الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرْق بين معجزات الإسلام والمعجزات الأخرى
"المعجزة": أمْر خارق للعادة، يُظهره الله على يد النبي والرسول، تأييداً له وتحدِّياً للمعانِدين.
ومعجزات الأنبياء السابقين معجزات حسِّيّة، ترتبط بمكان وزمان الرسول والمرسَل إليهم؛ فإذا مات النبيّ أو الرسول انقطعت معجزتُه، ومن ثّم لم يعد هناك دليل قائم على نبوّته واستمرار رسالته. فمعجزة موسى عليه السلام كانت العصا، يلقي بها على الأرض فتنقلب حيّة تسعى، ويضرب بها البحر فيصبح طريقاً يبساً، ويهوي بها على الحجر فتتفجّر منه اثنتا عشرة عيناً. وبانقضاء حياة موسى عليه السلام، انتهت معجزتُه، ولم يصبح في يد اليهود دليل على نبوّة موسى عليه السلام. حتى بقايا التوراة، تناولتها يد اليهود بالتغيير والتحريف، ولم تَعُدْ بصورتها الحالية دليلاً على صِدْق نبوّة موسى عليه السلام.
وكذلك الشأن في معجزات عيسى عليه السلام، كالنّفخ في الطِّين على هيئة الطير فيصبح طيراً بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، والإخبار بما يدّخره الناس في بيوتهم؛ وهي كلّها معجزات موقوتة بمكان وزمان عيسى عليه السلام. وعقِب رفْعه رُفعت معه معجزاته، ولم يَعُد لدى النصارى دليلٌ قائمٌ على نبوّة عيسى عليه السلام واستمرار رسالته. وما بين أيديهم من الأناجيل لا تمُتّ -باعتراف المحقِّقين والمدقِّقين من علماء التاريخ والأديان- بصِلَة إلى وحْي السماء المُنزَل على عيسى عليه السلام.
وكذلك الحال في جميع معجزات الأنبياء والمرسلين السابقين. فلولا إخبار القرآن عنهم، وذكْر نبوّاتهم ورسالاتهم، ووجوب الإيمان بهم، لما كنّا نعرف عنهم
شيئاً، ولسنا مطالَبين بالتصديق بوجودهم، إذ ليس مع أتباعهم ما يُفيد ذلك سوى أخبار يَنقصها التوثيق العلْمي وصحة السّند وصدْق الخبر.
أمّا الإسلام العظيم، فقد تفرّد بمعجزة خالدة باقية محفوظة، حتى يرِثَ الله الأرض ومَن عليها، لا ترتبط بمكان مُحدّد ولا زمان مُعيّن؛ إنه القرآن الكريم. "كتاب الله المُنزَل على رسوله صلى الله عليه وسلم، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا نقلاً متواتراً بلا شبهة". وقيل في تعريفه:
"كتاب الله المُنزَل على سول الله صلى الله عليه وسلم، المتعبَّد بتلاوته، المُعجِز ببلاغته، المتحدَّى به الإنس والجنّ".
ولاستمرار خلودِه، وبقائه وصوْنه ممّا نزل بالكتب السابقة، فقد توافرت أمور عدّة وضمانات كثيرة لم تتوافر لغيره، ومن ذلك ما يلي:
أولاً: تعهّد الله بحفْظه، فلم يَلحقْ به ما لحق بالكتب الأخرى، قال تعالى:{اِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحِجر:9).
ثانياً: تيسير الله سُبُل حفْظه، وإعانته على بقائه في صدور الحفَظة، قال تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر:17).
ثالثاً: أمَر الله باستمرار تلاوته، قال تعالى:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} (المزَّمل:4).
رابعاً: إعانة الله على جمْعه وقراءته وتسهيل طُرق بيانه. قال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة:16 - 19).
خامساً: مضاعفة أجْر وثواب من يقرؤه، وكذلك من يستمِع إليه؛ وقد وردت في ذلك كثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية.
فمِن القرآن: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر:29، 30).
وقال تعالى: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} (مريم:58).
ومن السُّنة النّبويّة ما يلي:
1 -
عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن قرأ حرْفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشْر أمثالها؛ لا أقول: {الم} حرفٌ، ولكن ألفٌ حرف، ولامٌ حرف، وميمٌ حرف))، رواه الترمذي وقال:"حديث حسن صحيح".
2 -
عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقرؤوا القرآن؛ فإنّه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه))، رواه مسلم.
3 -
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((يُقال لصاحب القرآن: اقرأْ وارتَقِ، ورتِّلْ كما كنتَ ترتِّل في الدنيا؛ فإنّ مَنزلَتك عند آخِر آية تقرؤها))، رواه أبو داود، والترمذي وقال:"حديث حسن".
سادساً: حفِظ الله تبارك وتعالى اللغة العربية، فلم يَنزِل بها ما نزل باللّغات الأخرى، حتى لا يُستعجَم القرآن الكريم. هذا، وإنّ من المحاولات الخبيثة: محاولات البعض تغيير قواعد اللغة العربية، أو استبدالها بالعامّيّة، أو إحلال اللّغات الأخرى محلّها.
سابعاً: ارتباط القرآن الكريم بحياة البشَر، وتنظيمه الدّقيق والمعجِز لجوانب العقيدة والشريعة والأخلاق والعبادات التي تشمل الناس جميعاً. هذا، بجانب
حديثه عن الأمم السابقة حديث صدق وحق، وإخباره عمّا يعتري البشريّة من أحوال إلى قيام الساعة.
ثامناً: تعدّد أوجه الإعجاز في القرآن الكريم؛ فبجانب الإعجاز البلاغي هناك الإعجاز العلْمي، والتاريخي، والتشريعي، إلى غير ذلك من وجوه الإعجاز المتعدِّدة
…
تاسعاً: اهتمام المسلمين بالقرآن الكريم منذ أن تلقّاه الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يأمر كُتّاب الوحي بكتابته؛ هذا، بجانب حفْظه في الصدور. ثم التعاون على جمْعه في خلافة أبي بكر الصديق، ثم في خلافة عثمان بن عفان. وعقب تاريخ المسلمين، كان القرآن الكريم ولا يزال له الصدارة في الاهتمام؛ فبرز الخط العربي، وأبدع الخطّاطون في كتابته، كما وُضعت قواعد النحو لِصوْن قراءته. وظهر علْم التجويد والقراءات والتفسير. وتبارت الأمّة حُكّاماً ومحكومين، على حفْظ كتاب الله وصوْنه ورعايته؛ وهذه خصوصية انفرد بها القرآن الكريم عن باقي الكتب السماوية، وتميّز بها المسلمون عن سائر أمم الأرض.
عاشراً: ومِن خصائص الدعوة: حفْظ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله:
شهد تاريخ البشرية أنبياء ورسلاً كثيرين، قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر:24).
ولقد انتهت رسالتهم، واندثرت آثارُهم، وطُويت كتبُهم، وجهِل الناس سيرتَهم وأحوالهم، ولم يعُدْ يُعرف عنهم شيء إلاّ من خلال ما جاء في القرآن الكريم عن دعْوتهم لأمَمِهم. وإنّ من خصائص الإسلام: ما تفرّد به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سائر الأنبياء وجميع المرسلين، مِن عِصمته في حياته رغم كثرة محاولات قتْله، لأن الله قد تكفّل بذلك في قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة:67).
وقد شملت العصمة حفْظ الله لِسيرته، وصوْن أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم، حيث قيّض الله بهذا الحفظ الرّواة العدول الثّقات من آل بيته وزوجاته أمّهات المؤمنين وصحابته -رضوان الله عليهم أجمعين-، الذين روَوْا تفاصيل حياته صلى الله عليه وسلم، وحدّثوا الأمّة حديث صِدق عن أقواله وأفعاله وعظمة أخلاقه. وتناقلها الرواة العدول الثقات جيلاً بعد جيل، في تسلسل فريد، وتوثيق مُحكم، ومحافظة على السّند والمتن، بصورة لم ولن تشهد لها البشرية مثيلاً. وقد كان بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يدوِّنون ما يسمعونه منه صلى الله عليه وسلم، كعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر، وأنس خادم الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولقد بدأ التدوين الرسميّ للسُّنّة في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، حيث كتب إلى الآفاق:"انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجمعوه! ". وكتب لأهل المدينة: "انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاكتبوه! فإني خِفتُ دروس العلْم وذهاب أهله".
ولقد نشط العلماء وتعالت هممهم في الجمع والتدوين، ووُضعت قواعد علْم مصطلح الحديث، وتعددت المصنفات التي جمعت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان من أتقنها:"صحيح البخاري ومسلم"، ثم كتب المسانيد الأخرى. وقد تم تصنيف السّنة وتبويبها وتنقيحها من الدخيل والموضوع والضعيف، بصورة فريدة وبطريقة انفرد بها الإسلام عن غيره من الأديان الأخرى.
وبجانب التوثيق بالرواية والكتابة والحفظ، فإنّ ممّا انفرد به صلى الله عليه وسلم، وتميّز به عن غيره من الأنبياء والمرسلين: أنّ مواطن الدعوة في مكة والمدينة، وأماكن أحداثها وآثارها، شاهد عدلٍ ودليل صدْق على التواجد المستمرّ والبقاء الخالد للإسلام.
ففي كل عام، يتوافد ملايين الحجاج والمعتمرين لِيشاهدوا أماكن الدّعوة ومواطنها.
فغار حراء ما زال قائماً مرتفعاً تطلّ قمّته على مكة كلّها، يسترجع المسلمون عند رؤيته مشهد جبريل وهو ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي.
وغار ثور في الناحية الجنوبية من مكة، حيث مشاهد وأحداث الهجرة.
هذا، وممّا اختُصّ به صلى الله عليه وسلم أنه هو النبي الوحيد من بين سائر الأنبياء، معروف موطنه في مكّة المكرمة، ومسجده وقبره الشريف في المدينة المنورة، يتوافد جموع المسلمين للصلاة بمسجده، والتسليم عليه في الروضة الشريفة، حيث يقفون أمام القبر الشريف يشهدون أنه صلى الله عليه وسلم بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وكشف الغمة، وترَك أمّته على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
والرسول صلى الله عليه وسلم، دون كلّ الأنبياء والمرسلين، هو الذي يتردّد اسمه الشريف في الأذان خمس مرات في اليوم والليلة، هذا بجانب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من قِبل الله والملائكة، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:56).
كلّ هذه الأمور من دواعي الحفْظ، وأمارات الاستمرار، ممّا اختُص به صلى الله عليه وسلم، ليظلّ الإسلام من خلال القرآن الكريم وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم حياً في وجدان الإنسانية، يقظاً في قلبها وعقلها، حتى إنّ بعض العلماء من غير المسلمين يهتمّون بسيرته، ويكتبون عنه، ويتناولون حياته بدافع ذاتيّ وشعور داخليّ؛ بل إن الأقطار والدّول التي تعادي الإسلام وتعلن الحرب على المسلمين، تقام فيها المساجد وترتفع فيها المآذن ويكثر الداخلون في الإسلام منهم عاماً بعد عام.