الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد روى البخاري ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الله تعالى لا يَقبض العِلْم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يَقبض العلْم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يُبقِ عالماً، اتّخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا، فأفتَوْا بغَير عِلْم، فضلُّوا وأضلّوا)).
لهذه الأسباب ولغيرها، يتّضح ما ينبغي أن يكون عليه الداعية إلى الله، من وجوب الوقوف على شتَّى أنواع الثقافات، والإلمام ببعض العلوم التي يستفيد منها، ويُفيدُ غيره في ميادين الدّعوة.
وسوف نوضِّح العلاقة الوطيدة والارتباط العميق بين علْم الدعوة والعلوم الأخرى.
العلوم التي لها ارتباط وثيق بعِلْم الدّعوة
إنّ علْم الدعوة إلى الله لن يُؤتي ثماره، ولن تتحقّق نتائجُه إلاّ إذا ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالعُلوم والمَعارف حيث يَنهل منها الدَّاعية، ومن خِلال جِماع هذه العلوم، تَتولّد لديْه الثقافةُ الواسعة والإلمام بقضايا أمّتِه، ومشاكِل عَصره، وتكون عِنده القُدرة على استمالة المَشاعِر، واستِنهاض الهِمَم، وذلك بالحُجج الدامِغة، والبراهين الساطِعة، والأدلّة القوية، المُتسلِّحة بحُسن المَنطق، وسَلامة التَّعبير، ورَوعة الأداء.
والعُلوم التي ترتبط بالدّعوة، ويجب على الدعاة تَحصيلها والإلمام بها، هي ما يلي:
القسم الأول: علوم اللّغة العربيّة. لقد تَنزَّل القُرآن على قَلب الرسول صلى الله عليه وسلم بلسان عَربيّ مُبين، قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء:192 - 195).
فالرسول صلى الله عليه وسلم أفصَح فُصحاء العَربية، وأطلقُهم لِساناً، وأعذبُهم حديثاً، وأبلغُهم منطقاً. وقد أُوتيَ صلى الله عليه وسلم جَوامعَ الكَلِم.
قال الإمام العلامة أبو سليمان الخطّابي -رحمه الله تعالى-: "اعلمْ: أن الله تعالى لمَّا وَضع رسول الله صلى الله عليه وسلم مَوضع البَلاغ من وَحْيه، ونصّبه مَنصب البيان لدِينه، اختار له من اللغات أعذَبَها، ومن الألسُن أفصحَها وأبْيَنها. ثم أمدّه بجَوامع الكَلِم، التي جعلها رِدءاً لنبوّته، وعَلَماً لرسالته، لِينتَظِم في القَليل منها عِلْم كَثير، يَسهُل على السامِعين حِفظُه، ولا يَؤودُهم حَملُه. فمَن تَتبّع جوامِع كلامه صلى الله عليه وسلم لم يُعْدَم بيانها".
واللغة العربية كان يَنطقها العَربيّ بالسَّليقة، ويَتذوّق معانيها بالفِطرة، لا يَعرف نِقاطاً ولا علامات على الحروف، ولا تَشكيلاً للكَلمات.
وكان يُعبِّر عمّا يَجيش في خاطِره شِعراً أو نَثراً، بلُغة فَصيحة، سليمة بليغة، لا تَعرف اللَحن، ولا يَفشو فيها الخَطأ، وتَرفَّعت عن عُجْمة الفُرس، وتَنزَّهت عن لُغة الروم.
ولمّا جاء القرآن الكريم بلسانٍ عَربيّ مُبين، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ازدادت مكانة اللّغة العربية، فارتفعت هامَتُها بين لغات الأمم، وأكسبها القرآن قُدسيّةً ومَهابةً، وأضفى عليها ثوباً قَشيباً من بَلاغة الأسلوب، وجَمال التَّصوير، وجَلال المَعاني، وموافقة الطَّبائع، ولمس السرائر، ورؤى المستقبل، وأحداث التاريخ، وإشارات العُلوم.
وكذلك أضاف إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ببلاغَته وفصاحَته، من خِلال أقواله صلى الله عليه وسلم مَنزلةً رَفيعة، ومَرتبة سامية. وهكذا تضافَرت على اللغة العربية تلك العَوامل التي حافظت على بقائِها ونقائِها، لارتباطِها بالقرآن الكريم، الذي تَعهَّد الله بحِفظه، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحِجر:9).
وقد استمرت اللغة العَربية يتحدّث العَرب بها دون قَواعد تُضبَط، والنُّطقَ بها قَبل بِعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وخِلال حياته صلى الله عليه وسلم، وإبّان نُزول القرآن الكريم، كان يُكْتب بدون تَشكيل ولا عَلامات إعراب. ومع انتشار الإسلام، واختِلاط العَرب بغيرهِم من الأمم، فشا اللحن، وكَثُر الخَطأ، وتخوّف المسلمون أن يَتسرَّب هذا إلى القرآن الكريم، فيَلحَق به ما لَحِق بالكُتب السماوية السابقة من تَحرِيف وتَغيير.
وبَدأت أمارات اللّحن وبوادِر خَطره، حينما قَدِم أعرابي إلى المدينة في خِلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: مَن يُقرِئني شَيئاً ممّا أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فأقرأه رجل من بداية سورة (براءة)، حتى وصل إلى قوله تعالى:{أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (التوبة:3)، فنَطق الرجلُ الذي يقرأ بها:"ورسولِهِ" -بكَسر اللام بدلَ ضَمِّها-، وهذا اللّحن يُفسِد المعنى إفساداً كبيراً. فلما سَمِع الأعرابي هذا، قال: وأنا أبرأ ممّا بَرئ الله منه، ورَجَع على عَقبيْه. فبلغت مقالتُه عمرَ بن الخطاب. فقال: رُدُّوا عليّ الرجُل! فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقصّ الرجل عليه قِصّتَه.
فقال عمر: ليس هذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر رضي الله عنه: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (التوبة:3) -برفع اللام-، فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممَن بَرِئ الله ورسوله منهم.
فأمَر رضي الله عنه أبا الأسود الدؤلي المَولود عامَ واحد قَبل الهِجرة، أن يضع ضَوابط اللسان العربي. وقِيل: إن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي أمره بذلك.
فقد روى أبو الأسود الدؤلي أنه قال: "دَخلتُ على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فوجدت بيده رُقعة، فقلت: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأمّلت كلام العَرب فوجدتُه قد فَسد بمخالَطة هذه الحَمراء -يعني: الأعاجِم-،
فأردت أن أضع شيئاً يَرجعون إليه، ويَعتَمدون عَليه. ثم ألقى إليّ الرُّقعَة، ومنها:"الكلام كلّه: اسم، وفعل، وحَرف؛ فالاسم: ما أنبأ عن المُسمَّى. والفِعل: ما أُنبِئ به. والحرف: ما أفاد مَعنىً. وقال لي: اُنْحُ هذا النَّحو! وأضِفْ إليه ما وَقع إليك! ".
ومنذ ذلك التاريخ، شمّر علماء المسلمين عن سواعِدهم، ووضعوا قَواعِد اللغة العربية لِضبط مُفرداتها، وتَصريف أفعالها، وتَشكيل أواخر الكَلمات باختلاف أحوال موقِعها.
ولقد أثمر هذا الجُهد: أنْ ظَهرت في ميادين الفِكر الإسلامي:
أولاً: علومُ العربيّة:
ويتضمّن ما يلي:
1 -
علْم النحو: الذي به يُضبَط الكَلام، وبمراعاة قَواعده يَسلَم اللسان من اللّحن.
2 -
علْم الصَرف: الذي يَبحث في بنيَة الكَلمة، واشتقاقِها في الأفعال وتَصريفها، ممّا يَخلق في المُتحدِّث مَلكة التَّعبير عن الفِعل بكَثرة مُترادِفاته.
3 -
علْم البلاغة: الذي وَضع قَواعد البلاغة وأساليب الفَصاحة من علْم المعاني، والبيان، والبديع، ممّا يُساعد على تَدبّر آيات القرآن الكريم، وتَذوّق روعة بلاغته، وإعجاز بيانه، وكذلك الوقوف على فَصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم.
4 -
علْم معاني مُفردات اللغة العربية، المدوّن في المعاجم اللغوية: كـ"لسان العرب"، و"القاموس المحيط"، وغَيرها
…
فاللغة العَربية بعلومها وفُروعها، هي سلاح الدّاعية إلى الله، وأداة تَعبيره، ووسيلة التفاهم بينه وبين المَدعوِّين. فطلاقة اللسان، وحُسن المَنطق، وروعة
الأداء، وعُذوبة الحَديث، وتأدية المَعنى واضحاً بعِبارة فصَيحة وكلمات بَليغة تأسر النُّفوس وتَستَحوِذ على العُقول، وتُلهب العَواطف وتُثير المَشاعِر، ممّا يُساعد على نَجاح الدّعاة في دعوتهم إلى الله.
ثانياً: علْم أصول الفقه:
وهو علْم يُساعد على تَفهُّم النُّصوص الدِّينية، واستنباط الأحكام الشَّرعية على براهين وأدلّة مَقبولة شَرعاً، والتَّعرّف على مراتِب أدلّة الشَّرع، وبيان المَقبول مِنها وغير المَقبول، والتَّنبيه على ما هو صَحيح منها وعَدم صِحّة غيره، وتَرجيح ما يَقبل التَّرجيح وفْق دلالة الألفاظ الشرعية واللغوية، ونوعيّة الأمر الوَارد في القَضية حسب الأحكام التَّكليفية الخَمْس وهي: الوجوب، الندب، التحريم، الكراهة، الإباحة.
وهذا العلْم يُؤسَّس على الفَهم العَميق للّغة العربية التي تُساعد على استنباط الأحكام الشرعية والحُكْم عليها؛ وهو من هذا الجانب وثيق الصِّلة بعلوم اللّغة، ولا غنىً للدّعاة عن الوقوف على قواعده، والتّعرّف على الأئمّة الفقهاء الذين وضعُوا أسُسه، وشيّدوا صَرحه، كالإمام أبي حنيفة رحمه الله الذي صنَّف كِتابه "كتاب الرأي"، وقد بيَّن فيه طُرق الاستنباط. وكذلك الإمام الشافعي رحمه الله، حيث صنَّف في هذا العلْم مؤلّفات عَديدة عُرف منها: كتاب "الرسالة"، وكتاب "أحكام القرآن"، و "اختلاف الحَديث"، و "إبطال الاستحسان"، وكتاب "جِماع العلْم"، وكتاب "القياس".
يقول ابن حجَر عن الإمام الشافعي:
"فكان بحقّ أوّلَ من أصّل الأصول وقعّد القواعد، وأذعَن له المُوافق والمُخالِف".
ثالثاً: علْم آداب البَحث والمُناظرة:
يُعدُّ من العُلوم الوَثيقة الصِّلة بعِلْم الدَّعوة؛ فلَقد خَلق الله بني آدم مُتفاوتين في الفَهم والذَّكاء، مُختلِفين في اللّغات واللهجات، متمايزين في الإدراك، قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} (الروم:21، 22).
وهذا الاختلاف يَستلزم تَنوّع طُرق الإقناع العَقليّ والتأثير القَلبيّ؛ لذا وَضع علماء المسلمين قواعِد البَحث والمُناظرة، وآداب المُحاورة والمُجادلة، وقعّدوا لها الأسُس والضَّوابِط، وأنشؤوا هذا العِلم حيث تَضمَّن الآداب التي يَنبغي أن يَلتزم بها المُتجادلون، وبيَّنوا من خِلاله الجَدل المَحمود والجدل المذموم.
والدّعاة إلى الله في حاجة ضرورية للوقوف على قواعد هذا العلْم، لأنهم قد يتعرّضون من خِلال دَعْوتهم لبعض القضايا، ويُواجِهون بعض المُتناظرين ذوي التَّيارات العَلمانية والنَّزعات الإلحادية. وقد يُسْتَدْرَجون لموضوعات شائِكة، يَصطادُهم فيها شياطينُ الإنس. فإن لم يَكن الدَّاعية على دِراسة كافية ووعْي تام، فسوف تَهتزّ صورته أمام الحاضرين، ويَفقد مِصداقِيّته ولو كان على حق.
رابعاً: علوم النَّفس، والاجتماع، والتربية:
توصّل العُلماء إلى غَرائز النّفس ودوافعها وتقسيماتها، وأنشؤوا علْم الاجتماع وأصول العِمران. وكان رائدُ هذا العلْم ومؤسّسه: العالِم المسلم عبد الرحمن بن