الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
إن المُحتسِب منصوب للاستعداء فيما يجب إنكاره، وليس المتطوع منصوباً للاستعداء. ومعنى ذلك: أنّ المُحتسِب يستعدي بالشرطة، ويطلب عونها في إزالة المُنْكر، أمّا المتطوِّع فلا يُخوّل له الاستنجاد أو استدعاء القوّة لمؤازرته. إنه يكتفي بالكلمة فحسب.
4 -
على المحتسِب أن يبحث عن المُنْكرات الظاهرة ليصل إلى إنكارها، ويفحص عمّا تُرك من المَعْروف الظاهر ليأمر بإقامته. وليس على غيره من المتطوِّعة بحث ولا فحص ولا تنقيب.
5 -
للمحتسب أن يُعزِّر في المُنْكرات الظاهرة لا يتجاوز الحدود، وليس للمتطوِّع أن يُعزِّر على منكر.
6 -
للمحتسب أن يرتزق على حِسبته من بيت المال، ولا يجوز للمُتطوِّع أن يرتزق على إنكار المُنْكر.
أما الشرط السابع فهو موضوع المحاضرة القادمة -إن شاء الله-.
3 -
أركان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر: معرفة أنواع البشَر
تابع: شروط الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
سابعاً: أنْ يكون الآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر قادراً على القيام بواجب الأمْر والنّهي:
والقدرة تشمل أمريْن:
الأول: القدرة العلْمية من حيث سَوْق الأدلّة وإقامة البراهين، وأن يتميّز بالفصاحة والبلاغة وسلامة اللّغة وحُسن البيان؛ ولهذا نجد موسى عليه السلام لمّا كانت في لسانه لَكنة تحُول بينه وبين القيام بأمْر فرعون ونهْيه، دعا الله تعالى أن يَحُلّ لسانه ويرسل معه هارون عليه السلام لفصاحته، قال تعالى:{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه:25 - 32).
فالخوف وعدم الفصاحة قد يكون حائلاً دون القيام بواجب الدعوة؛ وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قصة موسى مع فرعون، قال تعالى:{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} (القصص:33 - 35).
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على أن يصْدعوا بكلمة الحق، ولا يخشون إلاّ الله.
فعن عبادة بن الصامت، قال: ((بايعْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة
…
-إلى أن قال:- وعلى أن نقول الحقّ أينما كنّا، لا نخشى في الله لومة لائم))، متفق عليه.
الأمر الثاني: القدرة البدنية المقترنة بقوّة الشخصية التي تُمكِّنه من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي: "العاجز ليس عليه حسبةٌ إلاّ بقلْبه، إذ إنّ كلّ من أحب الله يكره معاصيه ويُنكرها".
وذكر أنه لا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسِّي، بل يلتحق به ما يُخاف عليه مكروهاً يناله، فذلك في معنى العجز. وكذلك إذا لم يَخَفْ مكروهاً، ولكن علِم أنّ إنكاره لا ينفع، فلْيلْتفت إلى معنييْن:
أحدهما: عدم إفادة الإنكار امتناعاً -أي: لعجزه-.
والآخَر: خوف مكروه.
ويحصل من اعتبار المعنييْن أربعة أحوال:
إحداها: أن يجتمع المعنيان: بأن يعلم أنه لا ينفع كلامُه، ويُضربُ إن تكلّم؛ فلا تجب عليه الحِسبة، بل قد يَحْرُمُ في بعض المواضع. نعم، يلزمه أن لا يحضر مواضع المُنكر، ويعتزل في بيته حتى لا يشاهد، ولا يخرج إلاّ لحاجة مهمّة أو واجب.
الحالة الثانية: أن ينتفي المعنيان جميعاً: بأن يعلم أنّ المنكر يزول بقوله وفعْله، ولا يقدَّر له مكروه؛ فيجب عليه الإنكار، وهذه هي القدرة المُطلقة.
الحالة الثالثة: أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره، لكنه لا يخاف مكروهاً؛ فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها، ولكن تُستحبّ لإظهار شعائر الإسلام، وتذكير الناس بأمْر الدِّين.
الحالة الرابعة: عكس ذلك، وهو: أن يعلم أنه يُصاب بمكروه، ولكن يَبطل المُنكرُ بفعله، كمن يَقدِر على أن يرمي زجاجة الفاسق بحجَر فيكسرها ويريق الخمر، ويتعطّل عليه هذا المنكر. ولكن يعلم أنه يرجع إليه، فيضرب رأسه.
فهذا ليس بواجب وليس بحرام، بل هو مُستحب، ويدل عليه قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن أي الجهاد أفضل؟ قال:((كلمة حقّ عند سلطان جائر))، رواه النسائي بإسناد صحيح.
فإن غلب الظّنّ على مُنْكِر أنه يُؤذَى ويُصاب، لم يجب الإنكار. وإن غلب على الظّنّ أنه لا يصاب، وجب الإنكار. وتوقّع المكروه بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يختلف من شخص لآخَر، بحسب الضعف والقوة، والجبن والشجاعة.
لذلك ينبغي لمن يتصدّى للأمر أو النّهي أن يكون عاقلاً حصيفاً، يزنُ الأمور بميزان دقيق، فيدرس حالة مَن يريد أن يتصدّى له، فيعرف حالته النفسية، وظروفه الاجتماعية، ويقف على الدوافع، والأسباب التي حملتْه على ارتكاب المنكرات وعدم الإقبال على الطاعات، ويبصر بعين ثاقبةٍ مدى تحمّل هذا الشخص للتوجيه، ومدى تقبّله للّوم أو التعنيف أو التغيير بالقوة، ويسأل الداعي نفسه: هل إذا تصدّى للمنكَر سيجد الأعوان والأنصار الذين يؤازرونه ويناصرونه، أم سيواجه الأمر وحده؟ كما يجب أن يكون ذا نظرة بعيدة، فيرى ويقدِّر: هل إذا أقدم على أمرٍ أو نهْي أحدث من العواقب السيئة ما هو أشدّ وقعاً من إزالة المُنكر، كحدوث فتنة أشد؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فحيث كانت مفسدة الأمْر والنهي أعظم من مصلحته، لم يكن ممّا أمر الله به، وإن كان قد تُرك واجبٌ وفُعِلَ محرَّمٌ؛ إذ المؤمن عليه أن يتّقي الله في عباد الله، وليس عليه هداهم".
ولقد وضع الفقهاء قاعدة عظيمة في درء المفاسد وجلب المصالح، فقالوا:"درء المفسدة مقدَّم على جلْب المصلحة".
وقد فصّلها الإمام ابن القيم فقال:
"شَرَعَ النبي صلى الله عليه وسلم إيجابَ إنكار المنكَر ليحصُل من إنكاره من المعروف ما يُحبّه الله ورسولُه. فإذا كان إنكارُ المُنكَر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغُ إنكارُه، وإن كان الله يبغضه ويمقتُ أهله. وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كلِّ شرٍّ وبليّة.
ومَن تأمّل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على مُنكَر، فَطَلَبَ إزالتَه، فتولّد منه ما هو أكبر منه. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها. فلمّا فتح الله مكة وصارت دار إسلام، عزم صلى الله عليه وسلم على تغيير البيت وعلى ردّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك -مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه فتنة من عدم احتمال قريش لذلك، لقُرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر؛ ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لِما يترتّب عليه من وقوع ما هو أعظم منه.
فإنكار المنكر له أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويَخْلُفُه ضدُّه.
الثانية: أن يقِلّ وإن لم يُزَلْ جُملة.
الثالثة: أن يَخلُفه ما هو مثْلُه.
الرابعة: أن يَخْلُفه ما هو شرّ منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة مُحرّمة.
فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج، كان إنكارك عليهم مِن عدم الفقه والبصيرة، إلاّ إذا نقلْتَهم منها إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله، كرمي النُشّاب وسباق ونحو ذلك
…
وإذا رأيت الفسّاق قد اجتمعوا على لعبٍ ولهو أو سماع، فإن نقلتَهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلاّ كان تركُهم على ذلك خيراً من أن يتفرّغوا لِما هو أعظم من ذلك
…
وإذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون
ونحوها، وخفْتَ من نقله عنها إلى انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر، فدعْه وكتبه الأولى. وهذا باب واسع.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي. فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرّم الله الخمر لأنها تصدّ عن ذكْر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدّهم الخمر عن قتْل النفوس وسبْي الذرية، وأخذ الأموال. فدَعْهُم! ".
بهذه الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وبهذا الفهم الدقيق والحسابات المدروسة، وتقديم قضايا الأمر والنهي وما يترتب عليهما من آثار صالحة أو سيئة، يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مِن أهمّ عوامل إصلاح النفوس وتقويم المجتمعات.
وإنّ ما يعانيه العالَم الإسلامي مِن فتن هوجاء، وعواصف مدمِّرة، واضطرابات دامية، إنما هو بسبب بعض مَن يتصدَّوْن للأمر والنهي بانفعال غير مدروس، والقيام بأعمال طائشة لا تزن الأمور بميزان الفهم الصحيح لقضايا الدعوة وفِقْه الأولويّات، ممّا أثار الفتنة، وأضعف الأمّة، وفرّق الكلمة، فوهنت القوة، وغدا المسلمون لقمة سائغة وفريسةً سهلة انقضّ عليها الأعداء من كلّ حَدَبٍ وصوب، وأصبحت كلأً مستباحاً لشرار الخلْق من الكفرة وفسّاق الآفاق، يسرحون ويمرحون في ديار الإسلام كيفما شاؤوا. وما ذلك إلا بسبب التضارب والتناقض في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واشتراط الشروط التي ذكرناها فيما مضى من حديث.