الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استقوْا من الماء مرّوا على مَن فَوقَهم، فقالوا: لو أنّا خَرقْنا في نَصيبنا خَرْقاً ولم نُؤذِ مَن فوقَنا. فإن يَتْركوهم وما أرادوا، هلكوا جَميعاً. وإن أخذوا على أيديهم، نَجَوْا، ونَجَوْا جَميعاً))، رواه البخاري.
ممّا سبق، يتَّضح عِظم أمْر الدّعوة إلى الله، وشَرف القيام بتَبليغ الإسلام ونَشْره، وأنّ هذا فَرْض عَيْن على العُلماء والأمراء، وأنه فَرْض كِفاية على مَجموع الأفراد، يقومون به وفْق قُدرات كلّ فَرد وإمكاناته، وحَسب مسؤولياته تجاه أهله، كما قال تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (طه:132)، أو نحو العَشيرة والقَوم، قال تعالى:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء:214)، أو تجاه جيرانه وأصدقائه، تَمسّكاً وتَنفيذاً للأسُس التي وضعها القرآن الكريم، بقوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125).
2 -
علاقة علْم الدّعوة بالعلوم الأخرى
ملَكة البيان ووسائلها
أولاً: التمهيد للمحاضرة:
لقد خَلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وأنعم عليه بنِعمة البيان، وهي مِن أجلِّ النِّعم التي أنعم الله بها على الإنسان، قال تعالى:{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن:1 - 4).
فملَكَةُ البَيان تَحْصُلُ للإنسان بوسائل عِدّة، منها:
أولاً: القِراءة والاطّلاع على سائر العلوم والمعارف. ولأهمية القِراءة في تَكوين عَقل وفِكر الإنسان، كان أوّلُ ما نَزل على الرسول صلى الله عليه وسلم: قولُ الله تعالى: {اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذي عَلَّمَ بالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:1 - 5).
ثانياً: الكِتابة، وهي التي يُعبّر بها الإنسان عمّا يَجيش في فؤاده، وبما يَجول في قَلبه ووجْدانه، وبالكِتابة يتمّ التَّفاهم بين بني الإنسان، والتعارف بين الأمم والأوطان. وهي أداة لنقْل العُلوم والمَعارف، لذلك أقسم الله تبارك وتعالى بالحَرف الذي يُعبَّر به عن الفِكر، وبالقَلم الذي يُدوَّن به، وبالمادة العِلمية التي تُصاغ، قال تعالى:{نْ * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم:1)، وقال تعالى:{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:4، 5).
ثالثاً: النَّظر والتأمّل في الأنفس والآفاق، قال تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الذاريات:21)، وقال تعالى:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} (يونس:101).
وكذلك التّأمّل والتّفكّر في تكوين الخَلْق، وتَطوّر حياة الإنسان، قال تعالى:{فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (الطارق:5، 6).
رابعاً: الحِكمة، وهي: الإصابة في القَول والعَمل، ويَختص الله بها مَن يَشاء من عِباده، بخِلاف العِلْم، فهو مُتاح للإنسانية كلّها، ويَنتج عَنه الخَير والشَّر. أمّا الحِكمة فلَن يأتي منها إلاّ الخَير فقط. قال تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُولُو الأَلْبَابِ} (البقرة:269).
خامساً: التّقوى، وهي مِن أهمّ مفاتيح تحصيل العلوم والمعارف النافعة والمفيدة، قال تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (البقرة:282).
هذه الوسائل وغَيرها: أدوات لتحصيل العُلوم والمَعارف، التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالتَّزود منها، قال تعالى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه:114).
وإنّ معيار نجاح الدّعاة إلى الله يتوقّف على مِقدار ما يُحصِّلونه من عُلوم وما يَتزوّدون به من مَعارف، تُربِّي عُقولهم، وتَسمو بأفكارِهم، وتُوقِظ في قُلوبِهم ينابيع الخَير. ولن يَتسنَّى لهم ذلك إلاّ بَكثرة الاطّلاع، واتّساع الثقافة، اللّذَيْن يُؤدِّيان إلى دِقّة الفَهْم، وعُمق الفِكر؛ وهذا يَتحقّق حينما يكون الدّاعي مُلماً بأطراف العُلوم النَّظريّة والتَّطبيقيّة، وكذلك سائر المَعارف الإنسانية وفْقَ كلّ عَصر وبيئة.
ولذا قيل: إن عِلْم الدَّعوة يَبدأ من حَيث تَنتهي كلّ التَّخصصات؛ فالإنسان إذا أراد أن يَنخَرط في سِلك الدُّعاة إلى الله، فلْيَتَنقّل في رياض العُلوم والمَعارف، مَثَلُه كمَثَل النَّحلة تَنتَقل من غُصْن إلى غُصْنٍ، وتَتحوّل من زَهرة إلى زَهرة، تَرتشف الرَّحيق، وتَمْتَص العَبير، لِتُخْرِجَ عسلاً مُصفىً فيه شِفاء للناس.
وكذلك الدّاعي إلى الله يَتريّض بين العُلوم المُختلفة، يَسبر أغوارها، ويَقِف على موضوعاتها، ويَتعرّف على فوائدها، فتَتّسع مَدارِكُه، وتَكثُر معارفه، ويكون لديه الدواء الناجِع والبَلسم الشافي لأمراض المُجتمع وعِلَلِه.
لذا، فعلْم الدّعوة مُرتَبط بالعُلوم الأخرى ارتباطاً وثيقاً، كارتباط الرأس بالجَسد. فالعلوم المُختلفة والمَعارف المُتنوِّعة، هي روافِد للتَّعريف بالإسلام، وشَرْح أحكامه، ودَعوة الناس إليه؛ فهي وَسيلة لأسمى غَاية، وأشرف عَمل، قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فُصِّلَت:33).
والدّاعي إلى دين الله، والآمر بالمَعروف والناهي عن المُنكر، لا بدَّ وأن يَكون عالِماً عِلْماً يَقينياً بما يَدعو إليه، أو يأمر به من مَعروفٍ، أو يَنهى عَنه من مُنكر، ولا بدَّ أن يكون عالِماً بالأسلوب الذي يَستَخدمه، وبالعلوم التي تُفيده في ميادين الدّعوة، وذلك لتلافي الأمور التالية:
الأمر الأول:
الحذر من أن يَدعوَ إلى باطِل وهو يَحسبه حقاً؛ فيكون ضَررُه على الدِّين أشدّ من ضَرر الصامتِين، وخَطرُه أعظمَ من خَطر أعداء الدِّين، ولا سيما إذا اتُّخذ قُدوةً فيما يَدعو إليه من باطل في سلوكه الخاص.
الأمر الثاني:
الحَذر إذْ لم يكن عَالِماً بَصيراً وداعياً حَكيماً، أن يَتخذَ أسلوباً مُنَفِّراً؛ وهذا ضَرره أكثر من نَفعه.
الأمر الثالث:
إن لم يَكن عَالِماً، فسوف يَستدلُّ على ما يَدعو إليه أو يَنصح به، بأدلّةٍ باطلةٍ، فيَحْصُلُ من دَعوته ضَررٌ أكثر من النَّفع، فيُسيء من حَيث يَتوقّع منه الإحسان.
الأمر الرابع:
خَشية أن يُسأل غير العالم عن مَسألة، فيُفتي فيها بغَير علْم، فيَضِلّ ويُضِلّ.
ولقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم مِن اتّخاذ رُؤوس في العلْم جُهَّال، فيكونون وبالاً على الدِّين، ونَكبة للأمة.