الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا يفوت في هذا المقام أن نؤكد على أن تعلم هذا العلم -علم أصول الدعوة- من أعظم سُبل الوحدة والائتلاف، ونبذ الفرقة والاختلاف، ومن أعظم أسباب صلاح ذات البين، وما قد يوجد من مظاهر الفرقة والتخالف بين الدعاة مردّه إلى أمور كثيرة؛ من أهمها غيابُ أو ضعف العلم الشرعي الأصيل، وكذا علم أصول الدعوة وفقه ممارستها، وخفوت نور الربانية في الصدور وضعف التحقق بالأخلاق النبوية والشمائل السلفية، فلا غنى عن غلبة روح التأصيل العلمي، والتفريق بين المقبول والمردود من الخلاف والمحكم والمتشابه من النصوص والقطعي من الظني من الدلالات.
نشأة علم أصول الدعوة، والمراحل التي مر بها
أما عن نشأة هذا العلم علم أصول الدعوة والمراحل التي مر بها، فإن مفردات هذا العلم قديمة قدم الدعوة، لم ينفك علم الدعوة عن عملها في منهج الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وما زال علم الدعوة وعملها عبادة يتقرّب بها الدعاة إلى الله تعالى جيلًا بعد جيل، ولما قام عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تاليًا آياته ومعلمًا أحكامه ومزكيًا أتباعه؛ تخرّج أصحابه في مدرسته وتفقهوا بعلمه وتأدبوا بأدبه، وأنجز الله لهم وعده؛ فأظهر دينه وأعلى كلمته وأعز أهله واقتفى التابعون ومن بعدهم آثار الأسلاف، فنشروا الإسلام وبلغوا فيه كل مبلغ، فكانت كل الجهود مصروفة إلى حفظ العلم وإتقان العمل.
وعندما بسط الإسلام نوره على الدنيا ودانت له الأرض اتجهت العلوم وجهة التأصيل والتقعيد، وكان علم الدعوة أبوابًا منثورة في كتب السنة ودواوينها حينًا وفي كتب التفسير وشروحها حينًا وفي كتب السير والتاريخ والتراجم أحيانًا
أخرى، ولم يجتمع من ذلك علما بالمعنى الاصطلاحي للعلم؛ لأن مبعث تأصيل العلوم وإفرادها بالتصنيف هو الحاجة إليها، ولم تكن الدعوة إذ ذاك عملًا مهجورًا ولا أمرًا مستورًا؛ إذ كان المجتمع الإسلامي كله ناشطًا بالدعوة إلى الله، تسري روحها في أوصاله وتتنفس رحيقها جنباته. وكانت تلك الدولة الإسلامية آنذاك ترى الدعوة إلى الله أولى وظائفها في الداخل ومحور علاقاتها في الخارج، بل كانت ترى الدعوة سرّ وجودها ونظام حياتها وبقائها؛ تارة تخاطب بإرسال الدعاة وتارة تدعو باستقبال الوفود وتارة تدعو بالحسبة والتغيير وتارة تزيل العقبات أمام الدعوة بالجهاد، فكان المجتمع أفرادًا وجماعات حكَّامًا ومحكومين، متحققين في الجملة بقول رب العالمين:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج: 41)، وبقي الأمر مقاربَا حتى خلف من بعدهم خلف أضاعوا الوجبات واتبعوا الشهوات وأهملوا العلم والعمل على مختلف المستويات، فما استفاقوا إلا على استلاب دولتهم وزوال خلافتهم، وتفرق شملهم، وتغير حالهم، واستبدالهم بالقوة ضعفًا وبالعزة ذلًّا وبالغنى فقرًا.
إلا أن السُّبات وإن طال فلا بد بإذن الله عز وجل من يقظة، والغفلة وإن استمرت فلا بد من صحوة، فتنادى المصلحون من كل جانب ليعود المسلمون إلى سابق عهدهم وسالف مجدهم، وعادت الدعوة لتبعث الأمة من جديد فكتب الدعاة العلماء يشخِّصون الداء ويصفون الدواء، وبرزت الحاجة إلى هذا العلم -علم أصول الدعوة- بإلحاح؛ نظرًا لما يكتنف الأمة من جهالة وما يحيط بالعمل الدعوي من غموض في بعض مفاهيمه وخللٍ في بعض أصوله واضطراب في مناهجه وقصورٍ في أساليبه وجمود في وسائله وخطورة في نوازله، وعقبات عملية في طريقه تهدف إلى وأده تارة وتشويهه وتعويقه تارة أخرى، فقام في
العصر الحديث نهضة دعوية وتيارات إسلامية وعُرفت المؤسسات الدعوية والإعلامية وتأسست الكليات الدعوية والأقسام العلمية في الجامعات الشرعية؛ كل ذلك خدمة لقضية الدعوة.
ولا جرم أن كان تدوين هذا العلم في أوله قاصرًا محدودًا ثم تكاملت واجتمعت أجزاؤه وأركانه، فاستوى وقام على سوقه، وبلا شك فقد كان أوله في العصر الحديث عاطفةً وحماسًا وإن لم يخلُ من تأصيل وتقعيد، ثم إن آخره كان فقهًا وتقعيدًا وإن لم يخلو من عاطفة وتحميس، فلا عجب أن يستفيد اللاحق من السابق، فيؤصل للدعوة مناهجها ويضبط وسائلها وأهدافها، ويبصرها بمواضع الزّلل ومكامن الخلل ومواطن الرشد وأسباب العلاج، وقديمًا قيل: كما ترك الأول للآخر.
ومما تجدر ملاحظته أن التصنيف الخاص في الدعوة إلى الله أخذ في بادئ الأمر سمة الوعظ والتذكير والمخاطبة بما يرقق القلوب ويزهّد في الدنيا ويرغّب في الآخرة؛ حيث عُرفت أبواب الرقاق في عامة كتب الحديث كالصحاح والسنن، وأُفردت أبواب الزهد بكتب مستقلة كـ (الزهد) لابن المبارك وللإمام أحمد، ونحو ذلك مما يشتمل على دعوة النفس ومحاسبتها، ثم جاء ابن الجوزي بكتابه الوعظي (التبصرة) وقد جمعت خطبه ومجالسه وعظه في أسفار عديدة، مثل "اللطف في الوعظ" و"الشفاء في مواعظ الحكام والخلفاء"، ثم ألف كتابًا بعنوان (القصاص والمذكرين) ضمنه طائفة من القواعد الأساسية في الدعوة إلى الله، وبيانًا لكيفية الدعوة وآداب الداعي وشروطه، كما ضمّنه تراجمَ مجموعة من القصاص والمذكّرين ونتفًا مضيئة من جوامع الكلم وروائع البيان عن الصحابة فمن بعدهم، وقد سمَّى ابن الجوزي هذا الفن بأسماء ثلاثة: القصص والتذكير والوعظ، فلو قيل: إن ابن الجوزي المتوفى عام خمسمائة وسبعة وتسعين -
رحمه الله- لو قيل: إنه هو واضع هذا الفن -فن علم أصول الدعوة؛ لم يكن ذلك القول بعيدًا، على أن الوعظ والتذكير والقصص كلها تندرج تحت معنى واحد هو الدعوة إلى الله بالكلام أو بالخطابة.
وما ورد عن السلف من ذم للقصاص فهو محمول على ما لم يكن فيه علم الكتاب والسنة، أو ما لم يتحرَّ أصحابه فيه الصدق والصواب والإخلاص، ولقد عُني العلماء بالتفصيل في مسائل علاج النفوس ومداومتها؛ فضرب الغزالي بسهم وافر في كتابه (منهاج العابدين) وأبواب من (إحياء علوم الدين) وكذا ابن حزم في كتابيه (علل النفوس ومداوتها) و (الأخلاق والسير)، وأوفى على الغاية شيخا الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في كتبهما النافعة، لا سيما (مدارج السالكين) لابن القيم (في شرح منازل السائرين) و (حادي الأرواح) و (الفوائد) وغيرها من كتب ابن القيم و (التحفة العراقية في الأعمال القلبية) لابن تيمية وغير ذلك. وما زال أهل العلم يضعون كتب في الوعظ وفي الخطابة تارة وفي تربية النفوس ورياضتها تارة أخرى، وربما جمعوا بين السير والتراجم من جهة والدعوة إلى إصلاح النفوس من جهة أخرى، كما فعل أبو نعيم الأصبهاني في كتابه (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء) وكما فعل الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء)، وربما جمعوا بين السيرة النبوية والفقه والدعوة إلى الاقتضاء والتأسي كما فعل ابن القيم في كتابه (زاد المعاد في خير هدي العباد)، وربما تضمنت كتب الآداب هذا المعنى ككتاب (أدب الدنيا والدين) للماوردي و (الآداب الشرعية) لابن مفلح الحنبلي، كما صنفت كتبٌ مبكرة في الحسبة وأحكامها وآدابها ككتابي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) للخلال وابن تيمية، و (معالم القربى في أحكام الحسبة) لابن الأخوة الشافعي.