الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما
ثالثاً: فلأنهم منكرون أنه كلام الله، فهم فسروا على تسليم أنه تفسير كلام كاذب عندهم
.
وأما
رابعاً: فلأنه يحتمل أن سكوته أراده لإغاظتهم وتحزينهم
؛ فإنه يعلم أن بقاءه يوماً واحداً مما يسوءهم ويحزنهم فضلاً عن أعوام.
وأما
خامساً: فلأنه معلوم أن هذا ليس من لغته ولا لغة قومه
، فكأنه يقول: إذا كان عرفاً لكم أو لغة عندكم فأنتم تعلمون أنه ليس لغةً لنا ولا هو عُرفنا، وإنما هو شيء جئتم به من تلقاء أنفسكم، فلا يُنكر عليهم أن يتعارفوا بينهم بأي لفظ (1) .
فإن قلت: ومن أين علمنا أنه ليس من لغته ولا لغة قومه؟!
قلت: عرفناه بأنه لم يأت حرف واحد عن صحابي ولا تابعي بهذا، مع أنه قد نقل إلينا تفاسيرهم لكلام الله، بل هذا معلوم يقيناً أنه ليس من لغة العرب فقد دونها أئمة اللغة وبذلوا فيها وسعهم وتتبعوها في البوادي وغيرها، ولا تجد كتاباً لغويّاً فيه شيء من هذا، وأن الحرف مُسَمَّاهُ كذا من العدد هذا أمر مقطوع بعدم وقوعه لغةً فتعين أنه أمر اصطلاحي لا حجر فيه ولا ضير على متعاطيه، ونهي ابن عباس عنه، وأنه من السحر يدلُّ أنه عَرَفَ أنه
(1) ظفرت نحوه من كلام ابن عاشور في «التحرير والتنوير» (1/194-195)، قال:«وليس في جواب رسول الله إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقرير لاعتبارها رموزاً لأعداد مدة هذه الأمة، وإنما أراد إبطال ما فهموه بإبطال أن يكون مفيداً لزعمهم على نحو الطريقة المسماة بالنقض في الجدل، ومرجعها إلى المنع والمانع لا مذهب له، وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم فهو تعجيب من جهلهم» .
وتعقبه الدكتور محمد بدري عبد الجليل في كتابه «براعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور» (ص 135)، فقال:«وهو تحميل للكلام ما لا يحتمل، فما لهذا كان إيرادهم، ولا هكذا كان فهمهم، ولا عن هذا كان حديثهم، وإنما هو يخلع على النص ما ليس له، ولم يستنبط منه ما به» .
قلت: تذكر أن القصة لم تثبت، وهذه توجيهات على فرض صحتها!
اصطلاحٌ لليهود يستعملونه في الأسحار» انتهى.
وقال العلامة السلفي ابن كثير في «تفسيره» (1/257 - ط. أولاد الشيخ) بصدد تفسيره للحروف المقطعة: «وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد (1) ، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادّعى ما ليس له، وطار في غير مطاره، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف
…
» وأورد ما سقناه (قصة أبي ياسر بن أخطب) .
وكلام ابن كثير -رحمه الله تعالى- فَصْلٌ في هذه المسألة، والدلالة المزعومة في القصة ليست دلالة عربية، وإنْ دافعَ البيضاوي عنها حين قرر:«فإن تلاوته إياها بهذا الترتيب عليهم وتقريرهم على استنباطهم دليل على ذلك وهذه الدلالة، وإن لم تكن عربية، لكنها لاشتهارها فيما بين الناس حتى العرب تلحقها بالمعربات؛ كالمشكاة والسجيل والقرطاس» (2) فإنه ينال من قوله ما سبق الحديث عنه من عربية القرآن مع ضميمة أن الجهة منفكة؛ إذ إن لهذا دلالة لغوية، ولما نحن فيه دلالة رياضية قد تمت للفلك بصلة لا للغة، وحساب الجمل وطرائقه قوام السحر وطلاسمه، ومن ثم قرر ابن حجر، وهذا باطل لا يُعتمَدُ عليه، فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه الزجر عن عد أبي جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد؛ فإنه لا أصل له في الشريعة» (3) .
وفيم هذه الرواية؟ هل يحدث هذا بين رسول الإسلام، والحوار إنما هو رجم بالغيب إذ يكشف عن الرغبة في معرفة مدة بقاء هذه الأمة، تعييناً لموعد
(1) هذا قول منسوب لبعض المفسرين!! راجع -مثلاً-: «مفاتيح الغيب» (1/153) ، «البحر المحيط» (1/34) .
(2)
«تفسير البيضاوي» (1/15) .
(3)
«الإتقان في علوم القرآن» (2/11) .
الساعة، وفرق بين أن نطلب التعرف على وقتها والوقوف على حينها، وبين أن نتلمس صفاتها وأحوالها كما صرح بذلك ابن تيمية (1) .
ولم هذا السؤال؟ إن الغاية التي يبحثون عنها أو يراد الوصول إليها مساومة عجيبة، هي تحديد موقفهم من الإسلام بناءً على هذا اللون من التأويل، ومن ثم قال الشوكاني:«فانظر ما بلغت إليه أفهامهم من هذا الأمر المختص بهم من عدد الحروف، مع كونه ليس من لغة العرب في شيء، وتأمل أي موضع أحق بالبيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الموضع، فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما فهموه عند سماع {ألم. ذلك الكتاب} من ذلك العدد موجباً للتثبيط عن الإجابة له، والدخول في شريعته، فلو كان لذلك معنىً يُعقَلُ ومدلولٌ يفهم؛ لدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ظنوه بادئ بدء، حتى لا يتأثر عنه ما جاءوا به من التشكيك على من معهم» (2) .
ومثل هذا تماماً -ولا يختلف عنه ألبتة- الاستدلال بعدد الحروف في النصوص على أمور غيبية؛ كخرافة الاستدلال ببعض الآيات (3) على ما جرى في (أمريكا) من أحداث 11/9/سنة 2001م، الذي كان له أثر ظاهر في مجرى الأحداث فيما بعد، ولا سيما على (أفغانستان) و (العراق) .
وهذه كذبة لها قرون -كما يقولون-، فالتوقيت الميلادي لا اعتبار له في
(1)«الإكليل في المتشابه والتأويل» (ص 16) .
(2)
«فتح القدير» (1/20) .
(3)
هي آية رقم (109) من سورة التوبة، فزعم الخراصون -لا رحم الله فيهم مغرز إبرة- أن الآية من السورة -وهي في الجزء/الحادي عشر من القرآن الكريم، ورقم السورة (9) -، قالوا: اليوم الذي وقعت فيه بعدد الجزء الذي فيه السورة، ورقم السورة هو رقم الشهر الذي وقعت فيه الحادثة، وعدد الأحرف بزعمهم من بداية السورة إلى قوله:{فانهار به} (2001) حرفاً، وهو السنة الذي وقعت فيه الحداثة، واسم الشارع بزعمهم (جورف هار)، وأشار إليه بقوله:{على شفا جرف هار} ، ورقم الآية بعدد طوابق المبنى الذي انهار وهو (109) طوابق!!
شرعنا، والعد المزعوم كذب، فعدد الحروف ليس هو المزعوم في النظرية، ولا أدري لمصلحة من تروج هذه المعلومات الخاطئة؟! والعجب من جرأة بعضهم لما يؤيد مثل هذا اللون من الخرافة، ويطعن في كتب التفسير:«إن كتب التفسير كتب تقليدية، ولا تفي بمتطلبات العصر» (1) !! ولماذا هذه الطلاسم والألغاز والأسرار، وهل فهمها على هذا النحو أحد من أهل العلم والديانة ممن هم قبلنا؟! أفلا يسعنا ما وسعهم، لنصل إلى ما وصلوا إليه، وليجتمع لنا خيرا الدنيا والآخرة؟!
فالمنهج القرآني (2) مع الأحداث لا يهتم بمثل هذا ولا بما هو فوقه من تعيين الأماكن والبلدان، وتسمية الأشخاص وبيان ألوانهم وأنسابهم، وإنما هذا من شغل أصحاب الأكاذيب والأراجيف، ومن في قلوبهم شك، أو في عقولهم خلل، أو لهم مآرب مشبوهة (3) ، فتركوا ما هو يقين، وأخذوا يبحثون بظن وتخمين، بطريقة غير مسلوكة ولا معروفة، لا عند الصحابة ولا التابعين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
وعجبي لا ينتهي من هؤلاء؛ إذ أنهم يتلاعبون بعقول الناس، فمثلاً صاحب كتاب «عجيبة تسعة عشر» (4) حسب حسابات معينة، فضرب تارة، وقسم أخرى، وجمع ثالثة، وخرج بأن دولة يهود ستزول سنة (2022م) !! ولو فعل غيره فعلته، وأبدل هذه العمليات، لخرجت معه نتائج أخرى، وهكذا الظنون والتخرصات، فإنها لا أصل لها ولا قواعد، وهذا الذي نعيبه على من
(1) «إعجاز النظام القرآني (ص 14) للواء أحمد عبد الوهاب.
(2)
من الأمور المهمة التي ينبغي التنبيه عليها، أن الإعجاز العددي قد أغفل القراءات القرآنية، فضلاً عن عدم وجود قواعد مطردة لعدِّهم، ويكفي هذا لنسف ما هم عليه.
(3)
كالبهائيين وغيرهم من الباطنيين.
(4)
وهو بسام جرار. وانظر مناقشته في: «الإعجاز العددي بين الحقيقة والوهم» (ص 56-62) .
سلك هذا المسلك (1) .
ورحم الله ابن العربي المالكي، لما قال في «فوائد رحلته» (2) :
«ومن الباطل (3) : علم الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد تحصل
(1) يعاب عليهم تضخيم هذا المسلك، ومعرفة الغيب من خلاله، وأما وقوع (فلتات) و (لطائف) و (ملح) فهذا شيء يذكر، وهو قليل، ومثاله: تعليق ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/83) عند كلامه على (البسملة) على حديث رفاعة بن مالك الزرقي الذي أخرجه البخاري (126) وغيره، قال: كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة، قال: سمع الله لمن حمده. قال رجل وراءه: ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما انصرف، قال: من المتكلم؟ قال رجل: أنا. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها، أيُّهم يكتبها أولاً» . قال ابن عطية: فإنها بضعة وثلاثون حرفاً» ، قال:«وهذا من مُلَح التفسير، وليست من متين العلم» .
و (المُلَح) -على حد قول الشاطبي في «الموافقات» (1/121 - بتحقيقي) -: «هي التي تستحسنها العقول، وتستملحها النفوس، إذ ليس يصحبها منفّر، ولا هي مما تعادي العلوم» ، ثم قال:«ومن المعلوم ما ليس من صلبه ولا من مُلَحه» ، وقال مفسراً له (1/121-122) : «كمثل ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره، وأن المقصود وراء هذا الظاهر، ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر
…
واستنادهم في جملة من دعاويهم إلى علم الحروف وعلم النجوم، ولقد اتسع الخرق في الأزمنة المتأخرة على الراقع، فكثُرت الدعاوى على الشريعة بأمثال ما ادعاه الباطنية، حتى آل ذلك إلى ما لا يُعقل على حال، فضلاً عن غير ذلك» . وانظر:«قواعد المقَّري» (2/406) .
قلت: فإن هذا ليس من الصميم، ولا من المُلَح، ويشمل هذا القسم ما ينتحله المؤلفون في (الفتن وأشراط الساعة) ، والهجوم على علم الغيب، دون تثبّت، وستأتيك أمثلة، ومزيد بيان وتأكيد، والله وليّ التوفيق والتسديد.
(2)
فيما نقله عنه السيوطي في «الإتقان» (3/30) ، و «معترك الأقران» (1/156) ، ثم ظفرت بعبارته في كتابه «قانون التأويل» (ص 208)، وفيه: «ومن الباطن
…
» وهو الصواب، وترتب على هذا التحريف نتائج غير مرضية، انظر أثراً منها في «الإعجاز البياني للقرآن» (136) لعائشة عبد الرحمن.
(3)
صوابه: «الباطن» . انظر: الهامش السابق.
لي فيها عشرون قولاً وأزيد، ولا أعرف أحداً يحكم عليها بعلم، ولا يصل منها إلى فهم» .
وأخيراً
…
والخلاصة: إن كلَّ معنىً مستنبطٍ من أحاديث الفتن غيرُ جارٍ على اللسان العربي، فليس من علوم الشريعة في شيء، لا مما يستفاد منه، ولا مما يستفاد به، ومن ادّعى فيه ذلك، فهو في دعواه مبطل.
ويراعى في المؤول به وصف آخر؛ وهو:
2-
أن يرجع إلى معنىً صحيحٍ في الاعتبار، ويكونُ اللفظُ المؤولُ به قابلاً له؛ وذلك أن الاحتمالَ المؤولَ به يقبله اللفظ بحسب اللغة، ويجري على المقاصد العربية، أو يكون له شاهدٌ نصّاً أو ظاهراً في محلٍّ آخرَ يشهدُ لصحته من غير معارض.
ذلك؛ إنه إن لم يكن كذلك صار جملة من (الدعاوى) التي تُدَّعى على الشريعة، والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء، وبهذا يتبيّن بطلان ما عليه أهل الباطن، من الاستدلالات غير المعتبرة، التي لم تَجْرِ على مقتضى العلم، وجلُّ كلامهم (2) مما يتخلف فيه شرط قبول اللفظ المؤول له.
(1)«إعجاز القرآن» (ص 347) .
(2)
تجد أمثلة منها في (التفسير) و (التوحيد) وغيرها في: «قواعد عقائد آل محمد» (ص 47) لمحمد بن الحسن الديلمي، و «متشابه القرآن» لزرزور، و «من بلاغة القرآن» لمحمد خضر =
ويتفرّع على هذا مما له صلة بموضوع كتابنا، ما يذكره غير المنضبطين بقواعد العلماء في الاستدلال والاستنباط من تحريف للأسماء الواردة في الأخبار -وجلها واهية غير ثابتة- بإسقاطات على شخصيات معاصرة (1) ، فلا هم على الصحيح اقتصروا، ولا قواعد العلماء اعتمدوا، وإنما قرأوا الأخبار بعقلية فيها قناعاتٌ سابقةٌ، وعملوا على تنزيلٍ الأحاديثِ على أحداثٍ مُتَخيَّلَة متصورة، وتمحوروا حولها، وبحثوا عن استدلالات لها، على أي وجه كان، ومن أي مصدر، وأظهروا ذلك بلبوس أحاديث الملاحم والفتن، فلو بقيت على تنبآت أصحابها من غير أهل الديانة، لكان لها شأن آخر، ومعالجة بطريقة أخرى، ولكن إلى الله المشتكى، ويا مقلب القلوب والعقول ثبِّتْ قلوبَنا وعقولنا على دينك.
خامساً: ومن زلات قراءة أحاديث الفتن لإسقاطها على الواقع أمور خطيرة تؤثر بقوة على حجية المصادر التي ينبغي أن تؤخذ منها، وأن يوضع كلٌّ في محله ودرجته من حيث قوةُ الاحتجاج، فالذي نلاحظه بقوة في الآونة الأخيرة (2) الاعتماد الكلي، والأخذ التسليمي بما في كتب أهل الكتاب، وإشغال الناس بذلك، وكأنه أمر قطعي! وله عندهم من ظاهر صنيعهم قوة ما في القرآن الكريم وصحيح السنة! بل أصبحت الأخبار المأخوذة من هذه الكتب هي السائدة في المجالس العامة، وتتناقلها الألسنة، وأصبحت
= حسين، و «التفسير والمفسرون» (2/235 وما بعد) لمحمد حسين الذهبي، وأورد ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (5/550-551 و13/236-238، و359 وما بعدها) مجموعة منها ونقضها، وكذلك فعل قبله ابن حزم في «الإحكام» (3/40) ، وابن قتيبة في «اختلاف الحديث» (1/217-218) ، وهكذا صنع بعده الشاطبي في «الاعتصام» (1/322) و «الموافقات» (4/233 وما بعد) .
(1)
كما فعل صاحب كتاب «هرمجدون» !! وستأتيك نقولات عنه.
(2)
خصوصاً لمّا نشر كتاب «هرمجدون» ، وهو مليء بالخرافات، والتجاوزات العلمية، والحقائق المغلوطة، والجرأة على التكهن بالغيب، من غير عدة، ولا بحث، بل عرضت مادته بأسلوب صحفي أو قصصي أو إخباري للتشويق، والله المستعان على بواطيل أهل الزمان.
الأحاديث الصحيحة في بابتها مهجورة، ولا تكاد تسمع أحداً يذكر شيئاً منها، على الرغم ما فيها من خير وبركة، ولِمَا لذلك من أهمية وضرورة، ليس هذا موضع بسطها.
والأمر لم يقتصر في السوء على هذا الحد، بل تجاوزه إلى اعتماد ما ليس بمعتَمَدٍ، والاحتجاج بما لا زِمامَ له ولا خِطامَ، ولا سيما في وقت الفتن، فيخرج علينا فيها بين الحين والحين خبرٌ مصنوعٌ، مأخوذ من مصدر ساقط (1) ،
(1) مثل كتاب (الجفر) الذي شاع خبره في الفتنة التي حصلت من قريبٍ في بعض ديار المسلمين، وهو -على حدِّ الأكاذيب التي فيه (ص 5) -:«علم بقوانين حَرفية (نسبة إلى الحَرف) ، يصل بها إلى استنباط المجهولات من الحوادث الكونية» ، بل -زعم واضعوه- بقولهم فيه (ص 5) -أيضاً-:«يمكن أن يُفهمَ منه أحوالُ الإنسان الماضي والحال والمستقبل، وكيفيته الحادثة بهذه الطريقة» .
وهذا الكتاب منسوب للصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه تارة، وتارة إلى جعفر الصادق رحمه الله.
وهذا الكتاب من مصادر كتاب «الكافي» للكليني؛ ففي كتاب الحجة منه: (باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامع)(1/238-240)، وفيه على لسان علي رضي الله عنه:«وإن عندنا الجفر، وما يدريهم ما الجفر؟ قال: قلت: وما الجفر؟ قال: وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين، وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل» ، وفيه: «
…
ما يحدث بالليل والنهار، الأمر من بعد الأمر، والشيء بعد الشيء إلى يوم القيامة» !!
وفي هذا الكتاب من أمور الغيب والأحداث والأسرار الشيء الكثير، ويزعم الإمامية أن جعفراً الصادق رحمه الله كتب لهم كل ما يحتاجون إليه، وكل ما سيقع ويكون إلى يوم القيامة، وكان مكتوباً عنده في جلد ماعز؛ فكتبه عنه هارونُ بنُ سعيد العجلي رأس الزيدية، وسماه (الجفر) باسم الجلد الذي كتب فيه، وهذا زعم باطل مخالف لما يعتقده المسلمون من أن الغيب لا يعمله إلا الله -سبحانه-، ومن ارتضى من رسله، قال -تعالى-:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رسُولٍ} [الجن: 26-27] .
قال السيد محمد رشيد رضا في مجلة «المنار» (4/60) وفي «الفتاوى» له (4/1307 رقم 515) :
«لا يعرف له سند إلى أمير المؤمنين، وليس على النافي دليل، وإنما يطلب الدليل من =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= مدَّعي الشيء، ولا دليل لمدّعي هذا الجفر» .
قلت: المشهور أن الكتاب المزعوم منسوب إلى جعفر الصادق، ولم يصح ذلك ألبتة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (4/78-79) : «وأما الكذب والأسرار التي يدعونها عن جعفر الصادق؛ فمن أكبر الأشياء كذباً؛ حتى يقال: ما كُذِبَ على أحدٍ ما كُذِبَ على جعفر رضي الله عنه.
ومن هذه الأمور المضافة: كتاب «الجفر» الذي يدّعون أنه كتب فيه الحوادث، والجفر ولد الماعز، يزعمون أنه كتب ذلك في جلده» . ونحوه في «نقض المنطق» (66) له.
وقال في «مجموع الفتاوى» (35/138) -أيضاً-: «ونحن نعلم من أحوال أئمتنا أنه قد أضيف إلى جعفر الصادق من جنس هذه الأمور -أي: الاستدلال على الحوادث المستقبلية- ما يعلم كل عالم بحال جعفر رضي الله عنه أن ذلك كذب عليه؛ فإن الكذب عليه من أعظم الكذب» ، ثم ذكر مجموعة من الكتب كُذبت عليه منها «الجفر» ، وقال: وكل ذلك كذب عليه باتفاق أهل العلم» .
وقال -أيضاً- في «درء تعارض العقل والنقل» (5/26) : «وقد أجمع أهل المعرفة بالمنقول على أن ما يروى عن علي وعن جعفر الصادق من هذه الأمور التي يدعيها الباطنية كذب مختلق، ولهذا كانت ملاحدة الشيعة والصوفية ينسبون إلحادهم إلى علي، وهو بريء من ذلك» .
وقال -يرحمه الله- في «منهاج السنة» (2/464) عند ذكره عليّاً وجعفراً الصادق رضي الله عنهما: «الكذب على هؤلاء في الرافضة أعظم الأمور، لا سيما على جعفر بن محمد الصادق؛ فإنه ما كُذِب على أحد ما كُذب عليه، حتى نسبوا إليه كتاب «الجفر» » .
وقال في (8/10-11) منه: «ومن الناس من ينسب إليه -أي: إلى علي رضي الله عنه الكلام في الحوادث كـ «الجفر» وغيره، وآخرون ينسبون إليه «البطاقة» ، وأموراً يُعلم أن عليّاً بريء منها، وكذلك جعفر الصادق قد كُذِب عليه من الأكاذيب ما لا يعلمه إلا الله
…
» .
وقال في «بغية المرتاد» (ص 321) :
«ومن المعلوم بالتواتر علماً ضروريّاً لمن له خبرة متوسطة بأحوال الصحابة أنهم كانوا أعظم الخلق منافاة لمثل هذه التحريفات التي يسمونها «التعبير والتأويل» خاصتهم وعامتهم، وأن جميع ما ينقل عنهم مما يخالف الظاهرالمعروف؛ فهو كذب مفترى، مثل ما يزعم أهل «البطاقة» و «الجفر» ونحو ذلك مما يدعونه من العلوم الباطنة المنقولة عن علي رضي الله عنه وأهل البيت رضي الله عنهم» .
وقال ابن خلدون في «مقدمته» (ص 334) : «واعلم أن كتاب «الجفر» كان أصله أن هارون =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ابن سعيد العجلي وهو رأس الزيدية كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق، وكان مكتوباً عند جعفر في جلد ثور صغير؛ فرواه عنه هارون العجلي، وكتبه وسماه «الجفر» باسم الجلد الذي كتب فيه؛ لأن الجفر في اللغة هو الصغير، وصار هذا الاسم علماً على هذا الكتاب عندهم، وكان فيه تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق، وهذا الكتاب لم تتصل روايته ولا عرف عينه، وإنما يظهر منه شواذ من الكلمات لا يصحبها دليل، ولو صح السند إلى جعفر الصادق؛ لكان فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه» .
وقد حكم ببطلان هذه النسبة -أيضاً-: صديق حسن خان في «أبجد العلوم» (2/214-216) و «لقطة العجلان» ، فقال:
وكنت أنا وبعض إخواني من طلبة العلم ممن هم على المنهج السلفي القويم، قد حذرنا قومنا مما في هذا الكتاب عندما بدؤوا يُخرجون ما فيه، ويسقطونه على الواقع الذي يحيونه في وقت (أزمة الخليج) الأولى، و (احتلال صدام) للكويت؛ فكتبتُ لهم محذراً ورقةً هذه صورتها:
احذروا الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فحرصاً منا على أن لا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، وخوفاً من وقوع الناس في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ولحوقهم وعيد النار الثابت في الحديث المتواتر:«من كذب علي متعمداً؛ فليتبوأ مقعده من النار» ؛ فنكتب محذرين قومنا من كتاب انتشر ذكره في الآونة الأخيرة، مع تزامن الأحداث التي وقعت بأرض المسلمين، ألا وهو كتاب «الجفر» ، وقد حذر علماؤنا المزكون الأخيار من ترهات وأباطيل هذا الكتاب قديماً، وبيّنوا أنه مكذوب على جعفر الصادق رضي الله عنه.
ثم ذكرت فيه أقاويل أهل العلم السالفة، ثم قلت: فكأن هؤلاءِ العلماءَ الأعلامَ بين ظهرانينا، يحذّروننا من كذب ما يروّجه الجهلة على نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فرحمهم الله -تعالى-.
مَن الذي وضع الكتاب، ويُرَوِّج له، وما هي أوجُهُ بطلانه؟
الجفر: من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر، والمراد به هنا جلد المعز الذي كتب فيه، وهذا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الكتاب يزعم الشيعة الإمامية أن جعفراً الصادق رحمه الله كتب لهم فيه كل ما يحتاجون إليه، وكل ما سيقع ويكون إلى يوم القيامة، وكان مكتوباً عنده في جلد ماعز؛ فكتبه عنه هارون بن سعيد العجلي (رأس الزيدية) ، وسماه «الجفر» باسم الجلد الذي كتب فيه، وهذا زعم باطل؛ فإن جعفراً الصادق كجده أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لا يعلم الغيب.
ومن عقيدتنا أن الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ومن أطلعه الله عليه من أنبيائه فيما يوحي إليهم، قال -تعالى-:{فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رسُولٍ} [الجن: 26-27] ، وقد ثبت عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخصَّه بشيء من دون أصحابه، كما هو ثابت في «صحيح البخاري» (رقم 111 و1870 و3172 و3179 و6755 و6903 و6915 و7300) من طريق أبي جحيفة السوائي، قال: سألت عليّاً رضي الله عنه: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن، أو ما ليس عند الناس؟ فقال:«والذي خلق الحبة، وبرأ النسمة؛ ما عندنا إلا ما في القرآن؛ إلا فهماً يعطى رجل في كتابه، وما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما هذه الصحيفة؟ قال: «العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر» .
وقال العيني في «عمدته» (1/161) عن ابن بطال قوله: «فيه ما يقطع بدعة الشيعة والمدعين على علي رضي الله عنه أنه الوصي، وأنه المخصوص بعلم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرفه غيره، حيث قال: ما عنده إلا ما عند الناس من كتاب الله، ثم أحال على الفهم الذي الناس فيه على درجاتهم ولم يخص نفسه بشيء غير ما هو ممكن في غيره» .
على أن الكتاب -أي: كتاب «الجفر» - لا تصح نسبته إلى جعفر الصادق رحمه الله، والذين نسبوه إليه من أجهل الناس بمعرفة المنقولات والأحاديث والآثار، والتمييز بين صحيحها وضعيفها، وعمدتهم في المنقولات التواريخُ المنقطعةُ الإسناد، وكثير منها من وضع من عُرِف بالكذب والاختلاق، وغير خافٍ على طلبة العلم أن ما لا يعلم إلا من طريق النقل لا يمكن الحكم بثبوته إلا بالرواية الصحيحة السند، فإذا لم توجد؛ فلا يسوغ لنا شرعاً وعقلاً أن نقول بثبوته؛ فكيف إذا نصص العلماء المحققون على كذبه وزوره؛ مثل: ابن تيمية، ومحمد رشيد رضا، وصديق حسن خان -كما تقدم-.
إذاً
…
فمَنِ الذي يروجُ هذا الكتابَ، وينشرُ ذكره في الناس؟
إنهم مدّعو الغيب
…
الجهلة
…
الكذّابون على رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
المتقوّلون على أئمة العلم ما لم يقولوه
…
الشيعة الإمامية
…
الطرُقِيُّون
…
=
ما أنزل الله به من سلطان، كما حصل في (فتنة الخليج الأولى) فيما يخص
= شبهة ودفعها:
فإن قيل: في هذا الكتاب إخبار عن حوادثَ وقعتْ أو ربما ستقع
…
!!
قلت: لا يلزم من ذلك أن هذا حق
…
على فرض صحة ما قيل
…
فإن الكهان يأخذون عن مُسترِقِي السمع، وكانوا قبل مَبعَث النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، وأما بعد المبعث؛ فهم موجودون، ولكنهم قليل؛ لأن الله -تعالى- حرس السماء بالشهب، وأكثر ما يقع في هذه الأمة ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة بما وقع في الأرض من الأخبار؛ فيظنه الجاهل كشفاً وكرامة، وقد اغتر بذلك كثير من الناس يظنون المخبر لهم بذلك عن الجن وليّاً لله، وهو من أولياء الشيطان، ورحم الله القرطبي؛ فإنه قال في الكهان:
قلت: واغربتاه
…
واإسلاماه
…
لقد تعاطى كثير من المتمشيخين الكَهانةَ في بيوت الله
…
وروّجوا للباطل
…
واعتَدَوْا على علم الله بمشاركتهم غيره زوراً وبهتاناً بعلم الغيب
…
فاحذر أخي القارئ على عقيدتك، فإن المقرر عند العلماء أن ادّعاء علم الغيب -بجميع أضرابه وأقسامه- كفر وشرك.
قال علي القاري في «شرح الفقه الأكبر» (124) في مبحث الكهانة (وهؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال الخارجة عن الكتاب والسنة أنواع) وذكر منهم نوعاً، فقال:
فاحذروا عباد الله من هذا الكتاب، وما فيه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.