الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد تشرّبت الصحابة -رضوان الله عليه- روح الإخلاص، وضربوا في ذلك أمثلة نادرة فيه، تلألأت بها صفحات الإسلام. ومن ذلك: إخلاص جعفر بن أبي طالب في مناقشته مع نجاشي الحبشة، وصدْقه وإخلاصه في إبداء رأي الإسلام في عيسى عليه السلام. وقد كان من ثمرة إخلاصه رضي الله عنه: أنّ النجاشي رقّ قلبه وبكى، حتى اخضلّت لحيتُه، وقال:"إنه وعيسى ليخرجان من مشكاة واحدة"، وأبقاهم في الحبشة هو ومَن معه من المسلمين، ولم يُسلمهم لعمرو بن العاص.
ولقد كان الإخلاص الذي تخلّق به مصعب بن عمير رضي الله عنه من أكبر أسباب دخول الأوس والخزرج في الإسلام.
وأصبح الإخلاص خُلُق المسلمين، يتميّزون به وينفردون به عن غيرهم من الأمم، يأخذونه من سلَف الأمّة إلى خلَفها، من الفقهاء والدعاة. وغدا الإخلاص من أهمّ عوامل نجاح الدّعوة إلى الله، ومن الأسباب الرئيسة والوسائل المفيدة في اقتناع المَدعُوِّين وتأثّرهم واستجابتهم لِما يُلقى عليهم من تعاليم الشّرع الحكيم وبيان أحكامه.
وما انتشر الإسلام في أرجاء العالَم إلاّ مِن خلال صدْق النية، وإخلاص التّوجّه إلى الله، والتجرّد من كلّ شوائب الإشراك في الأعمال، قال تعالى:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب:23).
تابع: الإخلاص في القول والعمل
فخُلُق الإخلاص من محامد الإسلام وفضائله، وقد حظي في رحاب القرآن والسُّنّة بتوجيه المسلمين إليه، وحثّهم عليه.
والرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة الحسنة والأسوة الطيِّبة في الإخلاص، وقد أمره الله به في قوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (الزُّمَر:2، 3).
وخوطب به الناس جميعاً، قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البيِّنة:5).
ومعنى {حُنَفَاء} : سُمحاء، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد:((إني أُرسِلْتُ بحنيفيّة سَمْحة)).
ومن معنى {حُنَفَاء} أي: مُتحنِّفين، أي: مائلين عن الشرك إلى التوحيد، ومعنى {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} ، أي: المِلّة القائمة العادلة، أو الأمّة المستقيمة المعتدلة.
وإخلاص القلوب، وسلامة النوايا، وحسْن الطّوايا: سرّ من الأسرار، لا يطّلع عليه إلاّ علاّم الغيوب والعالِم بما في الصدور، قال تعالى:{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران:29).
ولذلك كان ميزان صحّة العقيدة وإخلاص القصْد لله هو: السلامة من كلّ مظاهر الشرك، وحُسْن النّية في أداء العبادات والطاعات وسائر الأعمال؛ فعن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّما الأعمال بالنّيات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى. فمَن كانت هجْرتُه إلى الله ورسوله، فهجْرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته لِدنيا يُصيبها أو امرأة يَنكحها، فهجْرتُه إلى ما هاجَر إليه))، رواه الشيخان.
فهذا الحديث الشريف: أصلٌ عظيم من أصول الإسلام، وقاعدة ثابتة تحكُم على تمحيص الأعمال وتخليصها مِن كلّ شوائب الشّرك وكلّ علامات الرياء.
فعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشّركاء عن الشِّرك. مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركْتُه وشِرْكَه))، رواه مسلم.
وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم: أنّ أوّل ما يحاسب عليه الإنسان يوم القيامة هو: إخلاص النّيّة لله عند أداء العمل؛ فعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((إنّ أوّل الناس يُقضى يوم القيامة عليه: رجلٌ استُشهد، فأُتِيَ به فعرّفه نِعمَه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استشهدْتُ. قال: كذبْتَ! ولكنك قاتلْتَ لأن يُقال: جريء؛ فقد قيل. ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلّم العلْم وعلّمه، وقرأ القرآن، فأتِيَ به فعرّفه نِعمَه فعرفها. قال فما عملْتَ فيها؟ قال: تعلمت العلْم وعلمّته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبتَ! ولكنك تعلّمت ليقال: عالِم، وقرأت ليُقال: قارئ؛ فقد قيل. ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كلّه، فأتيَ به فعرّفه نِعَمَه، فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تُحبُ أن يُنفق فيها إلاّ أنفقت فيها لك. قال: كذبتَ! ولكن فعلت ليُقال: هو جواد؛ فقد قيل. ثم أمر به فسُحب على وجهه، ثم ألقي في النار))، رواه مسلم.
إن هذا الحديث الشريف يوجب على الدّعاة: أن يراجعوا مواقفهم، وأن يعيدوا ترتيب حساباتهم في كلّ موعظة يعظون الناس بها، ويسألون أنفسهم: كم هي بعيدة أو قريبة من فضيلة الإخلاص؟
وعلى العلماء والمفكّرين أن يتساءلوا: أين ميزان الإخلاص في نتاجهم الفكري وآرائهم العلْميّة؟ وما هي طوايا نفوسهم؟ وإلى من يقصدون بأفكارهم؟
فعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تعلّم علماً ممّا يُبتغى به وجْهُ الله عز وجل، لا يتعلّمه إلاّ لِيصيب به عَرَضاً من الدنيا، لم يجِدْ عَرْفَ الجنّة يوم القيامة))، رواه أبو داود بإسناد صحيح.
عَرْف الجنة، أي: ريحها.
أمّا إذا توجّه العلماء والدّعاة في ميدان العلْم والدّعوة، وهم يتجرّدون من شبهة الرياء والنفاق، ثم أُثنِيَ عليهم ولهجَتْ ألْسنة الناس بشكرهم، فإنّ هذا لا يُقلِّل من قيمة إخلاصهم؛ فعن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- قال: قيل لِرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتَ الرّجُل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال:((تِلك عاجِل بُشرى المؤمن))، رواه مسلم.
وعلى أولي الأمْر: أن يفتحوا قلوبهم ويمدّوا أيديهم للمخلصين الصادقين الذين يتوسّمون فيهم الإخلاص والصّدق، ولا يُبعدونهم عنهم ولا يتخلّصون منهم، قال تعالى:{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الأنعام:52).
إنّ قيمة المؤمن -ولا سيما الدّعاة إلى الله- لا تكمن في رفعة منصب أو علوّ منزلة، وإنما تكمن فيما يحمله قلبه من إخلاص، ينعكس هذا على ما يدعو إليه
الناس. روي عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن الله تعالى لا ينظر إلى صُوَركم وأموالِكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))، رواه مسلم.
وروي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُبعثُ كلّ عبدٍ على ما مات عليه))، رواه مسلم. أي: من الإخلاص أو عدَمه.
والإخلاص ثوابه كبير ومَهره غالٍ. وقد يُبتلى الدّعاة ويُفتنون ليُتبيّن حقيقة إخلاصهم وصدقُ نواياهم، قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد:31).
وقال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت:2، 3).
فعلى قدْر إخلاص الدّعاة يكون العوْن من الله؛ فكلّما زاد الإخلاص، زاد التأييد والتوفيق من الله. وكلّما ضعُف الإخلاص وتلاشى، قلّ عون الله وتأييده.
ويحكى في هذا قصّة رمزية: "أنّ عابداً كان يعبد الله دهراً طويلاً، فجاءه قومٌ فقالوا: إنّ ها هنا قوماً يعبدون شجرة من دون الله تعالى. فغضب لذلك، وأخذ فأسَه على عاتقه، وقصَد الشجرة ليقطَعها. فاستقبله إبليس في صورة شيخ، فقال: أين تريد، رحمك الله؟ قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة. قال: فإني لا أتركك أن تقطعها. فقاتله. فأخذه العابد فطرَحه إلى الأرض، وقعد على صدره. فقال له إبليس: أطلقْني حتى أكلِّمك! فقام عنه. فقال إبليس: يا هذا، إن الله تعالى قد أسقط عنك ولم يفرضه عليك. وما تعبُدها أنت، وما عليك من غيرك. ولله تعالى أنبياء في أقاليم الأرض، ولو شاء لبعَثهم إلى أهلها وأمَرَهم بقطْعها. فقال العابد: لا بدّ لي مِن قطْعها. فنابذه للقتال. فغلبه العابد وصرَعه، وقعد على
صدره. فعجز إبليس، فقال له: هل لك في أمْر فصْل بيني وبينك؛ وهو خير لك وأنفع. قال: وما هو؟ قال: أطْلِقْني حتى أقول لك. فأطلقه. فقال إبليس: أنت رجل فقير لا شيء لك، وإنما أنت كَلٌّ على الناس يعولونك. ولعلك تحبّ أن تتفضّل على إخوانك وتواسي جيرانك، وتشبَع وتستغني عن الناس. قال: نعم.
قال: فارجع عن هذا الأمر، ولك عليّ أن أجعل عند رأسك في كلّ ليلة ديناريْن إذا أصبحت أخذتَهما، فأنفقتَ على نفسك وعيالك، وتصدّقت على إخوانك؛ فيكون ذلك أنفع لك وللمسلمين مِن قطْع هذه الشجرة.
ففكّر العابد وقَبِل ما عرَضَه عليه إبليس، وذهب إلى متعبّده وبات. فلما أصبح وجَد تحت رأسه ديناريْن، فأخذهما. وكذلك من الغد. ثم أصبح في اليوم الثالث وما بعده، فلم يجد شيئاً، فغضب، وأخذ فأسه على عاتقه. فاستقبله إبليس في صورة شيخ، فقال له: إلى أين؟ قال: أقطع تلك الشجرة، فقال: كذبْتَ والله! ما أنت بقادر على ذلك، ولا سبيل لك إليها. قال: فتناولَه العابد ليفعل به كما فعل أوّل مرة، فقال: هيهات! فأخذه إبليس وصرَعه، فإذا هو كالعصفور بين يديْه. وقعد إبليس على صدره، وقال: لتنتهِينّ عن هذا الأمْر أو لأذبحنّك؟
فنظر العابد فإذا لا طاقة له به، قال: يا هذا، غلبْتني، فخلِّ عني، وأخبرني كيف غلبْتُك أولاً وغلبتَني الآن؟
قال: لأنك غضبت أوّل مرة لله، وكانت نيّتك الآخِرة، فهزمني الله لك. وهذه المرّة غضبتَ لنفسك وللدنيا فصرَعْتُك".
هذه القصة الرمزية تُبيّن في وضوح وجلاء: حينما تصْدق النّية ويتحقّق الإخلاص، يكون العون والفرَج من الله. وحيثما تمتزج النية والعمل بالدنيا، ويتوجّه الإنسان بالعمل مجرّداً من الإخلاص، تكون الهزيمة والاندحار.
يؤيّد ما ذكرناه: ما جاء في حديث الغار الذي رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((انطَلَق ثلاثةُ نَفَر ممّن كان قبلَكم حتى أواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار. فقالوا: إنه لا يُنجيكم من هذه الصخرة، إلاّ أن تدْعوا الله بصالح أعمالكم
…
)) إلى آخر الحديث.
وأخذ كلّ منهم يسرد عملاً قام به مخلصاً لله، فانفرجت الصخرة، وخرجوا سالمين نتيجة حُسن نيّتهم وإخلاصهم لله فيما قاموا به من أعمال.
وإنّ من ثمرات حُسن النية والإخلاص: أن المسلم إذا حبَسه مرضٌ أو عذرٌ عن عمل كان يقوم به مخلصاً، فإن الله يمنحه ثواب صدْق نيّته، ويعطيه الأجر عن هذا العمل الذي كان ينوي صادقاً ومُخلصاً أن يقوم به. ومن ذلك: أولئك النفر الذين رغبوا في الجهاد صادقين، ونفروا في سبيل الله مُخلصين، غير أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذر لهم بعدم وجود ما يَحملهم عليه، فحزنوا وبكَوْا لِحرمانهم من شرَف المجاهدة والغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل قول الله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَاّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (التوبة:91، 92).
وكان من ثمرة هذا الإخلاص في صدْق النِّية: أن أعطاهم الله أجْر مَن شارك في تلك الغزوة. فعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ، فقال: ((إنّ بالمدينة لَرجالاً ما سِرْتُم مسيراً، ولا قطعْتُم