الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بهذه التوجيهات المستخلَصة من الكتاب والسُّنّة وفِقْه السّلف من الأمّة، يستقيم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ويتمّ تحديد نوع المعصية، ومدى الآثار المترتّبة على الوقوع فيها، وهل هي أضرار فردية أم اجتماعية؟ وهل الضرر يقع على الدِّين أو على أمور الدنيا وسلامة المجتمع؟ حتى تتمّ المعالجة بالترتيب والتّدرّج.
إن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القضايا الجوهرية المتعلِّقة بالدّعوة إلى الله، وإن لم يحسن الدّعاة معالجة هذه الأمور برويّة وتعقّل وتقدير للأمور، بميزان الشرع الحكيم، والتّفقّه في الدّين، والتّبصّر بأحوال المخاطَبين، والوقوف على حقيقة المعصية والدوافع التي تكمن وراء ارتكابها، فقد تحدث من الفتن التي قد تعصف بالمجتمع نتيجة المعالجة الخاطئة.
مراتب إنكار المنكر. ما فيه الاحتساب
لقد حدّد الإمام أبو حامد الغزالي حقيقة الفعل الذي يستوجب الإنكار، والشروط التي ينبغي توافرها فيه ليحكم عليه، وسوف نورد ما ذكره في إيجاز:
ما فيه الحِسبة: هو كلّ منكر في الحال، ظاهر للمحتسِب -المعيّن من قِبَلِ وليّ الأمر-، بغير تجسّس، معلوم كونه منكراً بغير اجتهاد. وقد فصّل هذا التعريف متضمناً الشروط التالية:
الأول: كونه مُنكَراً، ونعني به: أن يكون محذور الوقوع في الشّرع. وعَدَلَ الشيخ أبو حامد عن لفظ "المعصية"، لأن المُنكَر أعمّ من المعصية لأنه يشمل الصغائر والكبائر.
الشرط الثاني: أن يكون المنكر موجوداً في الحال، وهو احترازٌ أيضاً عن الحسبة عمّن فرغ من شرب الخمر، فإن الإنكار لا يقوم به الآحاد من الناس، بل يقوم به المحتسب أو الداعي المعيّن من قِبَلِ الحاكم لأن المنكر قد انقضى وانتهى.
واحتُرز أيضاً عمّا سيوجد في ثاني الحال، كمن يعلم بقرينة حال أنّ الشخص عازم على الشّرب ليلته ولم يشرب بَعد، فالمحتسِب ليس له عليه إلاّ الوعظ. وإن أنكر هذا الشخص عزْمه على ارتكاب المنكَر، لم يجُز وعظه أيضاً؛ فإن فيه إساءة ظنٍّ بالمسلم، وربما صدق في قوله، وربما لا يقوم على ما عزم عليه لعائق مَنَعه.
الشرط الثالث: أن يكون المُنكَر ظاهراً للمحتسِب بغير تجسّس؛ فكلّ مَن ستَر معصية في داره وأغلق بابه، لا يجوز التّجسّس عليه. ولقد نهى الله عن التّجسّس فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا} (الحُجُرات:12).
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور:27).
يقول الإمام أبو حامد رحمه الله:
"فاعلمْ: أن مَن أغلق باب داره وتستّر بحيطانه، فلا يجوز الدخول عليه بغير إذنه لِتعرّف المعصية، إلاّ أن يُظهر المعصية في الدار ظهوراً يَعرفه من هو خارج الدار، كأصوات المزامير، أو صيحات السكارى؛ فهذا إظهار يوجب الإنكار والاحتساب فيه". ثم يذكر أنه إذا وجدنا فاسقاً يحمل قارورة خمر بين طيات ملابسه، فلا يجوز كشف ما تحته ثيابه.
وقد أُمرنا أن نستر ما ستر الله، وننكر على من أبدى لنا صفْحته، لورود حديث شريف في هذا المعنى.
الشرط الرابع: أن يكون منكَراً معلوماً بغير اجتهاد؛ فكلّ ما هو في محلّ الاجتهاد فلا إنكار عليه ولا حسبة فيه. فليس للحنفي أن يُنكر على الشافعي أكْله الضب، والضبع، ومتروكَ التسمية، ولا على الشافعي أن يُنكر على الحنفي شُربه النبيذ الذي لا يُسكر، وتناوله ميراث ذوي الأرحام.