الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
المَواد العِلْميّة الكَونيّة
المَوادّ العِلْميّة الكَونيّة
القرآن الكريم هو حُجّة الله البَالِغة على عِباده، ومَوضع الحُجّة القاهِرة فيه: إعجاز الخَلق عن الإتيان بسورة مِن مِثْله.
ويَنبغي ألاّ يَكون إدراك إعجازِه مَوقوفاً على فُصحاء العرب فَقط؛ فالإنسانية كلّها مُخاطَبة به، مُطالبة بالتَّسلِيم له، لأنه كَلام الله للبَشر جَميعاً، فكان لا بدّ من إعجاز يَشترك في إدراكه العربيّ والأعجميّ. والإعجاز العلمي في القران الكريم هو أحد أوجُه الإعجاز الذي يَعجز المُلحدون أن يَجدوا مَوضعاً للتَّشكيك فيه، إلاّ أن يتبرؤوا من العَقل ويُلقون التفكير.
وقبل أن نُبيِّن مَدى ارتباط العُلوم الكَونيّة بعِلم الدّعوة، يَنبغي أن نُوضِّح الحقائق التالية:
أولاً: إن القرآن الكريم هو كتاب الله المُحكَم المُفصّل، قال تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود:1).
وهذا التَّفصيل والإحكام لا يتوقّف عند زمنٍ معيَّن ولا أقوام بعَيْنهم، وإنما هو مُتجدِّد العَطاء، دائم التَّحدّي والإعجاز، حتى يَرث الله الأرض ومَن عليها.
ثانياً: هناك تَوافق بين آيات القرآن الكريم وسُنن الله تعالى في الكون، وليس ثمّت تَعارض بين آيات الذِّكر الحكيم والقوانين العِلميّة والسُّنن الكونيّة الثابتة.
فالقرآن كلام الله، والكون خلْق الله، فلا اختلاف بينهما؛ ولهذا قيل:"القرآن كون الله المَقروء، والكَون قرآن الله المَنظور".
ثالثاً: يَنبغي أن لا يُفسّر القرآن، ولا يُستدلّ به على نَظريّات لا تَزال محلّ بحث وفَحص، ولم تَرْقَ إلى مرتبة القوانين العلميّة الثابتة، كقانون الجاذبيّة، وكقوانِين طفو الأجسام وغوْصها
…
رابعاً: يَنبغي ألاّ يُستدلّ بالحقائق العلميّة على صدْق القرآن، ولكن يَجب أن يُستدل بالقرآن على صِحّة الحَقيقة العِلميّة، وإذا ما حدث تعارضٌ ما فيجب أن يُعاد النَّظر في القانون العِلميّ، أو مُعاودة دِراسة الظاهِرة الكَونيّة في ضوء البحث العلمي، بأدوات بحثه المُتقدّمة وفي ضوء تفسير الآية، وفق مَدلولات اللغة العربية.
خامساً: إنّ الإعجاز العِلمي للقرآن الكريم ليس في اشتماله على النَّظريات العِلميّة التي تَتجدّد وتَتبدّل، وتكون ثَمرة للجُهد البشري الذي يُخطِئ ويُصيب؛ وإنما الإعجاز العلميّ يهدف إلى توجيه العقول إلى التفكّر فيما يحيط بالإنسان في هذا الكون، قال تعالى:{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات:20، 21).
سادساً: يَنبغي ألاّ يُتعسّف في التأويل، ولا يُشتَطّ في التفسير، لإخضاع كلّ القوانين العلْميّة للقرآن الكريم؛ فمِن الخَطإ الاعتقاد أن يتضمّن القرآن كلّ نظريّة علْميّة، وكلّما ظَهر سِرّ نظريّة جَديدة، سارع البعض يلتمس لها تأويلاً وتفسيراً في القرآن الكريم.
وبعد هذه التَّوضيحات، فإن عِلْم الكَونيات وغيرها من العلوم التطبيقية، لَذو صِلة وثيقة بعلْم الدّعوة، وعلى الداعية أن يَتعرّف على الآيات التي تتناول سُنناً كَونية، أو ظاهرة فَلكيّة، لتكون من مَوضوعات دَعْوته، يَدعم بها حَديثه، ويُوطِّد بها استدلالاته. ومن ذلك ما يلي:
أولاً: يَجمع الله علوم الفلَك، والنّبات، وطبقات الأرض، والحيوان، في آيتيْن، ويَجعل ذلك من بواعِث خَشْيته سبحانه وتعالى، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر:27، 28).
ثانياً: الذكورة والأنوثة، أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات:49).
وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} (يس:36).
ثالثاً: أشار القرآن الكريم إلى انشطار الذَّرة وتَجزئتها في قوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (سبأ:3).
فالذَّرة عرّفها العلماء بأنها الجُزء الذي لا يَتجزّأ، وأنها أصغر شيء في الوجود، وأنها رغم صِغرها يتوقّف عليها شقاء العالَم أو سعادته، وأنّ القوة الكامِنة فيها قُوّة مُخيفة، إن استُعمِلت في الحَرب أفنَتْ كلّ شيء، كما حدث في اليابان في الحرب العالمية الثانية، وإن استُعمِلت في الأغراض السِّلميّة حَقّقت الخير للإنسانية.
رابعاً: أشار القرآن الكريم إلى الظواهر الجَوِّيّة في آيات كَثيرة، منها:
قوله الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ
عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (النور:43، 44).
فقد أشارت هذه الآيات إلى الظواهر الكونيّة التّالية:
1 -
السّحاب.
2 -
المطر.
3 -
البََرَد.
4 -
الصّواعق.
5 -
تقلُّب الليل والنهار.
وما يَحمل ذلك عَبر هذه الآيات وغيرها، ممّا ينبغي على الدّعاة أن يقفوا على أسرارها، ويسبرون أغوارها؛ وبهذا يتملّكون نواصي العُقول والقُلوب.
وبذلك يَتّضح مَدى ارتباط العُلوم الكونيّة وغيرها كطبقات الأرض، والزراعة، والفلَك، بعلْم الدّعوة إلى الله.
القسم الرابع من العلوم التي لها صِلة بعلْم الدعوة: علْم التّاريخ والمَغازي والسِّيَر:
إنّ علْم التاريخ مرآة لأحداث الماضي ووقائعه، سطّرته الأمّة بدماء شهدائها، ومداد علمائها. وهو الذَّاكِرة الجَيِّدة التي تَحمل بين ثناياها عَبَق الماضي من أمجاد وانتصارات أحياناً، وفتنٍ ومحنٍ وهزائم أحياناً أخرى. وحلقات التاريخ ممتابعة، ومتواصلة عبر القرون، ولا تستطيع أمّة أن تتنكّر لتاريخها أو تتوارى خجلاً من أحداثه. وتاريخ الإسلام يفيض بالدروس ويزخَر بالعِبر، ولا سيما في القرون الأولى لدعوة الإسلام. والدّاعي إلى الله يحتاج إلى أن يَدخل مِحراب التاريخ
ويَدرس عوامل نُهوض الأمّة، ويَقف على أسباب انكسارها، كما يَرقُب عن كثب وهو يقلِّب صفحاته أمجادَ المسلمين في صدر الإسلام، من خلال الفتوحات والغزوات، ينقل ذلك بأمانة وصدْق عاطفة، فيُحرِّك السّاكن، ويُوقظ الكَسلان ويُنبِّه الغافِل، فتَتحرّك القُلوب وتَستَيقِظ المَشاعر، وتهبّ الأمّة من كبْوَتها، حيث حرّكتْها ذكريات الماضي.
كما على الدّعاة أن يَدرسوا تاريخ الأمَم من خِلال قَصص القرآن الكريم الذي يَجلو حَقيقة مواقف المُعاندين ونهايتهم، ويُرشد إلى جِهاد الرُّسُل ومَن مَعهم.
بجانب هذه العلوم التي ذَكرناها، فإنه يَجب على الدّعاة أن يكونوا مُلمِّين بثقافة العصر، دارسين للمذاهب الفكريّة، والتيارات المعاصرة، لأن العداء بين الإسلام وأعدائه ليس وليدَ اليوم ولا الأمس القريب، ولكنها أحقاد كامنة وثأر قديم وغلّ دفين؛ يتفنّنون في التآمر على المسلمين، يرقبون حركة المسلمين عبر العصور، ويقفون على مواقف القوة فيُضعفونها، ويقفون على مواضع الضّعف فيزيدون منها، نكاية للإسلام ومحاولة للنَّيْل منه.
كما سبق، يتّضح أنّ جميع العلوم النظرية والتَّطبيقية، وشتّى المعارف الإنسانية، هي عبارة عن شرايين تتدفّق منها العلوم لتُغذّي علْم الدعوة، فيَنهل منها الدعاة، ويتكوّن لديْهم كمٌّ هائل من المعرفة، ورصيدٌ ضخمٌ في شتّى الثقافات، فيكونون بذلك أقدر على الإقناع، وأقوى على سَوْق الحُجج والبراهين.