الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس: 1 مدخل إلى علم الدعوة
.
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(مدخل إلى علم الدعوة)
1 -
التعريف بالدّعوة
إلى الله
التّعريف بالدّعوة
الحمد لله الذي بفضله تتمّ الصالحات، وبتوفيقه تُزكَّى الأعمال وبرحمته تُرفع الدرجات. قال تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} . (المجادلة:11) وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:4، 5).
وأشهد أنّ سيدنا محمداً عبده الله ورسوله، شرّفه الله بحَمْل رسالته، وتبليغ دعْوته، وخاطَبه بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} (الأحزاب:45، 46).
اللهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن دعا بدعْوته إلى يوم الدِّين. وبعد:
التّعريف بالدّعوة
أولاً: التعريف بالدعوة إلى الله، في اللغة، وفي اصطلاح العلماء:
ففي اللغة: جاء في "دائرة معارف القرن العشرين" ما يلي:
"دَعاه" يَدْعوه دعاءً ودعوى: ناداه، وصاح به.
و"دعا له": طلب له الخَير من الله تعالى.
"دعا عَليه": طلب له الشَّر من الله تعالى.
"تداعى الناس": دعا بعضُهم بعضاً.
وجاء في "لسان العرب":
"الدعوة": المَرة الواحدة من الدّعاء.
و"الدُّعاة": قومٌ يدْعون إلى بَيعة هدىً أو ضلالةٍ، واحدُهم: داعٍ. ورجُل داعِيَة، إذا كان يدعو الناس إلى دِين أو بدعة، وأُدخِلت الهاء في "داعية" للمبالغة.
وبهذا يتّضح أن كلمة "دعا" ومشتقّاتها تدور في اللغة بين الداعي وما يَدعو إليه من خَير أو شَر.
الدعوة في اصطلاح العلماء:
عُرِّفت بعِدّة تَعريفات، منها ما يلي:
التعريف الأوّل: حَثّ الناس على الخَير والهُدى، والأمْر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ليَفوزوا بسعادة العاجل والآجل.
التعريف الثاني: هي: قيام العلماء المُستنيرين في الدِّين بتعليم الجمهور من العامّة ما يُبصِّرهم بأمور دِينهم ودُنياهم، على قَدر الطاقة.
التعريف الثالث: إنقاذ الناس من شرٍّ واقع، وتحذيرهم من أمر يُخشى عليهم من الوقوع في بأسه.
ثانياً: حاجة البشر للدعوة إلى الله:
لقد خلَق الله الإنسان في أحسن تقويم، واستخلفه في أرضه، وائْتَمَنَه على بعض أسرار كوْنه، وفضَّله على كثيرٍ مِن خَلْقه. قال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء:70).
هذا التكريم والتفضيل ليس لكوْن الإنسان يأكل، أو يشرب، أو يتناسل؛ فهذه أمور يَشترك فيها مع كثير من الكائنات، ولكنْ خَلقه الله لرسالة كريمة وغاية عُظمى، تَنحصر في الأمور التالية:
أولاً: استخلاف الله للإنسان في الأرض، وتسخير الكون لخدمته. قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم:32 - 34).
ثانياً: تحمُّل الأمانة التي شرَّفه الله بحَمْلها، واصطفاه للقيام بأعبائها، وتقبَّلها طَواعيةً، بينما اعتذرت السماوات والأرض والجِبال عنها، لِعِظم شأنها وخُطورة تبِعاتها. قال تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72).
ثالثاً: عبادة الله سبحانه وتعالى وطاعتُهُ، والتزام ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه. قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات:56 - 58).
رابعاً: تَوطيد الرَّوابط الأُسَريّة من خِلال النَّسب والمُصاهرة. قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (النحل:72).
كما عمّق العلاقات الإنسانية بالتعارف والتعاون. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحُجُرات:13).
ولن يستطيع الإنسان أن يُحقِّق هذه الأمور بنفسه، أو أن يَمضيَ في الحياة مُعتمداً على عَقله فقط، أو أن يَسير وفْق رغباته ونَزواته وتَبَعاً لأهوائه؛ فكان من رَحمة الله بالبَشر أن أرسل لهم الأنبياء والمرسلين، وأيّدهم بالوحي والمعجزات، ليدْعُوا الناس إلى الطَّريق المُستقيم. قال تعالى:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء:165).
هذا، ولقد ظهرت حاجةُ البشرية الشديدة للدّعوة إلى الله، التي تَرتكز على وحْي السماء، ورسالات الأنبياء، وسلوك الأتقياء، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: إن الصراع بين الإنسان والشيطان لن يَنطفئ لهيبُه، ولن تَخمد جَذوته. فمنذ أن خلَق الله آدم عليه السلام وأمَر الملائكة بالسجود له، -سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة-، فامتثلوا لأمْره سبحانه وتعالى، إلاّ إبليس الذي أنكر وأعرض، وأدبر واستكبر، وهدَّد وتوعّد، فأُخرِج من الجَنة صاغِراً ذليلاً. قال تعالى:{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأعراف:13 - 18).
وبهذا أصبحت الكرة الأرضية مَيداناً فَسيحاً وساحةً رَحبة للنِّزال بين الإنسان والشيطان. ولو تُرك الإنسان في هذه المَعركة وَحْده دون وحيٍ من السماء يَحفظُه، ويُرسل الله الرسل لتُرشِده، والدعاة ليُحذِّرونَه، لتمكَّن الشيطان منه،
وأفسَدَ عَقيدتَه، وشوّه فِطرتَه؛ لذا كانت حاجة الإنسانية ماسةً للدّعوة إلى الله، لتَتخلّص من شَرّ الوسواس الخَناس الذي يُوسوس في صُدور الناس.
ثانياً: لقد أودع الله بين حنايا النَّفس البَشرية العديدَ من الغَرائز. قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران:14).
وهذه الغرائز تَغْلي داخل كيان الإنسان كالمِرْجل، وكلّ غَريزة تَتدَافع وتَتزاحَم لبَسْط إرادتها على سلوك الإنسان وتَصرّفاته.
وهذه الغرائز إن لم تُحكم بميزان الشَّرع، وإن لم تُضبط بمقاييس وحْي السماء ورسالات الأنبياء، فإنها تَنطلق مَسعورة لإشباع حاجاتها دون تَدبّر ورَويّة، ودون التفات لأوامر الله، مُتجاهِلة الأحكام الشرعية، مُحطمةً للتَّقاليد والأعراف الاجتماعية، فيَنتَكس الإنسان إلى سلوك الحَيوان، بل أضلّ من الحيوان. قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف:179).
لذلك كانت الحاجة ضروريةً للدّعوة إلى الله، لتنظيم تلك الغَرائز البشريّة، وإشباعِها في إطار شَرْع الله الذي لا يَكبِتُها، ولا يَحرم الإنسان منها، ولا يَترك لها الحَبل على الغَارب، كالجَواد الجامِح؛ بل نَجد الإسلام العَظيم يُهذِّبها، ويَضبط دوافِعها. ولن يتمّ ذلك إلاّ من خِلال الدّعوة إلى الله على هدىً وبصيرة.
ثالثاً: إنّ العَقل البشري، مع أنه مَركز التَّوجيه، ومحور التَّفكير، ومَناط التَّكليف، وهو الذي يُميِّز الإنسان عن الحَيوان، فإنه لا يُحقِّق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، للأسباب التالية:
أولاً: قُصور العقل الإنساني، لأنه يَستقي المَعلومات من الحَواسّ، بواسطة الجِهاز العصبي الذي يَمتدّ بين خلايا الجسم وأنسجته وعظامه، ليتَّصل بالمخ في نظام عَجيب، وتناسُق مُعجِز مُبهر، يُنبئ عن قُدرة الخالِق، وعظَمة الصّانع سبحانه وتعالى. ومع ذلك، فالعَقل ليس مَعصوماً من الخطإ، وأحكامُهُ ليست صواباً على وجْه الإطلاق؛ فهو يَحكم على الشيء من خِلال ما تُقدِّمه الحَواسّ الخَمس من مَعلومات، فإذا فَقَدت إحدى الحواسّ عَملها بسبب مَرض أو عِلّة بها، تَوقَّف العَقل عن مَعرفة حَقيقة الجُزئية الخاصّة بتلك الحاسّة المُعطَّلة.
ثانياً: تفاوت العَقل البَشري، فعقول البَشر تَختلف في الفَهم، وتَتفاوت في الإدراك، وتَتدرّج في الذكاء، ممّا يَجعل الحُكم على الأشياء يَختلف اختلافاً ظاهراً بين بني البشر، كما أنّ العقل يَخضع لمؤثِّرات كَثيرة، ولا سيما في هذا العصر الذي يحاصَر الإنسان بالغزو الفكري الذي تبُثّه أجهزة الإعلام المَرئية والمَسموعة والمَقروءة، ممّا أدّى إلى التفاوت العَقلي في شتّى المجالات، واختلفت النظرة والحُكم على الأشياء من دولة لدولة، ومن جماعة عن جماعة أخرى. ولقد صوّر القرآن الكريم اختلاف العقول في قوله تعالى:{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون:53).
ثالثاً: عَجْز العقل البشريّ عن مَعرفة ما وراء عالَم الحواسّ والمُشاهدة. إن العقل البَشري تقف حُدودُه عند عالَم الحِسِّ والمُشاهدة، أمّا ما عدا ذلك، كالبَعْث والحَشْر، وعالَم الغَيب، وما يتعلّق بالرُّوح، والمَلإ الأعلى، فلا طَريق لمعرفته من خِلال العَقل، وإنّما تتمّ المَعرفة عَبر الوحي الإلهي، ورسالات الأنبياء. ولقد حَدّد القرآن الكريم الأمور التي يقف العقل البشري قاصراً وعاجزاً ومستسلماً
أمامها، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان:34)، وكذلك ما يتعلّق بالروح وأسرارها، قال تعالى:{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء:85)، وكلّ ما يتّصل بعالَم الغيْب، قال تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} (الجن:26، 27).
رابعاً: خُضوع العقل للْهوَى.
"الهوى" في اللغة هو: مَيْل النفس وانحرافها عن الشيء، ثم استعمل في المَيل المَذموم، فيقال:"اتّبع هواه"، و"هو من أهل الأهواء". وقد حذَّر القرآن الكَريم مِن اتّباع الهوى، وانسياق الإنسان وراء نَزواته ونَزعاته التي قد تَطمس الحَقيقة. قال تعالى:{فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} (النساء:135).
ولقد بيّن القرآن الكريم خُطورة اتّباع الهوى، وآثارَه السَّيئة على الإنسان، قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية:23).
والعَالَم المُعاصر الآن يَشهد خَللاً في العَقيدة، واضطراباً في الفِكر، وانحرافاً في السُّلوك، بسبب الأهواء. نَجِد ذلك واضحاً في ميادين السِّياسة، والاجتماع، والثقافة، والاقتصاد. فاتّباع العُقول دون ضوابِط الشَّرع، يَفتَقد في كَثير من الأحيان للرؤية الصائبة، والفِكر السديد، والعَمل الرشيد.
خامساً: عَجْز العقل البَشري عن إدراك الحِكمة من التَّشريع؛ فهناك أمور قد يَعْرف العقل حِكمةَ تَشريعها، ويعرف الفوائد المُترتِّبة على هذا التَّشريع. وهناك أمور يَقف العقل البشري عاجزاً عن إدراك الحِكمة من تَشريعها، ويَظل حائِراً مُتسائلاً عن سِرّ تَحليلها أو تَحريمها.
ممّا سَبق، يتَّضح أنّ العَقل البَشري لا يستطيع وحْده أن يوجِّه الإنسان إلى السعادة، وأن يُحقِّق له الطمأنينة والأمْن، وأنّ الدَّعوة إلى الله ضَرورة فِطرية يَحتاج إليها الإنسان لتَحقيق خَيرَيِ الدنيا والآخرة.
سادساً: إنّ الدعوة إلى الله أثَرٌ من آثار رحمة الله بالعباد، وشفقته سبحانه وتعالى بهم، وتَعطّفه عَليهم؛ فهي تَحمل بين ثناياها ينابيع الخير للإنسان، حيث تَزْكو بعَقله، وتُطهِّرُ قَلْبَه، وتُنقِّي نَفسَه، وتُربِّي ضَميره، وتُوقِظ فيه معانيَ الفِطرة السّويّة التي فَطر الله الخَلْق عليها. ولقد شَملت الرحمةُ الإنسانية كلّها، بدعوة أشرف الخَلق وخاتم الرُّسل محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنّما أنا رَحمة مُهداة)).
وبهذا، يتبيَّن مَدى حاجة الإنسانية إلى الدّعوة إلى الله، وشَوق العالَم وتَطلّعه وتلهّفه إلى دعاةٍ يأخذون بيده من الكهف المُظلم الذي يَختَنق فيه، وتَنعدم رؤية الطريق المُستقيم وَسْط العَواصف التي تَعصف به، حيث أفقدته آدميَّته، وأنْسَتْه إنسانيّته؛ فالأمل مَعقودٌ، والرجاء مقصودٌ، وأيدِي البشرية تَمتدّ لأمّة الدعوة، تَستغيث بها، وتُناشِدها أن تُنقِذها ممّا هي عليه الآن. قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110).