المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدعوة إلى الله ماضية إلى يوم القيامة - أصول الدعوة وطرقها ١ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مدخل إلى علم الدعوة

- ‌ التعريف بالدّعوة

- ‌حُكم تبليغ الدّعوة وآراء العلماء في هذا

- ‌ملَكة البيان ووسائلها

- ‌العلوم التي لها ارتباط وثيق بعِلْم الدّعوة

- ‌العلوم التي تتناول أصول الدِّين وفروعَه

- ‌ المَواد العِلْميّة الكَونيّة

- ‌الدرس: 2 الدعوة إلى الله من أشرف الأعمال وأعظمها

- ‌الدَّعوة إلى الله مُهمّة الرُّسُل

- ‌تعدّد أسماء الدّعوة إلى الله ممّا يَدلّ على شَرفها

- ‌الدّعوة إلى الله ماضِية إلى يوم القيامة

- ‌الدرس: 3 أسباب استمرار الدعوة وبقائها

- ‌الصِّراع بين الإنسان وأخيه الإنسان

- ‌لِمَ كانت أمّة الإسلام هي المُكلَّفة شرعاً بالدّعوة إلى الله دون غَيرها من الأمم

- ‌الدرس: 4 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تعريفهما وأهميتهما وصلتهما بالدعوة

- ‌المَعروف والمُنْكر بين اللغة والاصطلاح

- ‌أهمِّيّة الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر والأدلّة على وجوبه

- ‌صِلة الأمْر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر بالدّعوة إلى الله

- ‌الدرس: 5 تحديد المعنيين بخطاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأسباب المعصية، وشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌تَحديد المَعْنِيِّين بخِطاب الأمر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر. أـ تحديد الظالمين لأنفسهم

- ‌ب- تَحديد أسباب المَعصية

- ‌تابع: أسباب المَعْصية

- ‌شُروط الأمْر بالمَعْروف والنّهي عن المُنْكر

- ‌تابع: شروط الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر

- ‌الدرس: 6 أنواع البشر الذين يوجه إليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيفية علاجهم، ومراتب إنكار المنكر

- ‌(أنواع البشر الذين يوجه إليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيفية علاجهم

- ‌تابع: أصناف الناس الذين يُوجّه إليهم الأمْر بالمعروف والنّهي عن المنكر

- ‌المأمورات والمنهيّات التي يجب أن يتناولها الآمِر بالمعروف والنّاهي عن المنكَر

- ‌نوعان من الناس يتوجّه إليهما النّهي

- ‌مراتب إنكار المنكر. ما فيه الاحتساب

- ‌الدرس: 7 الصغائر والكبائر، ومراتب إنكار المنكر، وإزالته وضوابطه

- ‌وجوب معرفة الفرْق بين الكبيرة والصغيرة

- ‌أسباب انتقال الصغائر إلى كبائر

- ‌مراتب التّصدّي للمُنكَر وإزالته

- ‌حُكم التغيير بالقلب وبيان مظاهره

- ‌ضوابط الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر للحاكِم المسلم

- ‌الدرس: 8 أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌أولاً: أسلوب التعليم والتّفقيه

- ‌ثانياً: تقوية الإيمان، واستثمار الوازع الدِّيني

- ‌ثالثاً: الموعظة الحسَنة

- ‌رابعاً: التآلف والسِّتْر

- ‌خامساً: استثارة العواطف والمشاعر، وإيقاظ دوافع الحميّة والغيرة

- ‌الدرس: 9 تابع: أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌سادساً: الحثّ على التوبة، وقبولها من المذنبين. سابعاً: الزّجر بالإغلاظ في القول، والضرب

- ‌ثامناً: ردْع العصاة بإقامة الحدود الشرعيّة

- ‌تاسعاً: تغيير البيئة

- ‌عاشراً: إيجاد البدائل

- ‌الدرس: 10 الآثار السيئة الناتجة عن تقاعس المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحقيقة الدعوة الإسلامية

- ‌ الآثار السيئة التي أدى إليها التخاذل عن تبليغ الإسلام ونشره

- ‌هل الدّعوة إلى الله رسالة أم وظيفة

- ‌القاسم المشترَك بين الأنبياء جميعاً

- ‌الفرْق بين معجزات الإسلام والمعجزات الأخرى

- ‌الدرس: 11 من خصائص الدعوة الإسلامية

- ‌مِن خصائص الدّعوة الإسلامية (أ)

- ‌مِن خصائص الدّعوة الإسلاميّة (ب)

- ‌ربّانيّة الدّعوة الإسلاميّة

- ‌عالَميّة الدّعوة الإسلاميّة

- ‌الدرس: 12 تابع: من خصائص الدعوة الإسلامية

- ‌من خصائص دعوة الإسلام: أنها خاتِمة الرّسالات السابقة

- ‌الإسلام نظام شامل لِكلّ شؤون الحياة

- ‌ثبوت مصادر الإسلام وسلامتها من التّحريف

- ‌الدرس: 13 تابع: من خصائص الدعوة الإسلامية

- ‌توافُق الدّعوة مع العقل والفطرة ُ

- ‌وسطيّة الدعوة وملاءمتها للفطرة

- ‌قواعد الاعتدال والتّوسّط

- ‌أمَارات الوسطيّة والاعتدال في الدّعوة

- ‌الدرس: 14 من صفات الدعاة

- ‌من صفات الدعاة: التمهيد

- ‌من صِفات الدّاعي إلى الله

- ‌الاقتداء برسول الله والتّأسّي به صلى الله عليه وسلم

- ‌الإخلاص في القول والعمل

- ‌تابع: الإخلاص في القول والعمل

- ‌نواقض الإخلاص

الفصل: ‌الدعوة إلى الله ماضية إلى يوم القيامة

قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110).

‌الدّعوة إلى الله ماضِية إلى يوم القيامة

تمهيد:

نوضِّح في هذا العنصر أنّ الدعوة إلى الله ماضِية ليوم القيامة، إذ التَّدافُع والتصارُع بين الإيمان والكُفر، والخَير والشَّر، والعَدل والظُلم، والحَقّ والباطِل، لن يَنطفئ لَهيبه ولنْ تَخمُد جَذوته، فهو سُنَّة من سُنن الله في الكون منذ أن خَلق الله آدم عليه السلام، وإلى أن يَرث الله الأرض ومَن عَليها، قال تعالى:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:251).

وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40).

ولقد شاءت إرادة الله أن تَكون الكُرة الأرضية مَيداناً رَحباً للتَّدافُع والصِّراع الذي أثخَن الإنسانية بالجِراح. ولقد تَعدّدت أطراف التَّقاتل والتَّنازع عَبر تاريخ البشرية وحتى قيام الساعة، ممّا يوجب استمرار الدّعوة إلى الله، ووجوب وجود أمّة الدعوة التي تقوم بها، وتَتشَرَّف بتَحمُّل تَبِعاتها حتى يَرث الله الأرض ومَن عليها.

ص: 58

ولقد تَعدّد أطراف التَّقاتُل والتَّنازُع عَبر تاريخ البشرية على النحو الموضَّح في العناصر الآتية:

العنصر الأول: أطراف التَّصّارُع والتَّنازُع في هذا الكون:

أولاً: الصِّراع بين الشيطان والإنسان:

لقد كان خَلْق الله لآدم عليه السلام في أحسن تَقويم، وأمْره سبحانه وتعالى الملائكة بالسُّجود له -سُجود تَحية وتَكريم-، ثم إسكانه وزَوجه الجنّة، واستخلافه في الأرض بعد ذلك، هو الشَّرارة الأولى التي أشعلت نيران الحِقد الأسود والغِلّ الدَّفين في قلب إبليس اللّعين، حيث اعترض على خَلق آدم، وامتنع عن أمْر السجود له، لاعتقاده الخاطِئ أنه في مَنزلة أعلى منه خَلْقاً، وأفضل عُنصراً. ولقد ذَكَر القرآن الكريم هذا في قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (الأعراف:11، 12).

ثم أردف ذلك بالتَّهديد والوَعيد مُعلِناً ذلك في جُرأة ووَقاحة. وقد أخبر القرآن الكريم عن ذلك في قوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء:62)، أي: لأستَوليَنّ عَليها ولأحتوينّها ولأضِلّنّها.

وقد كَشف القرآن الكريم خُطَّته لاحتواء الإنسان وغِوايته، قال تعالى:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف:16، 17).

ص: 59

ولحِكمة يَعْلمها الله سبحانه وتعالى، استجاب لِطَلب إبليس بتَمكِينه ممَّن ضَعُف الإيمان في قُلوبِهم، قال تعالى:{قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَاّ غُرُوراً} (الإسراء:63،64).

ولقد بيّن الحقّ سبحانه وتعالى أنه عَصم أولياءَه المُتّقين من مَكْره، وحَفِظ عباده المُؤمنين من سَيْطرته ووَسْوسته إليهم، قال تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} (الإسراء:65).

وهكذا انحَصر مَكر إبليس في مَن ضَعُف إيمانُهم، ووَهنت عَقيدتُهم. ولقد حذَّر الله آدم عليه السلام وزَوجَه ممّا أضمَره لهما الشيطان، وبيّن لهما عاقِبة الانصياع لوساوسِه والوقوع في حبائل إغوائه. وكان أمر الله لآدم وزَوجه بعَدم الاقتراب من الشَّجرة والأكل منها واضحاً، وأبان لهما في جَلاء تام مَغبَّة مُخالَفة أمره سبحانه، قال تعالى:{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة:35).

ولأمور قدَّرها الله، ولِحِكمةٍ لا تُدرك العُقول كُنْهَها، مُكِّن للشيطان في أن يَتسلَّل إلى الجَنة ويَلبَس ثوب النّاصِح الأمين لآدم وزَوجه، وأقسَم لهما على ما يُحقِّقه الأكل من الشجرة من الانتقال من البَشرية إلى المَلائكيّة، وتَحقّق الخُلود وعَدم الفَناء؛ فضعُفا أمام وسوَسته واستجابا لإغوائه، وأكلا من الشجرة المَنهيّ عنها، قال تعالى:{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَاّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} (الأعراف:20، 21).

ص: 60

وقد عاتَبهما الله على مُخالفة أمْره، بالنَّهي عن الاقتراب أو الأكل من الشجرة، قال تعالى:{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} (الأعراف:22).

فاعترفا بتَقصيرهِما، وأقرّا بخَطئهما، وطَلبا من الله المَغفرة والرَّحمة، قال تعالى:{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف:23).

لقد استوعب آدم وزَوجه الدَّرس جَيداً، وأيقنا بالتَّجربة والواقع مَدى الحِقد الذي يُضمره الشيطان عليهما.

ثم أهبِط بثلاثتهم إلى الأرض، لتكون ساحة للصِّراع والنِّزال بين بني آدم وإبليس وحِزبه إلى يوم القيامة، قال تعالى:{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (الأعراف:24).

وتوالى تَحذِير الله لبني آدم على ألسنة رُسُله، ومن خِلال كُتبه المُنزلة عَليهم من فِتن الشيطان ومكائِده. ونبّه سبحانه وتعالى على أنّ ما حلّ بأبيهم وأمّهم بسبب وساوسه، قال تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:27).

هذا الحِقد الأسود والغِل الدَّفين الذي يَحمله الشيطان لبني آدم، لن تَنطَفئ ناره ولن يَخمد لَهيبه، بل هو مُستمرّ على مَدى تاريخ الإنسانية، وسيَظل هذا الصِّراع ما دام الإنسان يَحيا في هذا الكون.

وإنّ من رَحمة الله بعباده، وشَفقته عليهم ورأفته بهم، أنه لم يَدعْهم للشيطان يستحوذ عليهم ويَفتَرسهم، ولكن أرسَل الرُّسل، وأنزل الكُتب، وفَتح أبواب

ص: 61

التَّوبة والمَغفرة، وحصّن الإنسان بأنواع العِبادات، وصُنوف الطاعات والقُربات، التي تَحول بَينه وبين الشيطان.

واختَص الحق تبارك وتعالى أمّة الإسلام من بين الأمم لتتولّى مُنازَلة الشيطان وحِزبه، وذلك من خِِلال آيات الله وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبجِهود الدّعاة إلى الله الذين لا يَخلو منهم زمان ولا مكان، حتى يَرِث الله الأرض ومَن عليها.

وهذا ما يُؤكِّده قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104).

فالدّعوة إلى الله سُنَّة فِطريّة، وحاجة ضَروريّة للإنسانية، ما دام الشيطان وحِزبه يَعيثون في الأرض فساداً. ولنْ يُلجِم الشيطان عن إغوائه، ولنْ يُفسِد وساوسَه، إلاّ الدّعاة إلى الله، حينما يُخلِصون النِّية والعَمل، ويتسلّحون بالكتاب والسُّنّة، ولا يَكفُّون عن مُقاومة الشيطان وحِزبه، ولا يتوانَوْن عن كَشف أساليب مَكْره، ويَظلّون يُحذِّرون البَشر من كَيْده؛ وهذا أمر باقٍ ما دام الإنسان والشيطان، وما بَقيت السماوات والأرض.

ثانيا: الصِّراع بين الإنسان ونَفْسه:

لقد خَلَق الله الإنسان في أحسن تَقويم، وأسبَغ عَليه نِعمَه ظاهِرة وباطنة، وأودع بين جَوانب نَفسه وثنايا قلبه وجَسده أسرار الخَلق، وعَظمة التَّكوين، ودِقّة الإبداع، وآيات الإعجاز، ودَلائل القُدرة، قال تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الذاريات:21).

فالإنسان تَتكوّن هَيئتُة وحَقيقتُه من جَسد ونَفْس؛ فالجَسد عِبارة عن الهَيكل المَكسوّ لحماً وشَحماً، ودَماً وأجهزة وأعصاباً، وعُروقاً بعضها يُرى بالعَين المُجرّدة أو بوسائل العِلْم الحَديث، والبَعض ما زال العِلْم عاجزاً عن سَبر أغواره واكتشاف بعْض حَقائقه، ممّا يُنبئ عمّا يَحتويه الجِسم من أسرار تَدلُّ على قُدرة

ص: 62

الخَالق وعَظمة الصانِع سبحانه وتعالى، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار:6 - 8).

أمّا النَّفْس، ويُراد بها: الرُّوح التي بها الحَياة وإذا زايلت الجسم نَزل به المَوت، وهي باقِية فيه ما بَقي في الحيّ نَفَس، فهي: الجَوهر اللَّطيف الحامِل لقوّة الحياة والحِسِّ والحَركة والإرادة. وهي: مُجرّدة عن المَادة، قائمة بنَفسها، غير مُتميّزة، مُشتبكة بالبَدن اشتباك الماء بالعُود الأخضر، ومُتعلّقة به للتَّدبير والتَّحريك.

وتَرِد "النَّفس" في اللغة العربية على مَعانٍ كَثيرة، منها:

1 -

النفس: معنىً في الإنسان يوجِّهُه إلى أفعاله من الخَير والشَّر. تقول: "أمرتْني نَفْسي"، و"سوّلتْ لي نَفسي". قال تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس:7 - 10).

2 -

"النفس" تُطلق على مَعنىً في الإنسان به التَّمييز والإدراك والإحساس لِما يُحيط به، وهذا المَعنى يُفارقه في النّوم حيث يَغيب وَعيه، قال تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} (الزُّمَر:42).

وقد سمَّى القرآن الكريم غِياب الوعْي عن النائم: "وفاة"، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً} (الأنعام:60).

و"الرُّوح" -بضَمّ الراء-: ما به حياة الأجسام. وقد يُضاف إلى الله للملْك أو التَّشريف، قال تعالى:{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} (مريم:17).

و"الرّوح" يُطلق على كلِّ أمْر خَفيّ لَطيف، كالوحي، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} (الشورى:52).

ص: 63

ويُطلق على جِبريل، قال تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} (القدْر:4)، وقال تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً} (النبأ:38).

ويُطلق على أمْر الله سبحانه وتعالى، قال تعالى:{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (غافر:15).

ويُطلق لَفظ الروح على ما هو داخل الإنسان، وهو كالنَّفس، وتكون به الحياة.

وحَقيقة الرُّوح أمرٌ اختُصّ الله به، واستأثر بعلْمه، وجعلَه سراً من أسرار الحياة، ليس لأحد من الخَلق إدراك كُنهه، أو البَحث عن حَقيقته، وإنما يُعْرف بآثاره. قال تعالى:{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء:85).

فالإنسان يَكوَّن من جَسد ونَفْس ورُوح، ولقد أودع الله بين ثنايا قَلْبه وجوانب نَفسه أنواعاً من الغَرائز والدَّوافِع تَتَفاعل داخل كيانه، وتَتَدافع في تَعادل إلهي دَقيق وتَوازن مُعْجز. ومن هذه الغرائز:

1 -

غَريزَة حُبّ النَّفس، والحِرص على الحَياة.

2 -

غَريزة حُبّ التَّملك والاقتِناء.

3 -

غَريزة الخَوف والغَضب والهَرب.

4 -

غَريزة المَأكل والمَشرب.

5 -

الغَريزة الجِنسيّة.

هذا الغَرائز وغيرها تَغلي كالمِرجَل داخل كَيان الإنسان، وكل غَريزة تَتَزاحَم لِبسْط سُلطانها على سُلوكه وتَصرّفاته.

هذه الغَرائز ليست غاية في ذَاتها، وإنما هي بأعراضِها ومُؤثّراتِها وسائل لغايات أخرى تُعين الإنسان وتُمكّنه على تَحمُّل أمانة الله في هذا الكون.

ص: 64

والإنسان بفِطرته وعَوامل خَلْقه وتَكوينه، يَميل لإشباع تلك الغَرائز، فيَحدُث الصِّراع داخِل كيانه حَيث تُحاول كلّ غَريزة أن تَجذبه إليها، وتَدفعه بقوّة لإشباعها؛ ولو تُرك الشخص دون ضوابِط الدِّين وأحكام الشَّرع وتقاليد المُجتمع المُسلم التي تتلاءم مع الفِطرة النَّقية، لانطلق الإنسان كالجواد الجَامِح الذي لا يُوقفه شيء.

ومن رحمة الله بالإنسان: أنه لم يَدعه للغَرائز تَفترسه، ويَنساق معها دون ضوابط أو روابط، بل أودع بين حنايا نَفْسه مقاييس ومَوازين اعتدال السلوك وسَلامة التَّصرف، قال تعالى:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد:10)، أي: طَريق الخَير، وطَريق الشَّر.

وقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} (الإنسان:2، 3).

وقال صلى الله عليه وسلم: ((البِرُّ ما اطمأنّتْ إليه النّفسُ. والإثمُ ما حَاك في صَدرك، وكَرهتَ أن يَطَّلعَ عَليه النّاس)).

هذا بجانب دعوات الأنبياء والمرسلين، عَبر تاريخ الإنسانية التي تُنظِّم غَرائز الإنسان وتمنعُها من التصادم والتصارع.

فالدّعوة إلى الله ضرورة إنسانية، يحتاج إليها الإنسان لإصلاح ذاته، ولتحقيق التناسق والتوازن بين رغباته وشهواته، وحَسم الصِّراع داخل نَفسه، وذلك من خِلال تَوجيه الدّعاة للناسَ إلى الله، وبيانهم للحَلال والحَرام وفْق أحكام الدِّين وشَرائعه.

وسوف تَظل الدّعوة -بإذن الله- قائمة، والدّعاة يُؤدّون رسالتهم ما بَقي الإنسان على ظَهر هذه الأرض يَحمل بين جَسده ونَفْسه غَرائزه وشَهواته.

أما عن مبررات ووجوب استمرار الدعوة إلى الله ليوم القيامة فهذا موضوع المحاضرة القادمة إن شاء الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 65