الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للدّعوة، وعدم الإعداد الجيّد للدّعاة، وافتقار الكثير منهم للوقوف على أصول الدعوة إلى الله وأساليبها، وخلوّ ذهن الكثيرين من الدّعاة عن: فقه الأولويّات في ميدان الدّعوة، وتنظيم العمل الدعوي، والتنسيق بين العاملين في حقل الدّعوة إلى الله.
ممّا سنوضحه بين ثنايا هذه المحاضرات -إن شاء الله-.
هل الدّعوة إلى الله رسالة أم وظيفة
؟
الدّعوة إلى الله رسالة هذه الأمّة التي اصطفاها من بين الأمم، لحمْل أمانة الدّعوة ونيل شرف التبليغ. والقائمون على شؤونها هم أصحاب رسالة سامية، ورُسُل دعْوة نبيلة، قبل أن يكونوا موظّفين يتعاطَوْن على هذا أجراً ويتقاضَوْن راتباً.
وإنّ في رسُل الله وأنبيائه عليهم السلام لَقُدوةٌ حسَنة وأسوةٌ طيِّبة، فما كانوا يريدون بدَعْوتهم إلى الله من البشر أجراً ولا يبتغون من ورائها جاهاً.
وقد تحدّث القرآن عنهم، فقال تعالى عن نوح عليه السلام:{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى اللَّهِ} (هود:29).
وعن هود عليه السلام، يقول الله تعالى:{يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} (هود:51).
وقد استشعر أتباع المرسلين أنهم لا يتعاطَوْن من أتباعهم مالاً، وأنهم جرّدوا دعوتهم من متاع الدنيا، فدعَوْا الآخَرين للإيمان بهم. قال تعالى:{يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (يس:20، 21).
وأمَر الله رسوله صلى الله عليه وسلم: أن يُعلن على أهل مكة بهذا الأمر، قال تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23).
ولقد ذكَر القرآن الكريم والسُّنّة النبوية الشريفة: أنّ الأنبياء والمرسلين كانوا ذوي حِرَف وأعمال يتكسّبون بها ويعيشون على مواردها؛ فداود عليه السلام كان حداداً، قال تعالى:{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} (سبأ:10).
ونوح عليه السلام كان نجاراً، قال تعالى:{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} (هود:37).
وروى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كان زكريّا نجّاراً)).
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بَعث الله نبياً إلَاّ ورعَى الغنَم))، قال الصحابة: وأنت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة))، رواه البخاري.
وعلى هذا الدّرب سار سلَف هذه الأمّة وخلَفُها من العلماء والدّعاة، لا يطلبون أجراً ولا يستَجْدون ولا يتكسّبون بالدّعوة إلى الله.
يقول الحسن البصري: "لا يزال الرجُل كريماً على الناس حتى يطمع في دينارهم ودرهمهم، فإذا فعَل ذلك استخفّوا به وكرهوا حديثه".
هذا، وقد اختلف الفقهاء على حُكم تعاطي الأجْر على عمل الطاعات، وقد انقسموا إلى فريقيْن:
الأوّل: يرى عدم جواز أخْذ الأجر، بل يُحرِّم ذلك، واستدلّوا بقوله سبحانه وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ} (البقرة:159).
قال الفخر الرازي في "تفسيره": "احتجّوا بهذه الآية على: أنه لا يجوز أخْذ الأجر على التعليم، لأن الآية لمّا دلت على وجوب التعليم فكان أخذ الأجر أخذاً على أداء الواجب، وأنه غير جائز".
وذهب الأحناف إلى هذا الرأي أيضاً فقالوا: "إن الإجارة على الطاعات لا تجوز، ويحرم اتّخاذ الأجر"، واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((اقرؤوا القرآن، ولا تأكلوا به)).
وبقوله صلى الله عليه وسلم لِعمرو بن العاص: ((وإنِ اتُّخذْت مُؤذِّناً، فلا تأخُذْ على الأذان أجراً)).
وقال الحنابلة: "لا تصحّ الإجارة لأذان وإمامة، وتعليم وفقه وحديث، ولا يقع إلاّ قُربة لفاعله، ويحرُم أخذُ الأجْر عليه". وجوّزوا أخذ رزق من بيت المال أو مِن وقْف على عمل يتعدّى نفعُهُ، كقضاء وتعليم، وليس بعِوض، بل رزق للإعانة على الطاعة، ولا يُخرجه عن كونه قُربة، ولا يقدح في الإخلاص.
الفريق الثاني: يرى جواز أخْذ هذا الأجر؛ وهذا ما ذهب إليه: المالكيّة، والشافعية، وابن حزم.
قال ابن حزم: "والإجارة جائزة على تعليم القرآن، وعلى تعليم العلْم مشاهرة وجملة. ويستدلون على ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنّ أحقّ ما أخذْتُم عليه أجراً هو: كتاب الله)) "، رواه البخاري.
وقد جاء في "فتح الباري" ما يعضد هذا الرأي.
هذا، ومع قوّة الأدلة الشرعية من القرآن والسُّنّة وأفعال الصحابة، التي لا تجيز أخْذ عوضٍ مادي عن عمل الطاعات، ومنه الدّعوة إلى الله، إلاّ أنه يُرجَّح الرأي القائل بجواز أخْذ الأجر، ولا سيما في هذا العصر الذي نضَب فيه مَعين الخير، وشحّت الأنفس، واستشرى البخل والتقتير على الدعوة والدعاة، وتكاد علوم الشرع تندثر والدّعاة ينقرضون، مع الأخذ بفتوى من يجيز أخْذ الأجر؛ فكيف لو أخذنا بفتوى من لا يُجيز أخْذ الأجْر؟