المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - أصول الدعوة وطرقها ١ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مدخل إلى علم الدعوة

- ‌ التعريف بالدّعوة

- ‌حُكم تبليغ الدّعوة وآراء العلماء في هذا

- ‌ملَكة البيان ووسائلها

- ‌العلوم التي لها ارتباط وثيق بعِلْم الدّعوة

- ‌العلوم التي تتناول أصول الدِّين وفروعَه

- ‌ المَواد العِلْميّة الكَونيّة

- ‌الدرس: 2 الدعوة إلى الله من أشرف الأعمال وأعظمها

- ‌الدَّعوة إلى الله مُهمّة الرُّسُل

- ‌تعدّد أسماء الدّعوة إلى الله ممّا يَدلّ على شَرفها

- ‌الدّعوة إلى الله ماضِية إلى يوم القيامة

- ‌الدرس: 3 أسباب استمرار الدعوة وبقائها

- ‌الصِّراع بين الإنسان وأخيه الإنسان

- ‌لِمَ كانت أمّة الإسلام هي المُكلَّفة شرعاً بالدّعوة إلى الله دون غَيرها من الأمم

- ‌الدرس: 4 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تعريفهما وأهميتهما وصلتهما بالدعوة

- ‌المَعروف والمُنْكر بين اللغة والاصطلاح

- ‌أهمِّيّة الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر والأدلّة على وجوبه

- ‌صِلة الأمْر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر بالدّعوة إلى الله

- ‌الدرس: 5 تحديد المعنيين بخطاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأسباب المعصية، وشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌تَحديد المَعْنِيِّين بخِطاب الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر. أـ تحديد الظالمين لأنفسهم

- ‌ب- تَحديد أسباب المَعصية

- ‌تابع: أسباب المَعْصية

- ‌شُروط الأمْر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر

- ‌تابع: شروط الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر

- ‌الدرس: 6 أنواع البشر الذين يوجه إليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيفية علاجهم، ومراتب إنكار المنكر

- ‌(أنواع البشر الذين يوجه إليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيفية علاجهم

- ‌تابع: أصناف الناس الذين يُوجّه إليهم الأمْر بالمعروف والنّهي عن المنكر

- ‌المأمورات والمنهيّات التي يجب أن يتناولها الآمِر بالمعروف والنّاهي عن المنكَر

- ‌نوعان من الناس يتوجّه إليهما النّهي

- ‌مراتب إنكار المنكر. ما فيه الاحتساب

- ‌الدرس: 7 الصغائر والكبائر، ومراتب إنكار المنكر، وإزالته وضوابطه

- ‌وجوب معرفة الفرْق بين الكبيرة والصغيرة

- ‌أسباب انتقال الصغائر إلى كبائر

- ‌مراتب التّصدّي للمُنكَر وإزالته

- ‌حُكم التغيير بالقلب وبيان مظاهره

- ‌ضوابط الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر للحاكِم المسلم

- ‌الدرس: 8 أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌أولاً: أسلوب التعليم والتّفقيه

- ‌ثانياً: تقوية الإيمان، واستثمار الوازع الدِّيني

- ‌ثالثاً: الموعظة الحسَنة

- ‌رابعاً: التآلف والسِّتْر

- ‌خامساً: استثارة العواطف والمشاعر، وإيقاظ دوافع الحميّة والغيرة

- ‌الدرس: 9 تابع: أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌سادساً: الحثّ على التوبة، وقبولها من المذنبين. سابعاً: الزّجر بالإغلاظ في القول، والضرب

- ‌ثامناً: ردْع العصاة بإقامة الحدود الشرعيّة

- ‌تاسعاً: تغيير البيئة

- ‌عاشراً: إيجاد البدائل

- ‌الدرس: 10 الآثار السيئة الناتجة عن تقاعس المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحقيقة الدعوة الإسلامية

- ‌ الآثار السيئة التي أدى إليها التخاذل عن تبليغ الإسلام ونشره

- ‌هل الدّعوة إلى الله رسالة أم وظيفة

- ‌القاسم المشترَك بين الأنبياء جميعاً

- ‌الفرْق بين معجزات الإسلام والمعجزات الأخرى

- ‌الدرس: 11 من خصائص الدعوة الإسلامية

- ‌مِن خصائص الدّعوة الإسلامية (أ)

- ‌مِن خصائص الدّعوة الإسلاميّة (ب)

- ‌ربّانيّة الدّعوة الإسلاميّة

- ‌عالَميّة الدّعوة الإسلاميّة

- ‌الدرس: 12 تابع: من خصائص الدعوة الإسلامية

- ‌من خصائص دعوة الإسلام: أنها خاتِمة الرّسالات السابقة

- ‌الإسلام نظام شامل لِكلّ شؤون الحياة

- ‌ثبوت مصادر الإسلام وسلامتها من التّحريف

- ‌الدرس: 13 تابع: من خصائص الدعوة الإسلامية

- ‌توافُق الدّعوة مع العقل والفطرة ُ

- ‌وسطيّة الدعوة وملاءمتها للفطرة

- ‌قواعد الاعتدال والتّوسّط

- ‌أمَارات الوسطيّة والاعتدال في الدّعوة

- ‌الدرس: 14 من صفات الدعاة

- ‌من صفات الدعاة: التمهيد

- ‌من صِفات الدّاعي إلى الله

- ‌الاقتداء برسول الله والتّأسّي به صلى الله عليه وسلم

- ‌الإخلاص في القول والعمل

- ‌تابع: الإخلاص في القول والعمل

- ‌نواقض الإخلاص

الفصل: ‌شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

والتي سوف نتناولها بين ثنايا هذه المحاضرات -إن شاء الله-.

‌شُروط الأمْر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر

لقد وضع الإسلام صِفات ومعالِم الشخص الذي يُناط به القِيام بواجِب الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر، ويَجب أن تَتوافر فيه الشُّروط التالية:

أولاً: أن يَكون القائِمُ بهذا الأمْر مُكلّفاً شَرعاً، والتَّكليف يَتحقق بالبُلوغ والعَقل؛ فغَير البالِغ لا يُسند إليه ولا يُطْلب منه، لأنه لم تَتوفّر فيه الأهلية الشرعية التي من خِلالها يكون مَسؤولاً وواعِياً لِما يأمر به أو يَنهى عنه. أما إذا قام المُميّز بهذا الأمر تَطوعاً، كبعض الحَفظة للقرآن الكريم، أو مِن طُلاّب العِلم الشرعي، فيُقبل منهم تَشجيعاً لهم وتَدريباً على ممارسته، على أن يتمّ ذلك تَحت المُراقبة والمُتابعة، وفي حُدود الوَعظ والإرشاد بالقول، دون مراتب التغيير الأخرى، لأنَّ المُميز ليس أهلاً لها ولا مُكلّفاً بها.

وكذلك العقْل، فالمَجنون والمَعتوه والأبله لا يُكلّفون بالأمر والنّهي، لقوله صلى الله عليه وسلم:((رُفِع القَلمُ عن ثلاثة: عن المَجنون حتى يُفيق، وعن النائم حتى يَستيقظ، وعن الصَّبيِّ حتى يَحتلم))، رواه أبو داود، وأحمد، والترمذي.

ثانياً: الإسلام، لقوله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85).

ولأن الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر نُصرةٌ للدِّين وإقامَة لحُدوده، فكيف يقوم به ويَنصُره الكافر به والجاحد له.

ص: 109

ولذلك فإنّ ما دَرجت عليه بعضُ الدول الإسلامية من الاستعانة بغير المُسلمين في وضْع المناهج التَّعليمية والتَّربوية لأبنائها، حيث يعْمَدون فيها إلى تَهميش الدِّين وإضعافه في النفوس. وأوضح مثالٍ سيِّئ على ذلك: ما فَعله المِستر دنلوب القِسيس الإنجليزي الذي عيَّنه "كرومر" المندوب السامي لإنجلترا في مصر في مطلع القرن العشرين مستشاراً لوزارة المعارف المصرية، فعمل على تخريب التعليم الدِّينيّ وإضعاف اللغة العربية، وما زالت بصماتُه الخبيثة على التعليم باقية حتى الآن.

فمن غير المنطق والمعقول: أن يكون غير المسلم أميناً على دِين الأمّة المسلمة وثقافتها. وهل يُعقل أن يُؤتى بالذئب حارساً؟ أو أن يكون اللص أميناً؟

ثالثاً: العدالة، وهي: التوافق والتوازن بين القول والعمل؛ فليس لِفاقد العدالة أو ناقص المروءة أن يقوم بواجب الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر، ففاقد الشيء لا يُعطيه. قال تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة:44).

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف:2، 3).

فمَن ليس بصالح في نفسه، فكيف يُصلِح غيره؟

ومتى يستقيمُ الظلُّ والعودُ أعْوج؟

ولكون الإنسان غير معصوم، ولكي لا تضيق دائرة الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر، فقد يُقبل من الإنسان الذي قد يقترف بعضَ الصغائر والتي أطلق عليها

ص: 110

القرآن الكريم لفظ: {اللَّمَم} (النجم:32) في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَاّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} (النجم:32)، فأمثال هؤلاء يُقبل منهم القيام بالأمر بالمَعْروف، لا سيما في الأشياء التي لا يرتكبونها.

قال سعيد بن جبير: "إنْ لم يأمُر بالمَعْروف ولم يَنْهَ عن المُنْكر إلاّ مَن لا يكون فيه شيء، لم يَأْمُرْ أحدٌ بشيء".

يقول الإمام أبو حامد الغزالي: "إنّ الحسبة تارة تكون بالنّهي بالوعظ، وتارة بالقهْر، ولا ينجع وعظُ من لا يتّعظ أولاً. ونحن نقول: مَن عَلِم أنّ قولَه لا يُقبل في الحسبة لِعلْم الناس بفِسْقه، فليس عليه الحسبة بالوعظ، إذ لا فائدة في وعْظه؛ فالفسْق يؤثِّر في إسقاط فائدة كلامه، ثم إذا سقطت فائدة كلامه سقط وجوب الكلام. أمّا إذا كان الحسبة بالمنع، فالمراد منه القهر، فلا حرج على الفاسق في إراقة الخمور وكسْر الملاهي وغيرها، إذا قدر على ذلك".

وما ذكَره الغزالي ينطبق على مَن كُلِّفوا من قِبل وليِّ الأمر بإزالة المُنْكرات الشرعية والمخالفات القانونية، بحكم وظائفهم فقط؛ فهم يقومون بالأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر كعمل وظيفيّ، لا كرسالة تعبّديّة، ويأخذون لها راتباً مالياً نظير قيامهم بما كُلِّفوا به من الدولة، غير أنهم سيُحاسَبون أمام الله على تقصيرهم في عدم الالتزام السلوكي، كمن يحث الناس ويأمُرهم بالصلاة وقد يتكاسل عنها، أو كمن كُلِّف بجمع الزكاة وهو لا يدفع زكاة مالِه.

فهؤلاء وأمثالهم يُقبل منهم ما يقومون به من أعمال، بحسب الوظيفة لا بحسب رسالة الدّعوة إلى الإسلام، وطلب الثواب والأجر من الله سبحانه وتعالى.

ص: 111

رابعاً: العلْم والبصيرة بحقيقة الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر؛ فإنّ من القواعد والأركان التي يقوم عليها الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر: أن يكون القائمُ به عالِماً بالحُكم الشّرعي للمأمور به أو المنهيّ عنه، وهل هو للوجوب، أم للنّدب، أم للتحريم، أو للكراهة، أو التخيير؟

هذا بجانب الوقوف على الأدلة الشرعية من الكتاب والسُّنة التي تعضد الحُكم وتوضِّحه.

فإنّ مَن يأمر وينهى من غير علمٍ يكون ضررُه أكبر من نفعه، لأنه قد يأمر بما ليس مشروعاً، وينهى عمّا كان مشروعاً. فقد يُحِلُّ حراماً أو يحرّم حلالاً وهو لا يدري؛ ولذلك كان تأكيد الإسلام على طلب العلْم والتّفقّه في الدِّين أمراً معلوماً من الدِّين بالضرورة، قال تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122).

وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن يُردِ اللهُ به خيْراً يُفقِّهْهُ في الدِّين)).

وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأمَره أن يُخبر الأمّة بذلك، وأن تلتزم بها:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف:108).

فالبصيرة تقوم على اليقين والبرهان العقليّ والشرعيّ.

ص: 112

وإن نزل بعض الدعاة ميدان الأمْر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر دون علْم يتحصّنون به وفِقْه بأوامر الشرع ونواهيه، قد يوقعهم في الضلال وينتج عن ذلك ظهور الفتن بين المسلمين، حيث تتضارب الفتوى، وتتنازع الآراء، وتتباين الأفعال، قال تعالى:{وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (الأنعام:119).

وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (القصص:50).

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "من عمِلَ في غير علمٍ، كان ما يُفسده أكثر ممّا يُصلحه".

يقول ابن تيمية رحمه الله: "ولا يكون العمل صالحاً إن لم يكن بعلْمٍ وفقه".

خامساً: أن يكون الداعي رفيقاً في أمْره ونهْيه، حليماً على مَن يخاطبهم؛ فإن اللّوم والتعنيف والتقريع يُخيف الناس منه ويَصرفهم عنه، قال تعالى مادحاً رسوله صلى الله عليه وسلم لاتّصافه بالسماحة ولين الجانب:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران:159).

وقد أمَر الرسول صلى الله عليه وسلم بالرّفق في كلّ الأمور، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الرِّفقَ لا يكون في شيء إلاّ زانه، ولا كان العنف في شيء إلاّ شانَه))، أخرجه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله رفيقٌ يُحبّ الرِّفقَ في الأمْر كلِّه، ويُعطي عليه ما لا يُعطي على العنف))، رواه البخاري.

ص: 113

وممّا يجب أن يتّصف به الآمر بالمَعْروف والناهي عن المُنْكر: أن يكون حليماً واسع الصدر، يعِظ في لطف، ويناقش في هدوء، ويتجادل بأدب، وفْق ما أمَر الله به في قوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل:125).

ومع الرِّفق والحِلم، فإنه ينبغي لِمن يأمر بالمَعْروف ويَنهى عن المُنْكر أن يتحلّى بالصبر، لأن النفوس المريضة تضيق بالموعظة، وتنفر من الانصياع للأمر والنّهي. وقد ينزل الأذى بالداعي ويلحق به الضرر، ولا سيما حينما يواجِه الجبابرة من العصاة والطغاة؛ ولهذا أمر الله الرسُل -وهم أئمةُ الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر- بالصبر، فقال تعالى على لسان لقمان لابنه:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (لقمان:17)، وخاطب الحق تبارك وتعالى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمَره بالصبر، كشأن أولي العزم من الرّسُل، فقال تعالى:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف:35).

وقال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَاّ بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل:127، 128).

قال بعض أئمة السلف: "لا يأمر بالمَعْروف وينهى عن المُنْكر إلاّ من كان فقيهاً فيما يأمُر به، فقيهاً فيما يَنهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه".

وقال سفيان الثوري: "لا يأمر بالمَعْروف ولا ينهى عن المُنْكر إلاّ مَن كان فيه خصال ثلاث: رفيقٌ بما يأمر رفيقٌ بما يَنهَى، عدلٌ بما يأمر عدلٌ بما ينهى، عالِمٌ بما يأمر عالِم بما ينهى".

ص: 114

سادساً: أن يكون مأذوناً من جهة وليّ الأمْر، أو مِن قِبَلِ مَن يقوم على أمْر الدّعوة وتنظيمها؛ إذ إنّ أساليب الدعوة إلى الله تنقسم إلى قسميْن:

القسم الأول:

يطالَب به المسلمون جميعاً، ويُؤجَرون على فعْله ويأثمون على ترْكه، وهو فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الجميع. وهو أحد المهام الرئيسة لضبط سلوك المسلم، ولبقاء الإسلام حياً في الضمائر، يقظاً في الأفئدة.

هذا القسم يشمل: التناصح بين المسلمين، والتّواصي فيما بينهم؛ قال تعالى:{والْعصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر:1 - 3)، وقال صلى الله عليه وسلم:((الدِّينُ النّصيحة)) قلنا لِمَن؟ قال: ((لله، ولِكتابه، ولِرسوله، ولأئمّة المسلمين وعامّتهم))، رواه المسلم.

فالنصيحة أمر يشترك فيه المسلمون جميعاً، يتنافسون عليه ويتسابقون إليه، ولا سيما فيما عُلِم من الدِّين بالضرورة ولا يحتاج النصح فيه إلى بذل جُهد أو إعمال فكْر وقدْح ذهن.

وهذا هو المراد من قول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110). فالتعبير بلفظ المضارع: {تَأْمُرُونَ} ، و {تَنْهَوْن} ، و {تُؤْمِنُونَ} الذي يفيد الحال والاستقبال، هذا دليل على استمرارية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى يوم القيامة.

ص: 115

وهذا الأمر المشترك هو ما يشير إليه قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:71).

هذ التذكرة بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تتمّ حينما يجِد المذكِّر آذاناً صاغية، وقبولاً للموعظة، واستحساناً للتوجيه، قال تعالى:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} (الأعلى:9 - 12).

أما إذا وجد المذكِّر تبرّماً وضيقاً، وصدوداً وإعراضاً، وقد يلحق به أذىً من جراء موعظته، فلْيمنعْ عن إبداء النصح، ولينسحب في هدوء؛ فكثيرٌ من الناس يتأفّفون من النصيحة ويضيقون ذرعاً بالتذكرة. وقد اشتكى نوح عليه السلام من ذلك الصنف من الناس، قال تعالى:{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَاّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} (نوح:5 - 9).

هذا النوع من الدعوة إلى الله، الذي يشمل الأمّة كلها، والأمّة مطالَبة به، لا يحتاج لإذنٍ من أحد، ولا يتوقّف على تصريح من هيئة أو جهة طالما وجَد الشخصُ في نفسه الكفاءة العلْمية، والقدرة على الإقناع، والشجاعة في إبداء الرأي، وتيقّن أنّ توجيهه وإرشاده لن يجرَّ عليه من العواقب السّيِّئة ما يفوق ما ترتّب على نصيحته من مصلحة. وعلى من يقوم بهذا الأمر: أن لا يتعاطى في مقابل دعْوته أجراً مادياً أو يطلب مكانة أدبية، فهو متطوِّع لوجْه الله تعالى،

ص: 116

انطلاقاً من أمْر الله لعباده جميعاً: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة:2).

فعن أبي مسعود عُقْبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن دلّ على خيرٍ، فَلَه مثلُ أجْر فاعِله)).

وقال صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: ((لأنْ يهدي الله بك رجُلاً أحبُّ إليك من حُمْر النّعَم)).

هذا الصنف من الدّعاة لا يجب عليهم تتبّع عورات الآخَرين لزجْرهم، ولا التفتيش ولا التنقيب ولا التّحرِّي عمّن تستّر بالمعصية لنهيهم. وليس لهم حقّ المنْع باليد إلاّ لِمَن تحت إمْرتهم، كالزوجة والأبناء والخدم. أمّا غير ذلك فليس عليهم إلاّ إبداءُ النصح، والتّذكرة بعظم الذنب، وبيان مآثر الطاعة وعواقب المعصية. قال تعالى:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية:21، 22).

وسورة (الغاشية) التي جاءت فيها هذه الآية، مِن السوَر المكية التي أمرت الرسول صلى الله عليه وسلم بالتّذكرة فحسب، إذ إنه صلى الله عليه وسلم خلال دعوته بمكة لم يكن يَملك سوى سلاح الكلمة فقط. أمّا حينما انتقلت الدعوة إلى المدينة، وتأسّست الدولة الإسلامية، وبرزت عوامل التمكين والقوّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، اتجهت الدعوة إلى وسائل التغيير باليد. وسوف نسوق أمثلة لذلك بين ثنايا هذه المحاضرات -إن شاء الله-.

القسم الثاني:

أن يكون الأمر بالمَعْروف والنهي عن المُنْكر من مهامّ الدولة في الإسلام، تُكلَّف به وجوباً شرعياً، وتعمل على وضْع القوانين واللوائح التي تُنظِّم القيام به، وتُعيِّن الدعاة الأكفاء من العلماء والفقهاء، لأداء هذا الواجب

ص: 117

الدِّيني، وتمنحهم من الصلاحيات والإمكانات ما يُعنيهم على إزالة المُنْكرات، وهو ما يُعرف في الإسلام باسم:"الحِسبة".

فـ"المُحتسِب" هو: الشخص المعيَّن من قِبل وليّ الأمر، للأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر. ويُعْطى من القوّة والتّمكين ما يساعده على ردْع العصاة وزجْرهم. قال تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج:41).

والحِسبة كما عرّفها الإمام الماوردي: "أمْر بالمَعْروف إذا ظهَر ترْكُه، ونهْي عن المُنْكر إذا ظهر فعْله".

وعرّفها الإمام الغزالي: "كلّ مُنكرٍ موجود في الحال، ظاهر للمُحتسِب بغير تجسّس، معلوم كونُه منكراً بغير اجتهاد".

ولقد ذكر صاحب "الإحياء" مهامّ عمَل المُحتسِب، وهو المُعيّن من قِبَل الدولة، قال:"للوعظ والنّصح، ثم بالتعنيف، ثم التغيير باليد، ثم التهديد بالضرب، وتحقيقه، ثم الاستظهار بالأعوان والجُند".

ولقد جاء في كتاب "الحسبة في الإسلام" للدكتور إسحاق الحسيني ما يُحدِّد ميادين عمَل المُحتسِب فيقول: "فعلى المُحتسِب أن يأمُر العامّة بالصلوات الخمْس في مواعيدها، ويعاقب من لم يُصلِّ بالضرب أو الحبس. أما القتل إلى غيره -أي: لا يُخوَّل للمحتسب إقامة الحدود-. ويتعاهد المُحتسب الأئمة والمؤذِّنين؛ فمَن فرّط منهم فيما يجب من حقوق الإمامة، أو خرج عن الأذان المشروع، ألزمه بذلك. ويستعين فيما يعجز عنه بوالي الحرب -أي: بالشرطة- وبكلِّ مطاع يُعين على ذلك. والمُحتسِب يُفرض له أجرٌ لنظير عملِه من بيت المال".

ص: 118

ولقد توسّعت دائرة الحسبة في الإسلام، فلم تقتصر على العبادات فقط، بل اشتملت كلّ أوجه النشاط الاجتماعي. وقام المحتسِب بإذنٍ وتكليف من وليّ الأمر بمراقبة الأسواق، ومنْع الغشّ في المعاملات، والتلاعب في الموازين والأسعار، ومنع الاحتكار. ولقد كان نظام المُحتسِب وجهاً حضارياً عبر تاريخ الإسلام، وقد شرُف بمباشرة الرسول صلى الله عليه وسلم له.

فقد مرّ صلى الله عليه وسلم بالسوق على صُبرة طعام، فوضع صلى الله عليه وسلم يده في الإناء، فأصابت يدُه بلَلاً، فقال:((ما هذا، يا صاحب الطعام؟)). فقال الرجل: لقد أصابته السماء -أي: نزل عليه المطر-. فقال صلى الله عليه وسلم ((هلاّ وضَعْتَه في أعلى كي يراه الناس؟ مَن غشّنا فليس منا)).

الفرْق بين المُتطوِّع والمُحتسِب في الدّعوة إلى الله:

لقد وضع الفقهاء فروقاً بين المُتطوِّع في الدّعوة إلى الله والمُحتسِب المُعيَّن مِن قِبَل ولِيِّ الأمر، ومن هذه الفروق ما يلي:

1 -

الدّعوة إلى الله فرْض عيْن على المُحتسِب، وفرْض كفاية على غيره.

2 -

إن قيام المحتسِب به من حقوق تصرّفه لا يجوز أن يتشاغل عنها -أي: بعمل آخَر يَصرفه عن عمله الأصلي وهو: الدعوة-. وقيام المتطوِّع به من نوافل عملِه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه لغيره -أي: لا يَصرفه التّطوّع بالدعوة إلى الله عن عمله الأصلي الذي يسترزق منه ويعيش على موارده-.

ص: 119