المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر - أصول الدعوة - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 بعض الآفات التي تصيب بعض الدعاة

- ‌العجلة

- ‌ضعف اليقين

- ‌التقصير في عمل اليوم والليلة

- ‌الدرس: 2 أصول العقيدة (1)

- ‌علاقة الدعوة بأصول الإسلام

- ‌تعريف العقيدة وأصولها الستة

- ‌الركن الأول: الإيمان بالله

- ‌الركن الثاني: الإيمان بالملائكة

- ‌الركن الثالث: الإيمان بالنبيين والكتب المنزلة على المرسلين

- ‌الدرس: 3 أصول العقيدة (2)

- ‌الركن الرابع: الإيمان بالكتب

- ‌الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر

- ‌الركن السادس: الإيمان بالقدر

- ‌الدرس: 4 العبادة

- ‌الركن الأعظم بعد الشهادتين: الصلاة

- ‌الركن الثاني بعد الصلاة: الزكاة

- ‌الركن الثالث بعد الصلاة: الصيام

- ‌الركن الرابع بعد الصلاة: الحج

- ‌الدرس: 5 الأخلاق

- ‌علاقة الأخلاق بالعقيدة

- ‌علاقة الأخلاق بالعبادة

- ‌تعريف الأخلاق وأهميتها

- ‌مكانة الأخلاق في الإسلام

- ‌خصائص الأخلاق في الإسلام

- ‌الدرس: 6 خصائص الإسلام

- ‌خاصية العالمية

- ‌خاصية الإنسانية

- ‌الدرس: 7 المبادئ العشرة لعلم أصول الدعوة

- ‌معنى أصول الدعوة، وموضوعه، وحكم تعلمه

- ‌موضوع علم أصول الدعوة

- ‌فضائل علم أصول الدعوة

- ‌نشأة علم أصول الدعوة، والمراحل التي مر بها

- ‌روافد علم أصول الدعوة، ونسبته، وثمرته، ومسائله، ومصادره

- ‌الدرس: 8 التصور الإسلامي للمعرفة بأنواعها المختلفة

- ‌الفرق بين العلم والمعرفة

- ‌الحس في الفكر الإسلامي

- ‌العلاقة بين العقل والنقل

- ‌الدرس: 9 دعوة المسلمين

- ‌أصناف المدعوِّين

- ‌الأصول الشرعية في دعوة الكفار والمنافقين

- ‌الأصول الشرعية في دعوة المسلمين

- ‌الدرس: 10 أهم الصفات التي يجب علي الداعية أن يتصف بها

- ‌الإيمان

- ‌الاجتهاد في الطاعات والتقرب بها إلى الله

- ‌التجرد والزهد

- ‌أن يكون في نفسه قدوة حسنة

- ‌أن يكون قوي الحجة مستظهرًا للأدلة

- ‌العلم

- ‌الدرس: 11 المدعوون

- ‌من هو المدعو

- ‌دعوة القرآن المشركين للإيمان

- ‌دعوة القرآن اليهودَ للإيمان

- ‌دعوة القرآن النصارى للإيمان

- ‌دعوة القرآن المنافقين للإيمان

- ‌الدرس: 12 المصادر التي يعتمد عليها الداعية في دعوته المصدر الأول: القرآن الكريم

- ‌التعريف بالمصدر الأول: القرآن الكريم

- ‌بيان القرآن الكريم للأحكام الشرعية

- ‌أهمية القرآن الكريم في حياة الداعية والمجتمع

- ‌الدرس: 13 المصدر الثاني: السنة

- ‌التعريف بالسنة وأهميتها في التشريع

- ‌أقسام السنة من حيث ورودها إلينا

- ‌الدرس: 14 الثقافة التي يحتاج إليها الداعية

- ‌الثقافة الدينية

- ‌معرفة علوم القرآن

- ‌الثقافة التاريخية

- ‌الثقافة الأدبية والواقعية

- ‌الدرس: 15 ركائز الدعوة في الإسلام

- ‌التصور الإسلامي للكون والحياة

- ‌التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع

- ‌الدرس: 16 علاقة الإسلام بالدعوات السابقة

- ‌الإسلام هو الدين القيم الذي فطر الله الناس عليه

- ‌حكمة اختلاف الشرائع من أمة لأمة

- ‌الدرس: 17 الأخلاق ومكانتها في الإسلام - أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (1)

- ‌الأخلاق ومكانتها في الإسلام

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الإخلاص

- ‌من أهم الأخلاق التي تلزم الداعية: الشجاعة

- ‌الدرس: 18 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (2)

- ‌من أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها: الإيجابية

- ‌من الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها التضحية

- ‌الدرس: 19 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (3)

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الصبر

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: الرفق

- ‌الدرس: 20 أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها (4)

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العدل

- ‌من الأخلاق التي يجب أن يتخلق بها الداعية: العفو

- ‌الدرس: 21 من خصائص الإسلام: الربانية والوسطية والوضوح

- ‌(من خصائص الإسلام: الربانية

- ‌من خصائص الإسلام: الوسطية

- ‌من خصائص الإسلام: الوضوح

الفصل: ‌الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر

الأرض؛ قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 122).

وقد ضمن الله تبارك وتعالى القرآن الكريم كل ما يحتاجه الناس إليه في دينهم ودنياهم وآخرتهم، قال الله سبحانه:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: 38)، وقال سبحانه:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89)، وقال سبحانه:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9). يهدي للتي هي أقوم على وجه العموم والشمول، لا على وجه الخصوص؛ فالقرآن لا يهدي للتي هي أقوم في مسألة دون مسألة، ولا يهدي للتي هي أقوم في أمر دون أمر، ولا يهدي للتي هي أقوم في مشكلة دون مشكلة ولا في قضية دون قضية، ولكن القرآن يهدي للتي هي أقوم في كل القضايا، وفي كل المشاكل، وفي كل الوقائع والأحداث والأمور.

فعزّة المؤمن في اتباع القرآن، وسعادته في التمسك به، وطمأنينة قلبه في قراءته وتلاوته:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28).

‌الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر

أما الركن الخامس من أركان الإيمان فهو: الإيمان باليوم الآخر:

والمراد باليوم الآخر: يوم القيامة؛ فإن الله تبارك وتعالى جعلهما يومين اثنين اليوم وغدًا، اليوم الدنيا وغدًا الآخرة، والإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، قال الله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ

ص: 55

مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة: 1 - 4)، وقال تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (البقرة: 177).

وفي حديث جبريل المشهور لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما الإيمان؟ كان جوابه صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر)) والإيمان باليوم الآخر من أهم أركان الإيمان، ولذلك كثيرًا ما يُقرن الله تبارك وتعالى بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر في مواضع من القرآن الكريم منها هذه الآية التي ذكر الله فيها أركان الإيمان:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} فقدم الإيمان باليوم الآخر على الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين، وقال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (المائدة: 69)، وقال سبحانه:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (البقرة: 228).

فالإيمان باليوم الآخر من أهم أركان الإيمان، وإنكاره والكفر به، والتكذيب به كفرٌ بالله عز وجل يوجب الخلود في النيران، قال الله تعالى:{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الرعد: 5)، ولقد بعث الله تعالى الرسل إليه داعين وبلقائه منذرين قال تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (الزمر: 71).

ص: 56

وهذا اعتراف من أصناف الكافرين الداخلين جهنم أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أنذرتهم لقاء يومهم هذا، ولما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وكان هو الحاشر الذي يحشر الناس على عقبه حتى قال صلى الله عليه وسلم:((بعثتُ أنا والساعة كهاتين؛ وضم السبابة والوسطى)) لما كان كذلك فقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أحوال الآخرة وأهوالها بيانًا لم يسبق له نظير في الكتب السابقة، حتى إن الله تعالى أخبر أن الحِكْمة من الإيحاء إلى محمد صلى الله عليه وسلم هي إنذار الناس لقاء الله؛ فقال سبحانه:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (غافر: 15 - 17).

ولما جادل المشركين النبي صلى الله عليه وسلم فيما أنذرهموه من البعث بعد الموت {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} (الإسراء: 49) أمره ربه أن يُقسم لهم على وقوع ما كذبوه فقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} (يونس: 53)، وقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} (سبأ: 3)، وقال تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (التغابن: 7).

ولم يكتفِ رَبّنا سبحانه وتعالى بقسم نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أقسم هو -سبحانه- على وقوع البعث فقال عز وجل: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا * فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ

ص: 57

أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} (مريم: 66 - 70)، فمن كذب الله ورسوله بعد ذلك فالنار أولى به كما قال تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} (الفرقان: 11 - 14).

ومع ذلك فإن الله سبحانه قد أزاح كل إشكال وأبطل كل شبهة عرضت للذين أنكروا البعث، وكذبوا بلقاء الله؛ ليهلك من هلك على بينة ويحي من حي عن بينة، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ} (الحج: 5) إنا خلقناكم أول مرة؛ فكيف نعجز عن إعادتكم مرة ثانية وأنتم تعلمون دائمًا أن المرة الثانية أهون وأيسر من المرة الأولى، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الروم: 27)، فإن كنتم في ريب من البعث فاعلموا أنا خلقناكم، فلن نعجز عن إعادتكم مرة ثانية كما قال عز وجل:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} (الواقعة: 62) يعني: فلولا تذكرون فتعلمون أن الذي أنشأكم أول مرة قادر على النشأة الأخرى.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (الحج: 5 - 7)،

ص: 58

وقال سبحانه: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} (الإسراء: 98، 99)، وقال سبحانه:{ق * وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} (ق: 1 - 4)، فلما استبعدوا البعث بعد موتهم وتمزق أجسامهم، واختلاطها بالتراب اختلاطًا يصعب تمييزها في نظرهم، قال تعالى:{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} أي: من لحومهم وعظائمهم وأشعارهم، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير، {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (القيامة: 3، 4).

ولما أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت، كذبهم الله تعالى وبيَّن لهم الحكمة في البعث بعد الموت فقال عز وجل:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} (النحل: 38، 39)، وذلك لكمال حكمته سبحانه وتعالى حيث جعل الدنيا دار عمل لا دار جزاء؛ ولقد كان من الناس الصالحون، ومنهم دون ذلك، ومنهم الظالمون ومنهم مظلومون، ومنهم المسلمون ومنهم القاسطون، ومنهم المؤمنون ومنهم الكافرون، والموت يعمّ الجميع {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فلو أهملوا بعد الموت ولم يبعثوا لاستووا، وقد نفى الله تعالى التسوية بينهم فقال:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (السجدة: 18)، وقال سبحانه:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم: 35، 36)، وقال سبحانه:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28).

ص: 59

فحكمة الله إذًا تقتضي أن يرجع الناس إليه ليجزيهم بما كانوا يعملون، ويقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، ولذلك قال تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (الزمر: 30، 31)، وقال سبحانه:{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الجاثية: 17).

هذا وإن للإيمان باليوم الآخر تأثيرًا كبيرًا في سلوك الإنسان وانضباطه، وشتان بين رجلين يؤمن أحدهما بالبعث والحساب الجزاء، ويكفر الآخر بذلك؛ فالثاني ضابطه هواه؛ وقائده شهوته ومركبه لذاته، يفعل ما يشاء من غير خوف من حساب أو جزاء، والأول ضابطه الإيمان وقائده الخوف ومركبه الطاعة، إذا همَّ بسوء تذكر أنه مجزيٌّ به فأقلع عنه، وإذا أقدم على ظلم إنسان تذكر أنه سيقتصّ منه يوم القيامة فرجع عن ظلمه، وقد فرق القرآن الكريم بين الرجلين قال تعالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة: 17، 18)، وقال سبحانه:{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (التوبة: 44، 45)، وقال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً

ص: 60