الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس العاشر
(أهم الصفات التي يجب علي الداعية أن يتصف بها)
الإيمان
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
أهم الصفات التي يجب على الداعية أن يتصف بها؛ حتى ينجح في دعوته ويبلّغ رسالة ربه:
إن الداعية إلى الله عز وجل قائمٌ في الناس مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد برّأ الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم من كل عيب، وعصمه من كل ذنب، وحسّن خَلقه وخُلقه، وأنزل عليه الكتاب والحكمة، وعلمه ما لم يكن يعلم، وبهذه الصفات قَبِل الناس دعوته ودخلوا في دين الله عز وجل، ولا يمكن للدعاة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوموا مقامه في الدعوة حتى يهتدوا بهديه ويقتفوا أثره ويتخلقوا بأخلاقه ويتأدبوا بآدابه ويتصفوا بصفاته، كل ذلك حسب الاستطاعة وعلى قدر نصيبهم من الاتصاف بهذه الصفات يكون نجاحهم في الدعوة إلى الله عز وجل.
ومن أهم الصفات التي يجب على الدعاة الاتصاف بها: الإيمان: ولا أعني بالإيمان الإيمانَ الشرعي، فقد سبق الحديث عن الإيمان كأصل من أصول الدين في الدروس السابقة، وإنما أعني بالإيمان أخلاقه وشُعبه التي نيفت على السبعين، وأُلفت فيه كتب مستقلة، فـ "ليس الإيمان إذا بالتمني ولا بالتحلّي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل"، ليس المقصود بالإيمان في حديثنا هذا مجرد معرفة ذهنية، لا تنفذ أشعتها إلى القلب فتضيئه ولا إلى الإرادة فتحركها ولا مجرد حشو الذاكرة بعبارات ومصطلحات عن معاني الرب والإله والدين والعبادة والتوحيد بأقسامه والطاغوت والجاهلية، والامتلاء عُجبًا وغرورًا بأن هذا كل الإيمان ومحض اليقين، والشغل الآخرين بمعارك جدلية حول هذه الألفاظ وإن كانت من الأهمية بمكان، فإن هذا المراء أو الجدال لا يُنشئ إيمانًا كإيمان سحرة فرعون حين
آمنوا برب هارون وموسى، ولا كإيمان الصحابة حينما صدقوا برسالة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن الإيمان الذي نعنيه هو الإيمان كما جاء به القرآن والسنة، وحسبنا أن نذكر آية واحدة في هذا المجال، ردَّ الله تبارك وتعالى بها على الأعراب الذين قالوا آمنا ولم يدخل الإيمان، في قلوبهم فقال الله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15)، وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه منه كما يكره أن يقذف في النار)) ربما يُكتفى من العامة نصف الإيمان أو ربعه، أما الدعاة فلا بد من الإيمان الحق، ولا يكفي أنصاف المؤمنين ولا أرباع المؤمنين.
فالإيمان الذي نعنيه هو إيمان الكتاب والسنة الذي أشرنا إليه، كذلك الإيمان الذي نعنيه هو أن يعتقد الداعية من قرارة وجدانه أن الآجال بيد الله، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإن اجتمعت على أن يضرُّوه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وعلى المؤمن أن يضع نصب عينيه قول ربه سبحانه:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة: 51)، وأن يردِّد صباح مساء قول ربه جل جلاله:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34)، فبهذا الاعتقاد وبهذا الشعور يتحرّر الداعية المؤمن من الخوف والجبن والجزع،
ويتحلّى بالصبر والشجاعة والإقدام، ويهتف من أعماق قلبه بما هتف به عليٌّ رضي الله عنه حين كان يجابه الأعداء:"أي يومي من الموت أفرّ؟ يومٌ لا يُقدر أم يوم قُدِّر، يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذِر".
وأعني بالإيمان أيضًا: أن يعتقد المؤمن من سويداء قلبه أن الأرزاق بيد الله، وأن ما بسطه الله على العبد لم يكن لأحدٍ أن يمنعه، وما أمسكه عنه لم يكن لأحد أن يعطيه، وأن ما قُدّر لا بد أن يكون، وأن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها، وعلى الداعية المؤمن أن يضعَ نُصب عينيه قول ربه عز وجل:{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (الإسراء: 30)، وأن يردد صباح مساء قول الله عز وجل:{أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} (الملك: 21)، فبهذا الاعتقاد وبهذا الشعور يتحرّر الداعية المؤمن من الحرص الزائد على الدنيا والإلحاح بالطلب، ويتحرر أيضًا من الشح النفسي والتقدير المزري والإمساك الشائن، ويتحلَّى بمعاني الكرم والإيثار والعطاء، بل يرى السعادة في القناعة وعيش الكفاف، فإذا قنعت النفوس رضيت بالقليل وكفاها اليسير، ورحم الإمام الشافعي حين قال:
النفس تجزع أن تكون فقيرة
…
والفقر خير من غنى يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبته
…
فجميع ما في الأرض لا يكفيها
وأعني بالإيمان الذي يجب على الداعية أن يتصف به: أن يعتقد الداعية المؤمن من أعماق أحاسيسه ومشاعره: أن الله سبحانه وتعالى معه يسمعه ويراه، ويعلم سره ونجواه، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وعلى المؤمن أن يضع نُصب عينيه قول ربه سبحانه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة: 7) وأن
يردّد صباح مساء قول ربه سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (الأنعام: 59).
فبهذا الاعتقاد وبهذا الشعور يتحرر المؤمن من رقة الهوى ونزغات النفس الأمارة بالسوء، وهمزات الشياطين وفتنة المال والنساء، ويتحلى بالمراقبة لله عز وجل والإخلاص له والاستعانة به والتسليم لجنابه، ويندفع بكليته إلى العمل بكل أمانة وجدية وإتقان، بل يكون إذا مشى في الناس إنسانًا سويًّا برًّا تقيًّا ريحانة طيبة الشذى وشامة في المجتمع يُشار إليه بالبنان، بل يتمثل بما كان الإمام أحمد رضي الله عنه يتمثل به كثيرًا وهو قوله:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل
…
خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعةً
…
ولا أن ما تُخفي عليه يغيب
فعلى هذه المعاني من الإيمان ينبغي أن يتكون الداعية، وأن يواجه بهذا الإيمان صراع الحياة. إن الإيمان الحق الراسخ بأن الإسلام هو خاتم الأديان وأنه الدين الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم لإنقاذ العالم وتخليصه من التخبط في الظلمات، وأنه دين شامل لجميع نواحي الحياة الدينية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والعسكرية. هذا الإيمان يدفع صاحبه بحماس منقطع النظير إلى أن يدعو الناس إلى الإسلام بثقة واطمئنان وأن يحثّهم على اتباعه والتمسك بهديه والعمل الدائب الجاد لنصرته.
هذا الإيمان لا يترك صاحبه يهدأ حتى يرى الناس قد دخلوا في دين الله أفواجًا، هذا الإيمان لا يرتاح لصاحبه بال حتى يرى راية الإسلام عاليةً خفاقة في كل مكان.
أما الدعاة المحترفون والمتجردون من هذا الإيمان، الذين اتخذوا الدعوة وسيلة للعيش الرغيد وسببًا للرزق الوافر، وغاية ينتهون إليها للشهرة والزعامة؛ فهؤلاء كفئران السفينة لا يهمهم إلا بطونهم غرقت السفينة أم نجت، والفرق بين الصنفين واضح بيّن، الصنف الأول يؤثر بأسلوبه المملوء بالإيمان وبطريقته المشحونة باليقين، فيسير الناس تبع إرشاده ويسلكون السبيل الذي يسلكه ويسخرون كل ما يملكون لنصرة الحق ونشره بين الناس. وأما الآخرون فكلامهم كالطبل الأجوف يُرعب ولا يطرب، ويُقلق ولا يرشد، ولهذا فإنه يدخل من أحد الأذنين ليخرج من الأخرى، فلا ينفعل به الناس ولا يكاد يصل إلى آذانهم حتى يتساقط تحت أقدامهم، وأنى له الطريق إلى قلوبهم؟ ولهذا لما سُئل عبد الله بن المبارك: لماذا يجلس بعض الناس إلى الوعّاظ والمرشدين فيتأثرون بهم ويبكون بين أيديهم، تصل الكلمة إلى آذانهم فتسلك طريقها إلى قلوبهم، فتستقرّ فيها، وتترجمها جوارحهم عملًا خيرًا رشيدًا، يصدق ما في قلوبهم، فإذا جلسوا إلى آخرين وذكَّروهم بمثل ما ذكرهم به الأولون، وقد يكون أسلوبهم أجود وألفاظهم أحلى وأداؤهم مثيرًا، ومع كل هذا فإن الناس لا يتأثرون بهم، ويقومون من مجلسهم وكأنهم لم يكونوا فيها، فأجاب ابن المبارك رحمه الله:"ثكلتك أمك يا هذا، النائحة المستأجرة كمن تبكي ولدها؟! " لا يعقل أبدًا ولا يمكن، ولهذا قالوا ليست النائحة كالثكلى.
إن الإيمان هو الذي جعل بلالًا رضي الله عنه يتحمّل ما تحمل وصهيبًا يستعذب حرارة النار، وسمية تستخف بالقتل، إن هذا الإيمان هو الذي دعا غلام أصحاب الأخدود أن يضحي بنفسه لتنتشر عقيدته، وجعل أتباعه يفضلون النار المستعرة ولا يعودون إلى الكفر أبدًا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن