الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحينما تَبيَّنتْ عِفَّة يوسف عليه السلام، وصِدقه وطهارَته بعد رِحلة السِّجن، كان الإقرار والاعتراف والنَّدم من زَوجة العَزيز، وإعلانها أنّ هذا بسبب النَّفس الأمّارة بالسوء، قال تعالى على لسانِها:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَاّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (يوسف:53).
ولقد كانت النفس الأمّارة بالسوء هي المُحرِّكة للسامريّ لفِتنة بني إسرائيل واتّخاذِهم العجل إلهاً، قال تعالى على لسان موسى عليه السلام:{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} (طه:95، 96).
وهي أيضاً وراء الاستكبار في الأرض، والظُّلم والعُتو والاستبداد والكُفر عَبر تاريخ البشرية، قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} (الفرقان:21).
وهكذا تظل النّفس الأمّارة بالسوء هي الدافع لارتِكاب المَعاصي واقتراف السيئات؛ ولهذا كان حديث القرآن على النَّفس البَشرية حديثاً مُستفيضاً شَمل كلّ جَوانبها، والعَوامِل المؤثرة فيها، وسُبل إصلاحها وتقويمها، قال تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس:7 - 10).
2 -
أركان الأمْر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر
تابع: أسباب المَعْصية
6 -
البِيئة الاجتماعية:
إنّ من سُنن الله في خَلْق الإنسان أنّ الطِّفل حينما يَستقبل الحَياة وتَنفَتِح عَيناه في الدنيا، يكون على الفِطْرة النَّقية، قَلبه أبيض كاللّبن، ونَفْسه صافية صفاء الماء العَذب، وصَدره الصَغير كتاب مَفتوح تُسطِّره الأسرة والمَدرسة والمُجتمع؛ فعَن
أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن مَولود إلاّ يُولد على الفِطْرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانِه))، رواه البخاري.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يُبيِّن أثَر الأسرة والمُجتمع في صَلاح الأبناء أو انحراف سلوكهم؛ حيث تُوجد عوامل كَثيرة تَدفع الإنسان إلى المَيل للطَّاعة أو الجُنوح للمَعصية. فهناك دائرة الأسرة وما تقوم به من حُسن تَربية وكمال رِعاية وأدب، أو ما يَلقاه الطفل من الإهمال أو التَّدليل وعَدم المُراقبة والتَّوجيه. والمَدرسة ومنهجها في التَّعليم، أهو رسالة أم وَظيفة وتَلقين؟
ومَدى العلاقة بين الطالب والأستاذ؟
وهل المَدرسة تَعليم فقط، أم تَربية وتَعلِيم؟
ومَدى ارتباط المناهج بتقويم النفوس وتَهذيب السلوك. ثم يأتي بعد ذلك دور المُجتمع ذو الدائرة الأوسع، حيث تَشمل مُحيط الأصدقاء والجِيران، وتَتضمّن وسائل الإعلام، وأجهزة الدولة بسلطاتها التَّشريعية والقَضائية والتَّنفيذية.
كل هذه الأمور إن لم تُوضع لها الضَّوابط الشَّرعية التي تَصون الفَرد والجَماعة من عوامِل الانحراف والفَساد، فإنها تَكون مَدخلاً واسِعاً لارتكاب المعاصي والتَّشجيع عَليها.
وإنّ ما يُشاهده العالَم ويَسمعه من أنواع الفَن الهابِط، والأدب الماجِن، والإعلام المُبتَذَل، الذي يُروِّج للعُنف ويَحضّ على ارتكاب الفَواحِش، ويُغمِض عَينيْه عن آداب الإسلام، ويُصِمُّ أذنيْه عن توجيه الدعاة، لأَحدُ الأسباب الخَطيرة التي تَدفع لارتكاب المعاصي.
وقد بيَّن القرآن الكريم: أنّ انحراف الأبناء وفساد سُلوكهم وارتكابهم الفَواحش، بسبب رؤيتهم للآباء وهم يقترفونها، قال تعالى:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف:28).
ولقد كانت دعوات الأنبياء والمُرسلين عَبر التاريخ تصطدم دائماً بالمُعتقدات الفاسدة التي تتوارثها الأجيال، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (الزُّخرُف:23، 24).
وكذلك لا يُجهَل مُحيط الصَّداقة، إنْ لمْ يُحسن الإنسان اختيار الأصدقاء؛ فالتَّشجِيع على المعاصي وارتكاب المُنْكرات، ذلك يكون بسبب سوء تَربية الأهل وضَعْف رقابة المُجتمع. ولقد حذَّر القرآن الكريم من عواقِب أصدقاء السوء، فقال تعالى:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} (الفرقان:27 - 29).
كما ساق القرآن الكريم مشاهِد وحوارات كَثيرة يوم القيامة لأصدقاء الإنسان من الإنس وقُرنائه من الجن، يتلاومون ويتقاتَلون ويتخاصَمون، ويَندمون على ما فرّطوا في جَنب الله بارتكابهم المعاصي، ودفْع بعضهم بعضاً لاقتراف السيئات. ومن ذلك:
1 -
2 -
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} (الزُّخرُف:36 - 38).
فـ"القَرين": المُقارِن، والجَمع: قُرناء. وهو: المُصاحِب، ويُطلق على الشَّيطان المَقرون بالإنسان لا يُفارقه.
قال تعالى: {الأَخِلَاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (الزُّخرُف:67).
و"الخِلُّ" و"الخُلّة": المُصادَقة والإخاء.
والخُِلُّ -بالكَسر والضَّم-: الصَّديق المُخلِص.
والخَليل: الصادق، أو مَنْ أصفى المَودّة وأصحّها.
قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء:125).
فالخُلّة أعلى دَرجات المَحبة وأرفعها.
وقد بيّن القرآن الكريم: أن يوم القيامة لا تَنفع فيه خُلّة الأصدقاء، ولا شفاعةُ الشفعاء، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:254).
قال تعالى مُصوِّراً ومُوضِّحاً مشاهِد يوم القيامة: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (عبس:33 - 37).
وهكذا يتّضح من خلال هذه الآيات الكريمة، مدى تأثير البِيئة الاجتماعية التي تَشمل دائرة الأسرة، والمدرسة، والأصدقاء، وكلّ مظاهر الحياة في المجتمع، على سلوك الإنسان؛ وذلك بأخذه إلى الطَّاعة، أو دفْعه إلى المَعصية.
مما سَبق، تتبيَّن أسبابُ ارتكاب المَعاصي، ودوافِعُ اقتراف السيئات. ويَنبغي على مَن يتصدَّى للأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر أن يَكون على عِلْم وبَصيرة بهذه الأسباب والدَّوافِع، لِيضع لكل حالةٍ ما يناسبها من التوجيه السليم، والموعظة الحسنة، أو بإحدى وسائل تَغيير المُنْكر