الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثالث عشر
(تابع: من خصائص الدعوة الإسلامية)
1 -
من خصائص دعْوة الإسلام
توافُق الدّعوة مع العقل والفطرة ُ
إنّ ممّا تفرد به الإسلام أنه دِين لا يتعارض مع العقول السليمة، ولا يصادم الفكر السّديد، ولا يتناقض مع الفطرة النّقيّة. ومن خلال التّعريف اللّغوي والاصطلاحي للعقل، يبرز مدى الارتباط بين شرْع الله وأحكامه، وبين العقل وخصائصه.
"العقل" هو: العلْم بصفات الأشياء، مِن حُسْنها وقُبْحها، وكمالها ونقصانها، أو العلْم بخير الخيريْن وشرّ الشّرّيْن، أو هو: القوة التي يكون بها التمييز بين القبح والحسن، وأنه نور روحاني به تُدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية.
وسُمي عقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه عن التّورّط في المهالك.
والعاقل: هو الإنسان المدرِك الفاهم للشيء، أو هو الذي يَحبس نفسه ويردّها عن هواها أخذاً من قولهم:"اعتُقِلَ لسانه، إذا حُبس ومُنع الكلام".
والشيء المعقول: ما يعتقله الإنسان بعقله، ويطمئنّ له قلبه، وينشرح له صدره.
مكانة العقل في الإسلام:
حظي العقل في رحاب الإسلام بمكانة سامية ومنزلة عليا، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذه المكانة في قوله:((ما خَلق الله خلقاً أكْرمَ من العقل))، وقال صلى الله عليه وسلم:((ما كسب أحدٌ شيئاً أفضلَ من عقلٍ يهديه إلى هدىً، أو يَرُدّه عن ردىً)).
ولقد امتدح القرآن الكريم أصحاب العقول السليمة التي تَهدي إلى الحق، فكلّ أمر حسنٍ ذي بالٍ يوصف أصحابه بالعقل والعلم. قال تعالى:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَاّ الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:43).
وكل موضع يذمّ فيه الكفّار، يكون بسبب الجهل وفقدان العقل الراشد والفكر السديد، قال تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة:171).
ولقد أطلق القرآن الكريم أسماءً كثيرة على العقل، ممّا يدلّ على شرف المسمَّى ومكانته؛ ومن ذلك ما يلي:
أ- الفؤاد: وهو الذي تستقرّ فيه العلوم والمعارف الثابتة والعقائد الراسخة، مقترنة بشحنة من العواطف. قال تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء:36).
ب- اللُب: وهو الدائرة الواقعة في عمق مركز التفكير، وهو مركز استقرار المعرفة العلْمية، ومركز التّذكّر والاعتبار والاتّعاظ، وعنه تصدر النتائج الفكرية إلى الفؤاد والقلب والصدر، لتحريك العواطف. قال تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُولُو الْأَلْبَابِ} (البقرة:269).
ولقد وصف الله سبحانه وتعالى المتّقين من عباده الذين يتفكّرون في خلْق السماوات والأرض، ويشاهدون عظَمة الخالق لهذا الكون، ويعلمون مدى حاجة البشر إلى شرع الله الحكيم، بأنهم:"أولو الألباب"؛ قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:190، 191).
كما يُطلق على العقلاء بأنهم "أولو النُّهَى"؛ قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لأُولِي النُّهَى} (طه:54)، وأنهم "ذوو حِجْر"، أي: عقل وفهم وإدراك؛ قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (الفجر:5).
أي: لِذي عقل ولبّ وحِجا. وإنما سمي العقل "حِجْراً""لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال، ومنه: حِجر البيت الحرام، لأنه يمنع الطائف من اللّصوق بجدره".
حفظ الإسلام للعقل:
حرص الإسلام على العناية بالعقل والمحافظة عليه، وذلك بما يلي:
أولاً: حرَّم الإسلام تحريماً قاطعاً كلّ ما يُذْهِب العقل ويُغيِّب الفكر، وجعَل المحافظة على سلامة العقول إحدى ضروريات الإنسان الخمْس، وهي: النفْس، والدِّين، والعقل، والعِرض، والمال.
ولذلك حرّم الله الخمر والمُسكرات والمُفتِّرات بكافة أنواعها، السائلة منها والجامدة، ما يُشرب منها وما يُحقن أو يُشمّ، وكلّ ما يُخامر العقل ويَستره ويُغطّيه. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة:90، 91).
وعن أنس رضي الله عنه قال: ((لعَن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرَها ومُعتصرَها، وشاربَها، وحاملَها، والمحمولةَ إليه، وساقيها، وبائعَها، وآكلَ ثمنها، والمشتري لها، والمشترَى له))، رواه ابن ماجة والترمذي.
ثانياً: أطلق الإسلام للعقل عنان الفكر بما لا يتصادم مع عقائد الدِّين وثوابت الشّرع، ومنَحه حرية التعبير عما يجيش بعقله؛ فلا يصادر الإسلام رأياً، ولا يكبت فكراً، إلاّ إذا كان فكراً يُنكر ما هو معلوم من الدِّين بالضرورة، أو يعارض قاعدة من قواعد الشريعة الإسلامية، أو يخالف فطرة الله التي فطر الناس
عليها، كأن يُزيّن لفاحشة، أو يدعو إلى مُنكَر من خلال الفنّ الساقط والأدب الرخيص. ولقد أعطى الإسلام الحرية للعقل في مجالات كثيرة، ووضع له الضوابط التي تحول بينه وبين الانحراف في الفكر، والضلال في الرأي. ومن ذلك:
أ- النظر في ملكوت السماوات والأرض، قال تعالى:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} (يونس:101).
ب- إمعان الفكر في النفس البشرية، وما تحمل بين ثناياها من آيات العظمة، ودلائل القدرة، وأسرار الخلْق؛ قال تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات:21، 22)، وقال تعالى:{فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} (الطارق:5).
ج- أن يبني العقل أفكاره على الدليل القاطع والبرهان الساطع، والعلْم الذي يقوم على اليقين، وأن يبتعد عن التخمين والظن وعدم البرهان؛ قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الأحقاف:4)، وقال تعالى:{أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النمل:64).
وقد طلب الله من المعاندين والمعارضين لِدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا ما لديهم من علْم، وما تحت أيديهم من أدلّة؛ قال تعالى:{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام:148).
د- أن يتمهّل العقل في الحُكم على الأشياء، وأن يتأنّى للوصول إلى الحقيقة. وينبغي أن تتعاون العقول وتتلامح الأفكار، لمعرفة الحقّ والصواب. قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ:46).
هـ- أن يتحرّر العقل من اتّباع الهوى؛ قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية:23)، وأن يتخلّص من مؤثِّرات البيئات المُنحرفة، ومن عادات وتقاليد ما توارث عن الآباء من عادات وتقاليد تتنافى مع صحيح العقيدة. قال تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (الزُّخرُف:19 - 23).
وهكذا يتعانق العقل ويتصافح مع الإسلام في مودّة صادقة وتعاون مستمر، لبناء حضارة إنسانية مرتبطة بوحي السماء ورسالات الأنبياء، التي تزيل غشاوة العقول، وتذيب صدأ القلوب، وتحقّق للإنسان ما خلَقه الله لأجله. أمّا حينما ينطلق العقل الإنساني بعيداً عن ضوابط الشّرع، ويندفع وراء الأهواء والظّنون، ويتّبع خطوات الشيطان الذي يُزيِّنُ له الانحراف في الفكر تحت مسمَّى الحرية، والضلال في الرأي تحت دعاوى الإبداع، فإنه يكون كالجواد الجامح وكالثور الهائج الذي يُحطِّم كلّ ما حوله. وإنّ ما تشاهده البشرية من انحراف في العقيدة،