الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مراتب التّصدّي للمُنكَر وإزالته
من الأسُس والقواعد التي يقوم عليها إنكار المُنكر وإزالته: وقوفُ الدّعاة على مراتب التّصدّي له حسب إمكاناتهم وقُدراتهم، وأن يستطلعوا أو يعرفوا حالة مَن يقترف السيئات، ومدى تقبّله للتّوجيه والنّصح، وأن يتحسّب الداعية مدَى ردِّ فعْله: هل سيقبل الوعظ؟ أم سيُكابر ويعاند ويتبجّح بالمعصية؟ هل سيَردعه التّصدّي باليد؟ أم سيؤدِّي ذلك لفِتن قد تكون أسوأ من ردْعه؟
ولقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وبدأ صلى الله عليه وسلم بأعلى الدرجات وأقواها، ثم تدرّج إلى الأدنى حسب الاستطاعة والتمكّن؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((مَن رأى منكم مُنكراً فلْيُغيِّرْه بيده. فإن لم يستطِعْ، فبلِسانه. فإن لم يستطعْ، فبقلْبه؛ وذلك أضعف الإيمان))، رواه مسلم.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ما من نبيٍّ بعَثَه الله في أمّة قبْلي إلاّ كان له مِن أمّته حواريّون وأصحاب يأخذون بسُنّته ويقتدون بأمْره. ثم إنها تَخلُف مِن بَعْدهم خُلوفٌ، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمَرون. فمَن جاهَدَهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبّةُ خردل))، رواه مسلم.
فمِن هذيْن الحديثيْن الشريفيْن، يضع الرسول صلى الله عليه وسلم مراتب إنكار المنكر والتصدي له على النحو التالي:
المرتبة الأولى: التّغيير باليد:
وهي أقوى المراتب وأعلاها، وهذه لا تتيسّر لآحاد الأمّة على وجه العموم. ولا بدّ من بيان التفصيل في هذا الأمر، لما له من أهمية في ميدان الدّعوة، ولِما ينتج عن عدم مراعاة ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم مِن فتن؛ ولذلك كان البدء بالتّغيير باليد لِمن يَقدر عليه وهم كالآتي:
أولاً: في محيط الأسرة، يتولّى التّغيير باليد:
- الوالدان على أبنائهما، إذا وجدا في الأولاد انحرافاً في السلوك، وانصرافاً عن الواجبات، وارتكاباً للمُحرّمات، ولم يُجْدِ معهم الترغيب والترهيب أو الوعد والوعيد. وهذا واجب عليهما، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته: فالحاكم راعٍ وهو مسؤول عن رعيته. والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسؤولة عنه
…
))، متفق عليه.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كفَى بالمرء إثماً أن يُضيِّع من يقوت))، رواه أبو داود وغيره، بإسناد صحيح.
- وكذلك للأخ الأكبر على أخيه الأصغر حقّ ممارسة التغيير باليد، ولكن لا يجب اللجوء للتغيير باليد إلاّ بعد استنفاد الطُرق الأخرى.
وهذا التغيير إمّا أن يُوجّه إلى أداة المعصية، كآلة الملاهي، أو كأس الخمر، أو غلْق التلفاز على من يشاهد مُنكراً، أو يتّجه إلى الفاعل نفسه، فيتم إبعاده
بالحسنى، أو بالتهديد، أو بالضرب، حسب واقع الحال، ووفْق مروءة العاصي أو عدم مروءته، ومدى درجة استجابته.
ثانياً: التغيير باليد حقّ لوليّ الأمْر، أو لِمن ينوب عنه، كالشّرطة أو المحتسِب. فمِن التّغيير باليد: إقامة الحدود على مَن خرج من شريعة الله، أو ارتكب معصية تستوجب حداً كالزنى، والسرقة، والغصب، وقطْع الطريق، وشُرب الخمر
…
إلخ.
وهذه إحدى المهام الرئيسة للحاكم: أن يحافظ على المجتمع ويؤمِّنه بإزالة المنكرات والتّصدي للمعاصي، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل:90).
ولقد مارس الأنبياء والمرسلون التغيير باليد حيثما تمكّنوا من ذلك، وحسب الجهد والطاقة. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
1 -
إبراهيم عليه السلام حطّم الأصنام بحيلة تَكشف سوأة القوم، وتفضح عبادتهم للأصنام. ونرى حِكمته عليه الصلاة والسلام في إزالة المُنكَر؛ فهو لم يُعلن أنه عازمٌ على فِعْله، ولم يتحرّك أمام أعينهم، لأنه ليس معه من الجند والأعوان مَن يَحمونَه أثناء التنفيذ، بل اتّجه لتحطيمها بعد انصرافهم عنها، ووضَع الفأس على عاتق أكبر الأصنام تمويهاً واستهزاءً لهم. قال تعالى مبيِّناً ما فعَله إبراهيم عليه السلام: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَاّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا
بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} (الأنبياء:57 - 63).
فيُؤخذ من هذه الآيات جواز الاحتيال في إزالة المُنكر وفْق مقتضى الحال، وحسب الظروف التي تقدّر مدى التّصدّي وحجْمه.
2 -
إقدام موسى عليه السلام على إحراق العِجل الذي عبَده بنو إسرائيل، ونسْفه في اليم نسْفاً. قال تعالى:{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} (طه:97).
"اليم": البحر.
3 -
الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما استتبّ له الأمر في المدينة المنورة بعد الهجرة، وتأسّست الدولة الإسلامية التي قامت على أسس ثلاثة: علاقة المسلم بالخالق سبحانه وتعالى، وتمّ ذلك من خلال بناء مسجدَيْ قباء ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ثم علاقة المسلمين بعضهم ببعض، وتم ذلك بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ثم إرساء العلاقة بين المسلمين وغيرهم، كالمعاهدة مع اليهود، ونصارى نجران، وغيرهم
…
وتمّ ضرْب الكفْر ضربات موجعة قاتلة في أنحاء الجزيرة العربية وأطرافها، وانكسرت شوكة الكافرين واليهود والمنافقين. وأصبح للإسلام قوّة ودولة وصوْلة وجوْلة. حينذاك تحوّل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والذي استمر بالقول فقط خلال مرحلة الدعوة في مكة، إلى التغيير باليد والإزالة بالقوة، ولم يكن
ذلك أمراً مأذوناً به ومباحاً مِن قِبل أفراد المسلمين، ولكن كان يتمّ بأمْر الرسول صلى الله عليه وسلم وبتوجيهاته، حتى لا تنقلب الأمور إلى فوضى. والأمثلة على ذلك كثيرة نقتطف منها النماذج التالية:
1 -
بعد فتح مكّة المكرّمة، اتّجه صلى الله عليه وسلم إلى الأصنام المحيطة بالكعبة المشرّفة وحطّمها بقضيب في يده قائلاً:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء:81). ودخل الكعبة المطهّرة وأزال ما فيها من تصاوير، وأرسل فرسان الصحابة -رضوان الله عنهم- لإزالة الأصنام في أنحاء الجزيرة العربية. فأرسل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه إلى الطائف لهدْم صنم اللات، وكانت صخرة كبيرة بيضاء منقوش عليها، فهدمها وحرّقها. وبعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى نخلة بين مكة والطائف، حيث صنم العزّى الذي كانت قريش تعظِّمه وتقدِّسه من دون الله. أما مناة فكانت بين مكان اسمه القديد بين مكة والمدينة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه فهدَمها. كما أرسله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن لإزالة ما بها من منكرات. فقد روى مسلم عن أبي الهيّاج، قال: قال لي عليٌّ: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألاّ تَدَعَ صورةً إلاّ طمَسْتَها، ولا قبراً مُشرفاً إلاّ سَوّيتَه".
ولقد تضمّن تغيير المُنكر وإزالته بالقوّة للأمور المتوقَّع خطرُها، درءاً للمفسدة وغلقاً لأبواب الفتن. ومن ذلك إقدام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قطع شجرة بيعة الرضوان التي ذكَرها الله في قوله تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح:18). وقد قطَعها لمّا رأى الناس ينزلون عندها ويتبرّكون بها.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم إذا رأى أمراً مُنافياً للعقيدة، نهى عنه بشدّة، وأمَر بتَرْكه، أو نزَعه بيده؛ ومن ذلك ما روي عن عمران بن الحصين رضي الله عنه:((أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حَلَقة من صفْر، فقال: ما هذا؟ قال: من الواهنة. فقال صلى الله عليه وسلم: انزعْها! فإنها لا تزيدك إلاّ وهناً؛ فإنك لو متّ عليها ما أفلحتَ أبداً))، رواه الإمام أحمد بإسناد لا بأس به.
الواهنة: عِرْقٌ يأخذ في المنكب وفي اليد كلّها فيؤلمها، وقيل: هو مرض يأخذ في العضد. وإنما نُهي عن الحلقة لأنه تميمة، ولأنه إنّما اتخذها على أنها تعصمه من الألم.
وعن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً:((أن لا يُبْقِيَنَّ في رقَبة بعير قلادةً من وتَر إلاّ قُطِعتْ))، رواه الشيخان.
والوتر: واحد الأوتار القوس، وكان أهل الجاهلية إذا اخلوْلق الوتر أبدلوه بغيْره، وقلّدوا به الدواب اعتقاداً منهم أنه يدفع العيْن عن الدابة.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتَماً من ذهبٍ في يد رجل، فنزعه فطرَحه، وقال: يعمد أحدُكم إلى جمرة من نار، فيجعلها في يده)). "فقيل للرجُل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خُذْ خاتَمك انتفِعْ به! قال: لا والله! لا آخذه أبداً، وقد طرَحه رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه مسلم.
فهذه الأمثلة وغيرها تفيد: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغيّر المنكر بيده حينما تمكّن من ذلك خلال المرحلة المدنية، وقد كان يرسل من أصحابه لإزالة المنكرات، وأن الصحابة -رضوان الله عليهم- ما كانوا يقدمون على أمْر أو نهْي إلاّ بإذن لهم من الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرهم به؛ وهذا أكبر ضمان لمرتبة التغيير باليد، وحتى لا
تنقلب حياة الأمن إلى فوضى تؤدي إلى الفتن بسبب إقدام آحاد الأمّة غير المكلَّفين من قِبَلِ وليّ الأمر بالتصدي للمنكرات وإزالتها بالقوة، فهذا تكليف بما لم يكلَّفوا به، وتحميل للنفس فوق طاقتها. وقد يوردها موارد التّهلكة إذا تصدّى الإنسان للمنكرات والمعاصي دون قوة تحميه، أو قانون يُسنده، أو هيئة تشدّ من أزره.
ثانياً: التّغيير بالقول:
قال صلى الله عليه وسلم: ((
…
فمَن لم يستطعْ فبِلِسانه)).
إن التّغيير بالقول هو جوهر الدّعوة إلى الله والتي تقوم على:
1 -
التبليغ، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (المائدة:67).
2 -
التذكرة، قال تعالى:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية:21،22).
3 -
النصيحة، قال تعالى على لسان هود عليه السلام لقومه:{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} (الأعراف:68).
4 -
الوعظ، قال تعالى:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (البقرة:275)، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ:46).
كلّ هذه الألفاظ تنطلق من قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125).
والتغيير باللسان له مراتب، ينبغي على الدعاة مراعاتها، وترتيب الأولويات؛ وهذه المراتب هي:
الدّرجة الأولى: التّعرّف، والمراد به: أن يعرف الدّاعي المُنكَر ويُحدّد موقعه وفاعلَه، دون تجسّس أو تتبّع؛ فلا ينبغي أن يسترق السّمع على دار غيره لِيعْلم ما يجري فيها من المنكرات، ولا أن يستخبر من جيرانه ليخبروه، فهذا ليس شأن آحاد الأمّة، إنما هذا يخصّ وليّ الأمر الذي يُخوِّل له الشّرع والقانون أن يتابع المنكرات ويتعرّف عليها بالتّتبع ونحوه.
الدرجة الثانية من درجات التغيير باللسان: التعريف، ويُقصد منه: تعريف مرتكِب المنكر بحقيقة جُرم ما ارتكبه، في أدب ولطف لاحتمال أنه فعَلَه لِجهل به، أو لكونه حديث عهد بإسلام، أو نشأ في قوم فشتْ فيهم البدع والخرافات. وإنما يجب على الداعية: أن يوضِّح الحُكم الشرعي فيما فعَله، ويُرشده بالحسنى.
الدرجة الثالثة: النهْي بالوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى؛ وهذا يتمّ في شأن مَن يعلم أن هذا منكَر، وأن فعْله إثم. ويذكر له آيات الوعد والوعيد، وينقل له مشاهد يوم القيامة وما فيه من أهوال للعصاة.
وفي هذا المقام يُبدي الإمام أبو حامد الغزالي ملاحظة دقيقة يقول عنها:
"وها هنا آفة عظيمة ينبغي على -مُنكر المُنكَر- أن يتوقّاها؛ فإنها مُهلِكة، وهي:
أنّ العالِم يرى -عند التّعريف- عزّ نفسه بالعلْم وذلّ غيره بالجهل، فربما يقصد بالتعريف الإدلال وإظهار التمييز بشرَف العلْم، وإذلال صاحبه -أي: صاحب المنكَر- بالنسبة إلى خِسّة الجهل. فإذا كان الباعث هذا، فهذا المنكَر أقبح في نفسه مِن المُنكَر الذي يعترض عليه. ومثال هذا المُحتسِب مِثال مَن يخلِّص غيره من النار بإحراق نفْسه، وهو غاية في الجهل. وهذه مزلّة عظيمة، وغائلة هائلة، وغرور
للشيطان يتدلّى بحبله كلّ إنسان، إلاّ من عرّفه الله عيوب نفسه، وفتح بصيرته بنور هدايته".
الدرجة الرابعة: التعنيف بالقول الغليظ واللفظ الحاد، دون تجريح وتفحّش في القول، أو تلاعن وسبّ بالكفر. ولقد ساق القرآن الكريم أدب الأنبياء حتى في شدّة حِدّتهم، وبيّن عفّة لسانهم وهم في قمة ثورتهم، فحكى عن إبراهيم عليه السلام صورة تعنيفه بالقول، قال تعالى:{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ} (الأنبياء:66).
ولهذه المرتبة أدبان:
أحدهما: ألاّ يُقدم عليها إلا عند الضرورة، والعجز عن اللطف.
الثاني: أن لا ينطق إلاّ بالصدق، ولا يقول في المخالف إلاّ حقاً، ولا يدفعه إنكار المُنكَر أن يصفه بما ليس فيه.
بهذا النهج الإسلامي الراقي، وهذا الأسلوب المهذّب الفريد الرائد، يتناصح الناس فيما بينهم ويصبح كل مسلم مرآة لأخيه؛ قال صلى الله عليه وسلم:((المسلم مرآة أخيه)). يعظ كلّ منهم الآخَر في مودّة، وينبّهه إلى الأخطاء من غير عنف، ويُرشده بدون قسوة.
وإنه ممّا يجدر ملاحظته: أن كلمة {قُلْ} ، والمكوّنة من حرفيْن فقط، وردت في القرآن الكريم في أكثر من ثلائمائة مرة، ممّا يشير إلى اعتماد الدعوة إلى الله على القول باللسان.
ولقد كانت فصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبلاغته وروعة بيانه، وحسن حديثه، لها الجانب الأكبر في الدعوة إلى الإسلام.