الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع عشر
(من صفات الدعاة)
1 -
مِن صِفات الدّعاة
من صفات الدعاة: التمهيد
التمهيد:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
فإنّ تاريخ البشرية الضّارب في أعماق الزمن، والمُمتدّ عقِب قرون طويلة وحقبٍ متتابعة، ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالدّعوة إلى الله، وامتزج بوحي السماء ورسالات الأنبياء، امتزاجاً بتغلغل داخل النفْس البشرية، فأثّر في مشاعرها وسلوكها. وتطلّعت الإنسانية واشرأبّت أعناقها، وتعلّقت آمالها إلى تلك الكوكبة من الأنبياء والمرسَلين، الذين اصطفاهم الله من بيْن خلْقه، وربّاهم تربية خاصة، يتمثل فيهم الكمالُ الإنساني بأسمى صُوَره وأنبل مُثُلِه، قال تعالى:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} (الحج:75).
وقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (آل عمران:33، 34).
وذكَر القرآن الكريم صُنْع الله المُتقَن في تكوين الأنبياء والمرسلين، وإعدادهم الدقيق ليتحمّلوا أعباء الدعوة إلى الله؛ فقال الله عن موسى عليه السلام:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه:39).
وتحدّث القرآن عن يوسف عليه السلام، فقال تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (القصص:14).
وأخبر القرآن الكريم عن إعداده لِيحيى عليه السلام وهو ما زال صبياً، فقال تعالى:{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} (مريم:12).
وتُوِّج هذا الإعداد والاصطفاء والاختيار بأشرف الخلْق وخاتم الرّسُل: محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أعدّه الله للنبوّة والرسالة قبل خلْق آدم عليه السلام؛ فعن العرباض بن سارية
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني عند الله لَخاتَمُ النّبيِّين، وإنّ آدم لَمُجَنْدَلٌ في طينَتِه))، مسند الإمام أحمد.
قال تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} (الشعراء:219). عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: "تقلّبك من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجْتُك نبياً".
قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفَسِكُمْ} (التوبة:128) -بفتح الفاء-، وقرأ جمهور القراء بالضّمّ.
وروى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {مِنْ أَنْفَسِكُمْ} ، قال:((نَسَباً، وصِهراً، وحَسَباً؛ ليس في آبائي مِن لدن آدم سِفاح. كلّها نكاح)).
وهذا الإعداد الإلهي، أشار إليه القرآن الكريم في مطلع سورة (النجم)، قال تعالى:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (النجم:1 - 5).
ولقد وصَفه الحق تبارك وتعالى بأوصاف انفرد بها صلى الله عليه وسلم عن غيره؛ فهو نور، قال تعالى:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (المائدة:15).
وهو سراج منير، قال تعالى:{وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} (الفرقان:61).
وهو خالد الذِّكر إلى يوم القيامة وما بعدها، قال تعالى:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشَّرح:4). قال قتادة: "رفَع الله تعالى ذكْره في الدنيا والآخرة؛ فليس خطيب، ولا مُتشهِّد، ولا صاحب صلاة، إلاّ يقول: "أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله".
وروى أبو سعيد الخُدْري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أتاني جبريل عليه السلام فقال: إنّ ربّي وربّك يقول: تدري كيف رفعتُ ذكْرَك؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم. قال: إذا ذُكرتُ، ذُكرْتَ معي)).
هذا الاجتباء والاصطفاء والاختيار والإعداد لرسول الله صلى الله عليه وسلم شَمل فضلُه وشرفُه هذه الأمّة.
قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران:110).
فازدادت مكانة الأمّة وعلا شأنها بين العالمين بِشرف اتّباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والتزامهم بشرْعه، وحمْلهم لدعْوته، قال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 156، 157).
وعن فضْل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضْل أمّته، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143).
فهذه الأمّة نبْت طيِّب مبارك، غُرستْ جذورها، وتسامتْ فروعها، وامتدّ خيْرها، وعمّ نفعُها العالمين، مِن خلال القرآن الكريم وسُنّة الرسول صلى الله عليه وسلم. فهي تتحمّل على عاتقها وحْدها دون سواها من الأمم، حفْظ وتبليغ وحْي السماء، ورسالات الأنبياء، وسلوك الأتقياء، ومطالَبَةٌ شرْعاً، وواجبٌ عليها: أن تَحمل أمانة الماضي والحاضر والمستقبل؛ فسعادة البشرية في الدنيا والآخرة مرتبطة بهذه الأمّة، ومرتبطة بدعْوتها إلى الله، قال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104).
فأمّة الدّعوة إلى الله مطالبةٌ وجوباً وشرعاً: أن تصحّح عقائد البشرية، وأن توجّهها إلى الصراط المستقيم والسلوك القويم، وأن تُقيم موازين الحقّ والعدل والأمْن في العالم، قال تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:151، 153).
هذه الوصايا هي الأسس العقائدية والسلوكية التي جاء بها الأنبياء والمرسلون، وتُمثِّل وحدة التربية العقائدية والعقلية، والتزكية القلبية، والطهارة النفسية للبشرية، والتي قامت عليها الدّعوة إلى الله والتزكية عبر مسيرة الإنسانية، حتى وصلت إلى خاتَم الرسل صلى الله عليه وسلم. وتحمّل المسلمون شرَف تبليغها، والجهاد من أجلها، حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} (الزُّخرُف:44).
ولقد ذكَر القرآن الكريم أنّ عُلوّ مكانة المسلمين، وارتفاع شأنهم وذِكْرهم بين العالمين، لن يكون إلا بهذا الدِّين؛ قال تعالى:{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأنبياء:10).
ولن يتسنّى تحقيقُ هذا الواجب الشرعيّ على المسلمين إلاّ بوجود دُعاة إلى الله ذوي مواهب خاصّة، وملَكات معيّنة، وقدرات متميّزة، لأنهم يدْعون إلى وحي السماء ورسالات الأنبياء.
إنهم دُعاة إلى الله، فهم يتحرّرون من التّبعيّة لأيّ عقيدة وفكْر غير الإسلام، ولا يخضعون لرأي يُخالف ثوابتهم الدِّينية أصولَهم العقائدية. إنهم يحملون في صدورهم خير الأعمال منزلةً وأشرفها مكانةً، قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فُصِّلَت:33).
ويجب أن يعرف الدّعاة أن الدّعوة إلى الله هي تاجٌ على رؤوسهم، وشرَف يزيّن جباهَهم، لأنهم يضمّون بين حنايا قلوبهم وطوايا نفوسهم أشرفّ عمل لأعظم رسالة، وأسمى هدف لأكرم غاية، توجب على الناس السماعَ إليهم وإجابة دعوتهم، قال تعالى:{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الأحقاف:31، 32).
وعلى الأمّة أن تنتقي مِن بين أبنائها صفْوة العقول وخلاصَة النابهين، وأن تُعِدّهم إعداداً عقائدياً وفكرياً وسلوكياً للقيام بأعباء الدّعوة إلى الله.
هذا هو الواجب المأمول وما ينبغي أن يكون.
غير أنّ واقع الدّعاة في جميع بلاد المسلمين يُرثى له ويؤسَف عليه؛ فالدعوة إلى الله وما يتعلّق بشوؤنها تأتي في مؤخّرة الاهتمامات، وأقسام الدّعوة في الكلّيّات تكاد تغلق أبوابها من قلّة الراغبين فيها، ولا يلتحق بها إلاّ أصحاب المجامع المتدنِّية والقُدرات المتواضعة. وقد يبرز من بين هؤلاء من وهَبَهم الله ملَكات الدّعوة ومقوّماتها، ولكنّ عدَدهم في كلّ دفعة لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ليتحقّق بهم قول الله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحِجر:9).
وسوف نبيِّن في المباحث التالية صفات الداعي، وما يجب أن يتحلّى به خُلُقياً وفكرياً وعملياً.