الواقع يشهد بالحاجة الملحة إلى زهد هؤلاء الذين اصطفاهم الله تعالى بحمل كتابه وميراث الدعوة وأعبائها بعد رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن المعرفة الإسلامية والدعوة إلى الله تعالى وكلمة التوحيد وصفات الله عز وجل ومنهج الحق- كان ذلك كله عامل توحيد للكلمة والصَّف، وإصلاح للفاسد والمعوجّ، أما اليوم فكثيرٌ من الناس يلعن بعضهم جدلًا في الله بغير علم، وهذا
يرفع ويزيد من قدر الحاجة إلى المعرفة اليوم من أجل أن ينفي الدعاة عن الدين تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، ولعل ثلاثتهم واقع مشاهد بين غالٍ ومفرّط، مع أن طرفي الأمور شطط وخير الأمور الوسط، وهؤلاء الغلاة شر بكل المقاييس يخرجون بغلوهم هذا عن روح الدين وفطرة الخلق، فلا الدين يقبل ذلك؛ حيث إن من خصائصه رفع الحرج {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78).
وبعدُ فهذه هي نظرة الإسلام للمعرفة بأنواعها المختلفة، المعرفة الحسية والعقلية والفطرية، وأنه لا غنًى أبدًا بهذه المعارف الثلاث عن المعرفة الوحيية، وأن الناس بحاجة إلى الوحي كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالوحي يُعدّ أهم مصادر المعرفة ومحور نظرية المعرفة الإسلامية وواضع ضوابطها وحدودها ومعالمها، والمعرفة في ظلّ الوحي ورحابه معرفة يقينية كاملة ثابتة مضطردة غير متناقضة في جوانب علم الشهادة، مطمئنة وواثقة في جانب علم الغيب.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.