الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(الدعوة إلى الله من أشرف الأعمال وأعظمها)
1 -
المَواد العِلْميّة الكَونيّة
الدَّعوة إلى الله مُهمّة الرُّسُل
لقد بيَّنَّا علاقة علْم الدَّعوة بالعلوم الأخرى التي تربط الدّاعية بالعلوم الشرعية والعلْمية، ومِن ثمّ يكون مؤهَّلاً لشرف حمْل رسالات الأنبياء ووحي السماء، إذ إنّ الدَّعوة إلى الله هي وظيفة الرُّسُل. وسوف يتناول هذا العنصر المباحث التالية:
المبحث الأول:
التعريف بكلٍّ من "النَّبيّ" و"الرَّسول"، وبيان الفَرق بينهما:
"النّبيّ" لغة: إمّا أن يكون مُشتقاً من "النَّبإ" وهو: الخَبر، قال تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الحِجر:49)، وقال تعالى:{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} (التحريم:3).
فأصْلُه: "النبيء"، فتَحرّكت الهَمزة للتخفيف، لكَثرة الاستعمال، حيث قُلِبت الهمزة المتطرِّفة ياءً، ثم أُدغِمت الياء في الياء.
ويُجمع "النّبيّ" على: نبيِّين، وأنبياء، وأنبئاء، ونُبآء. أما لفظ "النّبيّ" فيُشتَق أيضاً من النّبوّة، والنباوة، وهي: الارتفاع عن الأرض، وذلك لارتفاع قَدْر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، لأنه شَرُف على سائر الخَلْق، فأصله من غَير همزة.
تعريف "النّبيّ" في الاصطلاح:
هو إنسان ذَكَر حُرّ من بني آدم، سليم عمَّا يُنَفِّر طَبعاً، أوحى الله إليه بشرْع يَعمل به، وإنْ لمْ يُؤمَر بتَبليغه.
تعريف "الرَّسول":
"الرَّسول" لغةً: هو الذي يُتابع أخبار الذي بَعثه، أخذاً من قَولهم:"جاءت الإبل رَسلاً" أي: متتابعة.
وتُطلَق كَلمة "الرَّسول" على المُبلِّغ، كقوله تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} (التوبة:128).
وتارة تُطلق على القَول المُتَحمَّل كقول الشاعر:
ألَا بلِّغْ أبا حفصٍ رسولَا
…
...................
أي: قولاً.
وتُطلَق على رُسُل الله من البَشر، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (المؤمنون:51).
ويُراد بها الملائكة، قال تعالى:{قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} (هود:81).
تَعريف "الرَّسول" في الاصطلاح:
يُعرف "الرَّسول" بما يُعرَّف به "النَّبيّ" غَير أنّ الرَّسول هو: مَن أَوْحى الله إليه بشرْع وأمَره بتَبليغه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة:67).
فالنُّبوّة والرِّسالة سِفارة بين الله وبين ذَوي العُقول، لإزاحة عِلَلهم في أمر معادِهم ومعاشِهم.
الفَرق بين "النَّبيّ" و"الرَّسول":
فرّق عُلماء التَّوحيد بين "النَّبيّ" و"الرَّسول"، وهذه المُغايَرة تَرجِع إلى قَوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (الحج:52).
فذكرت الآية إرسالاً يُقِرّ النَّوعيْن، وعَطَفت النَّبيّ على الرَّسول، والعَطْف يَقتضي المُغايرة. ويُستَدلّ على الفَرْق بين النَّبيّ والرَّسول (ما أخرجه الحاكم عن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- قال: قُلت: يا رسول الله. كم الأنبياء؟ قال: ((مائة ألْف وأربعةٌ وعشرون ألْفاً)). قال: قُلت: يا رسول الله. كم الرُّسُل من ذلك؟ قال: ((ثلاثمائة وثلاثة عشر. جمٌ غَفير كَثير طيِّب)).
فلقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عدد الأنبياء والمرسلين، ومن ثَمَّ اتّجه أهل السُّنّة والجَماعة إلى التَّفرقة بين النَّبي والرَّسول في الأمور التالية:
أولاً: النَّبيّ: مَن أُوحيَ إليه بشَرْع يَعمل به واختُصّ به. والرَّسول فقط هو: مَن أوحِي إليه بشَرْع يَعمل به ويُبلِّغه، ولم يَختَص بشيء منه. فإن اختصَّ بالبَعض وبلَّغ البَعض فهو نَبيّ ورَسول، كرسول الله محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: النّبيّ: هو الذي يُنبِئه الله، وهو يُنبِئ بما أنبأه الله به. فإن أُرسِل مع ذَلك إلى مَن خالَفه ليُبلِّغه رسالة من الله، فهو رَسول.
ثالثاً: النَّبيّ يكون مقرِّرِاً لمَن سَبق تَبليغُهم، أمّا الرَّسول فهو مُبلِّغ للأحكام.
رابعاً: الرَّسول يكون مَعه كتاب، بخِلاف النَّبيّ فإنه قد لا يَكون معه كتاب أحياناً، كهارون مع موسى، وإسماعيل وإسحاق ويعقوب من إبراهيم.
خامساً: أن الرَّسول من الأنبياء هو: مَن جَمع إلى المُعجزة الكتاب المنزّل عليه. والنَّبي غير الرَّسول هو: مَن لم ينزّل عليه كتاب، وإنما يَدعو الناس إلى شَريعة مَن قَبْله.
سادساً: أنّ كلمة "النَّبيّ" إذا ما أطلِقت فإنها تَنصَرف على مَن بعَثَه الله من البَشر. أمّا كلمة "رَسول" فتُطلَق على ما يلي:
1 -
الملائكة، قال تعالى:{قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} (هود:81).
2 -
الرياح، قال تعالى:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحِجر:22)، وقال تعالى:{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً} (المرسلات:1 - 3).
قال ابن كثير رحمه الله: "فيما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنها الريح، يؤيّد ذلك: قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} (الفرقان:48).
وقيل: "المرسلات" هي: الملائكة، إذا أرسلت بالعُرف أو كعُرف الفَرس يتبعُ بعْضهم بعضاً".
3 -
الشياطين، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} (مريم:83). قال ابن عباس رضي الله عنهما: "تغويهم إغواء". وقيل: تحرّضهم على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقال قتادة: تزعجهم إزعاجاً إلى معاصي الله.
4 -
تُطلق على الرُّسُل من غَير الأنبياء من البَشر، وهم السُّفراء وحامِلو الرسالات بين الدول، قال تعالى: على لسان بلقيس ملكة سبإ: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (النمل:35).
أمّا المعتزلة وبعض الأشاعرة، فهم لا يفرِّقون بين النَّبي والرَّسول، ويَستدلّون على ما جاء في القرآن الكريم من إطلاق كلّ منهما على الآخر، غير أنَّ الأوْلى هو اتباع منهج السُّنّة والجماعة في التَّفرِقة بين النَّبيّ والرسول.
المبحث الثاني:
اصطفاء الله للأنبياء والمرسلين:
إن رسالات السماء لا ينالها البشر بالاكتساب، ولن تتحقّق لهم بالممارسات الرّوحية والتّريّض الذهني أو العقلي، أو بمجاهَدة النَّفس والتَّعمّق في الفِكر،
وإنما هي اصطفاء واختيار من الحَّق سبحانه وتعالى لصَفوة من الخَلْق، وجماعة من البَشر اختصّهم الله بعنايَته، وشَملَهُم برعايته، وكلأهم بحفْظه، وعصَمَهم ممّا يقع فيه الناس مِن هفوات، وأيّدهم بالمعجزات الدالة على صدْقهم، وأنزل عليهم الكتب المُوضحة لشرائعهم.
ولقد تحدّث القرآن الكريم عن هذا الاصطفاء، قال تعالى:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} (الحج:75).
وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (البقرة:130).
وذَكَر القرآن الكريم اصطفاء الله للأنبياء من لدُن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (آل عمران:33، 34).
يقول ابن كثير في "تفسيره": "يُخبر الله تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض؛ فاصطفى آدم عليه السلام، خَلقَه بيده، ونَفخ فيه من روحه، وأسجَد له ملائكته، وعلّمه أسماء كلّ شيء، وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها لِما له في ذلك من الحكمة. واصطفى نوحاً عليه السلام، وجعَله أوّل رسول بعَثه الله إلى أهل الأرض. واصطفى آل إبراهيم، ومنهم سيّد البشر، خاتم الأنبياء على الإطلاق: محمد صلى الله عليه وسلم، وآل عمران، والمراد به: والدة مريم عليها السلام. وموسى عليه السلام، ذَكَر القرآن الكريم اصطفاء الله له ونعَمه عليه، قال تعالى:{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (الأعراف:144).
وعن هذا الاجتباء والاختيار، يقول تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} (مريم:58).
ولقد ظن كُفَّار مَكة أنّ الرسالة تتوزّعُ على البشَر، وأنّها تتحقّق بالرغبة، قال تعالى:{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزُّخرُف:31)، يَعْنُون بذلك أحد عظماء قريش.
وقال تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} (الأنعام:124)، أي: حتى تأتينا المَلائكة من الله بالرسالة، كما تأتي الرُّسُل. فردّ الله عليهم قائلاً:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام:124).
ويتحدث الرَّسول صلى الله عليه وسلم عن اصطفاء الله له: فقد روي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنّ الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كِنانة، واصطفى من بني كِنانة قُريشاً، واصطفى من قُريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم))، رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بُعثْتُ من خَير قرون بني آدم، قرناً فقَرناً، حتى بُعثت من القَرن الذي كُنت فيه))، رواه البخاري.
وهذا الاصطفاء امتدّ شَرفه إلى أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((إنّ الله نظَر في قلوب عباده فوجَد قَلْب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته. ثم نَظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قُلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نَبيِّه،
يقاتلون على دِينه. فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسَن، وما رآه المسلمون سيِّئاً فهو عند الله سيّئٌ))، رواه أحمد في "مسنده".
ومع كلّ نَبيّ ورسول يَصطفي الله أتباعه من المؤمنين الصادقين، قال تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر:32).
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: يقول الله تعالى: "ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم المُصدِّق لِما بين يديه من الكتب، الذين اصطفيْنا من عبادنا، وهم هذه الأمّة".
وأمْر الأنبياء وشأنهم لم يَتوقف عند الاصطفاء والاجتباء فقط، ولكنه امتدّ إلى التربية والتعليم وحُسن الإعداد منذ طفولتهم. فإبراهيم عليه السلام يَدعو ربه أن يَبعث لهذه الأمّة رسولاً له منهج يتميّزون به عن سائر الأمم، قال تعالى:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة:129).
ويوسف عليه السلام كانت عِناية الله تَحفظه، وقد شَعر والده يعقوب عليه السلام بهذا وذَكَر الله قولَه لابنه، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} (يوسف:6).
وذَكَر القرآن الكريم فضْل الله على يوسف، قال تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:22).
وأخبر الله تعالى موسى أنه أُعِدّ وصُنِع وعَينُ الله ترعاه منذ أن وُلد، وأُلقيَ به في النهر، قال تعالى:{ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (طه:40، 41).
وتحدَّث القرآن الكريم عن يحيى عليه السلام وعن اصطفائه واختياره وهو مازال غلاماً، فقال:{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً * وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً} (مريم:12، 13).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} (الطور:48، 49).
وعن عِصمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحِفْظه إيّاه، قال تعالى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة:67)، أي: يا محمد، بلِّغْ أنت رسالتي، وأنا حافِظك وناصرك ومؤيِّدك على أعدائك؛ فلا تَخفْ ولا تَحزنْ! فلن يَصل أحدٌ منهم إليك يسوؤك بشيء.
وقد وقعت وقائع عديدة للنَّيل منه صلى الله عليه وسلم، وجَرتْ محاولات لقَتْله أكثر من مَرةٍ، ولكن الله حَفظه، قال تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} (الشعراء:217 - 219).
وبجانب الاصطفاء والانتقاء والرعاية، فقد رَفع الله قَدْر الأنبياء والمرسلين وأعْلَى مكانَتَهم، قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشَّرح:4).
وقد أوجب الله لرُسله وأنبيائه صفاتِ الكَمال، كالصِّدق، والأمانة، والتبليغ، والفَطانة، وسائر الأخلاق الفاضلة. وحرَّم عليهم الرذائل، والنقائص التي تُخِلّ بالرسالة وتتنافى مع النبوة، مثل: الكَذب، والخِيانة، والكِتمان، والغَفلة.
والأدلّة على ما يَجب، وما يَجوز، وما يَستحيل في حَقّهم، مَذكورة في القرآن الكريم.
فالأنبياء والمرسلون هم صفوة الخَلْق، وخُلاصة البشَر، فضلاً عن أنّ الله سبحانه وتعالى اختصّهم بالوحي، وشرّفهم بالرسالة، وأيّدهم بالمعجزات؛ فالإيمان بهم أصْل من أصول العقيدة، وجزءٌ مكمِّل للإيمان بالله، قال تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285).
والإيمان بهم يَستوجِب الإيمان بكلِّ ما جاؤوا به من عند الله مِن تشريعات، والتصديق بما أجرى الله على أيديهم من معجزات، ومن وجوب اتّصافهم بأسمى صفات الكمال، وتَنزيههم عن النَّقائص، وعَدم التَّفرقة بينهم، وحُرمَة التَّطاول على سِيرتهم، أو التَّشهير بهم، أو القيام بتمثيل أشخاصِهم المُقدّسة في وسائل الإعلام.
والمُراد من الأنبياء والمرسَلين: الذين جاء ذِكْرهم في القرآن الكريم، وهم: خمسة وعشرون نبياً ورسولاً، جاء اسم ثمانية عَشر منهم في سورة (الأنعام)، في قوله تعالى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} (الأنعام:83 - 86).
وسبعة ذُكِروا في الآيات التالية:
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} (آل عمران:33).
{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} (الأعراف:65).
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} (الأعراف:73).
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} (الأعراف:85).
{
…
وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ} (الأنبياء:85).
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
…
} (الفتح:29).
هذا، فضلاً عن الذين لم يَرِدْ ذِكْرهم في القرآن الكريم، قال تعالى:{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (النساء:164)، وقال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (غافر:78).
فالأنبياء والمرسلون هم خلاصة الإنسانية وصفْوتُها، من لَدُن آدم عليه السلام إلى خاتم النبيِّين محمد صلى الله عليه وسلم. وهم يُمثِّلون وحدة العقيدة عبر مسيرة الجنس البشري. كما أنّ رسالتهم تشكِّل النسيج الحضاري والسّموّ الأخلاقي للإنسانية بهم، تفصيلاً فيما فصّله وإجمالاً فيما أجمله. ويجب الاعتقاد الصادق أنهم جميعاً بلّغوا كلّ ما أوحى الله به على الوجه الأكمل؛ وهذا من أمارات الإيمان وعلامات الصادقين، قال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} (الحديد:19).
قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً} (النساء:136).
ومن موجبات الإيمان بالرُّسُل: عدَم تفضيل أحدٍ منهم على الآخَر، وأنّ أمر التفضيل من شأن الله تعالى، قال -سبحانه جلّ شأنه-:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة:253)، وقال تعالى:{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} (الإسراء:55).