الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من صِفات الدّاعي إلى الله
أولاً: الالتزام بما يدعو إليه:
إنّ أُولى خُطوات نجاح الدّاعي في دعْوته، واستماع الناس له، وتأثّرهم به والتفافهم من حوله، يرجع إلى القُدوة الحسَنة والأسْوة الطّيِّبة، وأن يكون في تصرّفاته ومعاملاته مرآةً صادقة ونموذجاً حياً لِمَا يدعو إليه.
ولقد كان من أبرز عوامل نجاح الرسول صلى الله عليه وسلم في دعْوته إلى الله: أنه كان يجسِّد الكمال البشريّ أمام قوْمه، حتى أنهم قبل البعثة كانوا يُلقِّبونه بـ"الصادق الأمين". وظهرت أخلاقه الحميدة وسجاياه الكريمة منذ أن كان شاباً؛ فقد تحدّث عمّه أبو طالب عنه حينما ذهب يخطب إليه السيدة خديجة رضي الله عنها مِن عمّها: عمرو بن أسد، وممّا جاء في خطبة القِران:
"ثم إنّ هذا محمدٌ بن عبد الله، لا يوزن به رجُلٌ إلاّ رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً. وإن كان في المال قلّ، فإنّ المال ظلّ زائل، وأمْر حائل، وعارية مُسترجَعة. وهو -والله- بعد هذا له نبأ عظيم وخطْبٌ جليل".
فقال عمرو بن أسد عمّ السيدة خديجة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الفحل لا يُجدع أنفُه".
وحينما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا يُعلن على أهل مكة الإسلام، فقال لهم:((لو أخبرتُكم أنّ خيلاً وراء هذا الوادي تُريد أن تُغير عليكم، أكنتم مُصدِّقيّ؟))، قالوا:"نعم؛ ما جرّبنا عليك كذباً قط".
فلقد كان صلى الله عليه وسلم موضع ثقة قريش، ومحلّ احترامها. وكان له الفضل الكبير قبل البعثة في رأب الصدع، ومنْع الحرب التي كادت تنشب حينما اختلفوا على مَن ينال منهم شرَف وضْع الحجر الأسود مكانَه عند إعادة بناء الكعبة. وحينما أبصروه صلى الله عليه وسلم قالوا:"هذا هو الأمين! ارتضيناه حَكَماً".
إذا كان هذا خُلُق الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة التي تفرّد بها بين أقرانه، فإنّ الأمْر بعد البعثة وخلال مراحل الدّعوة في مكة المكرمة والمدينة المنورة اختلف اختلافاً كثيراً؛ فلقد أصبح صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الإنسانية جمعاء؛ قال تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف:158)، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107).
ومن ثَم، أصبح صلى الله عليه وسلم القُدوة الحسَنة والأسوة الطيبة، فكان بحقّ قرآناً يمشي على الأرض.
فقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خُلُقه صلى الله عليه وسلم، فقالت:((كان خُلُقه: القرآن)). وأخبر القرآن الكريم عن خُلقه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4).
ولقد وجد الصحابة -رضوان الله عليهم- في الرسول صلى الله عليه وسلم المَثَل الأعلى والنموذج العظيم في الخُلُق الكريم، والأدب الرفيع، والسلوك المهذّب العالي؛ فاقتدَوْا به، والتزموا بأقواله وأفعاله. قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21).
يقول ابن كثير:
"هذه الآية: أصل كبير في التّأسّي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله؛ ولهذا أمَر الله تبارك وتعالى الناس بالتّأسي بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يوم
الأحزاب، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته، وانتظار الفرَج من ربه عز وجل صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدِّين".
وقد أصبح من كمال إيمان المؤمن: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والتّحلّي بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشِّيم، ومحامد الفضائل، التي اشتهر بها صلى الله عليه وسلم. وإذا كان هذا لازماً للمسلمين جميعاً، فإنه للداعي أكثر لزوماً وأشدّ وجوباً. فينبغي أن يكون في سلوكه وتصرّفاته مثلاً أعلى لمَن يَدْعوهم، ونموذجاً يَقتدي به ويحتذي حذْوه الآخَرون. فحيثما يدعو إلى فضيلة من الفضائل، يكون عنوانها والرائد فيها. وإذا ما دعا إلى عمل من أعمال الخير والبِرّ، يكون له قصب السّبْق في هذا المضمار ولو بالقليل. ولو نهى عن منكر يكون أوّل البعيدين عنه.
وإن من معوقات الدّعوة، ومن أسباب فشل بعض الدعاة: أنّ أفعالهم تُخالف أقوالهم، وأنّ سلوكهم يتنافى مع ما يَدْعون إليه. فيدعو أحدُهم إلى الكَرَم، وهو لا يجود ببعض ماله -وإن قلّ- في سبيل الله. ويتحدّث عن الشجاعة، وهو يرتعد خائفاً مذعوراً من كلمة حقّ أمام سلطان جائر.
ولقد عاتب الله جماعة من المؤمنين، لأنّ أفعالهم تتناقض مع أقوالهم، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف:2، 3).
كما فضح الله سلوك بني إسرائيل ومَنْ على شاكِلتهم ممّن يأمُرون الناس بالبِرّ ولا يفعلونه، وينهوْن عن الفحشاء والمنكر ويرتكبونها، قال تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة:44).
فإنّ من أعظم القبائح والذنوب: أن يعْرف العالِم والدّاعية الخير ويدعو إليه، وهو أبعد الناس عنه، وينهى عن المنكر ويفْعله.
ولقد شبّه الرسول صلى الله عليه وسلم مَن يَعِظ غيره ولا يَتّعظ بمن يكون كالسراج: يُضئ للناس ويُحرق نفْسَه.
فعن جُندب بن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَل العالِم الذي يُعلِّم الناسَ الخيْر ولا يعمل به، كمَثَل السِّراج يُضئ للناس ويُحرِق نفْسَه))، رواه الطبراني.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مررتُ ليلة أُسْرِي بي على قوم تُقرَض شِفاهُهم وألسنتُهم بمقاريض من نارٍ، قلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خُطباء أمّتك الذين يأمرون الناس بالبِرّ وينْسَوْن أنْفسَهم))، رواه ابن حبان.
وعن أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يُؤتَى بالرّجُل يوم القيامة، فيُلقَى في النار، فتندلِق أقتاب بطنه -أي: تخرج أمعاؤه-، فيدور بها كما يدور الحمار في الرّحَى. فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالَك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهَى عن المنكر؟ فيقول: بلَى، قد كنتُ آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتية))، متفق عليه.
وممّا تجدر ملاحظته: أنّ الداعية قد يأمر ويحثّ على فعل خير وليس في استطاعته القيام به؛ فهذا لا حرج عليه، كمَن يدعو إلى الجهاد في سبيل الله، وتمْنعه من المشاركة عاهة أو كِبَر سنّ، أو كمَن يحثّ الأغنياء بدفْع زكاة أموالهم، وهو لا يَملك نصاباً. أمّا الجرم الأكبر: أن يقترف المنكرات، وهو يعلم حرمتها.
فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يعافي الأمِّيِّين يوم القيامة ما لا يُعافي العلماء))، ابن كثير.
روى الوليد بن عقبة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إنّ أناساً من أهل الجنّة يطّلعون على أناس من أهل النار، فيقولون: بِم دخلْتم النار؟ فوالله ما دخلنا الجنّة إلا بما تعلّمْنا منكم. فيقولون: إنّا كنّا نقول ولا نفعل))، المرجع السابق.
قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "من نصّب نفسه إماماً للناس، فلْيبْدأْ بتعليم نفْسه قبْل تعليم غيره، ولْيَكنْ تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه. ومعلّم نفْسه ومُهذِّبها أحق بالإجلال من معلِّم الناس ومهذِّبهم".
وهل يجني الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ولا يتّعظون، ويُرشدون ولا يسترشدون، إلا سخرية العباد وسُخط ربّ العباد.
ولهذا قيل: "فِعْل رجل في ألْف رجُل، أقوى من قول ألْف رجُل في رجُل".
وعلى الدّاعية: أن يكون أحرص على إصلاح سِرّه منه على إصلاح جَهره، وليكن اهتمامه بنظافة باطنه أكثر من اهتمامه بنظافة ظاهره.
وعلى الدّاعية: أن يكون صريحاً من نفسه، فلا يخادعها، ومع الناس فلا يرائيهم؛ وليس هذا شأن الدعاة فحسب، ولكن شأن كلّ مَن يلي أمراً من أمور المؤمنين في كلّ شؤون الحياة.
ولقد تحدّث الشعراء والأدباء عن أولئك البعض الذين يقولون ما لا يفعلون ومن ذلك:
يا واعظ الناس قد أصبحت مُتّهَماً
…
إذا عِبت أموراً أنت تأتيها
أصبحت تنصحُهم بالوعظ مُجتهداً
…
والموبقات لَعَمري أنت جانيها
تعيب دنيا وناساً راغبين لها
…
وأنت أكثرُ الناسِ رغبةً فيها
ومن عيون الشعر العربي:
لا تَنْه عن خُلُق وتأتي مثْلَه
…
عارٌ عليك إذا فعَلتَ عظيمُ
وإنه من عوامل نجاح الدّعاة إلى الله: أن تتحقّق فيهم الأمور التالية:
الأول: عُمق الإيمان بما يَدْعون إليه، وكمالُ الاقتناع بما ينصحون به. وهذا الشرط واجب التّحقيق في كل داعٍ. فإن تستّر بستار زائف من الإيمان الظاهري الذي لم يتغلغل في عقله ويستقرّ في مشاعره وعواطفه، وإن تظاهر في صورة حَمل وديع، ولكنّ قلبه قلب ذئب مفترس، فقد نقله الشّرع من جماعة المؤمنين إلى زمرة المنافقين؛ قال صلى الله عليه وسلم:((آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذَب، وإذا وعَد أخلف، وإذا اؤتُمِن خان)).
فإنّ هؤلاء يخدعون أنفسهم، قال تعالى:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة:9).
الأمر الثاني: القيام الفعليّ بأداء الدّاعي ما يدعو إليه أو ينصح به.
إنّ قيام الدّعاة إلى الله بأداء ما افترض الله على عباده من عبادات، وما أمَر به من طاعات: معيار النّجاح في دعْوتهم واقتناع الناس بهم؛ ولذلك أمَر الله سبحانه وتعالى الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه بالاستقامة في أداء العبادات واجتناب المنهيّات، قال تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود:112).
وقال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (الشورى:15).
ولقد كانت أهمّ عوامل انتشار الإسلام، واقتناع الناس به: أنهم وجدوا في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله صورة صادقةً وواقعاً ملموساً لِما يدعو إليه.
وهذا ما بيّنه جيفر بن الجلَنْدى ملك عُمان عن سبب إسلامه بعد أن أرسل صلى الله عليه وسلم له برسالة مع عمرو بن العاص،