الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شيء، وليسوا على شيء» .
فالفتن التي ستظهر آخر الزمان تُذهب عقولَ طائفة كبيرة من الرجال (1) ، وتصبح هذه العقول معوجَّة (2) ، لا اتّزان فيها، ولا عدل ولا إنصاف، تقتحم المهالك، وتخوض في الفتنة بالفتنة، دون علم ولا حلم، ورحم الله الحسن البصري القائل:
«إنّ الفتنة إذا أقبلت عرفها العالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل» (3) .
فـ «الفتنة لا تجيء تهدي الناس، ولكن تجيء تقارع المؤمن عن دينه» هكذا قال مطرف بن عبد الله بن الشخير، فيما أسند عنه أبو نعيم في «الحلية» (2/204) وغيره.
فغفل هؤلاء العابثون في أحاديث الفتن، الخائضون فيها للرُّكب عن هذه الحقيقة؛ فظنوا أنها جاءت لهدايتهم! وغفلوا عن أنها قرعت عقولهم، وأذهبتها وأضعفت دينهم وأوهنته، ولا قوه إلا بالله العلي العظيم!
فصل
في تحليل هذه الظاهرة وتأريخها
في أجواء الحوادث الجسام، والفتن العاصفات، تتحفّز القوى النفسيّة
(1) أخرج نعيم بن حمّاد في «الفتن» (رقم 107) عن حذيفة -رفعه-: «تكون فتنة تعرج فيها عقول الرجال، حتى ما تكاد ترى رجلاً عاقلاً» ، وقال المتقي الهندي في «كنز العمال» (11/179 رقم 31126) :«وهو صحيح» .
قلتُ: ليس كذلك؛ فيه ليث بن أبي سليم -متروك-، وقال فيه: «حدثني الثقة عن زيد بن وهب، عن حذيفة
…
» رفعه؛ ففيه جهالة، وأخشى أنْ تكون «تعرج» ، محرّفة عن «تعوّج» . وانظر الأثر الآتي.
(2)
أخرج ابن أبي شيبة (15/51) ، ونعيم بن حماد في «الفتن» (رقم 80) ، والديلمي
…
-كما في «الكنز» (11/181 رقم 31134) - بالسند السابق إلى حذيفة: «تكون فتنة، ثم تكون جماعة، ثم فتنة، ثم تكون جماعة، ثم فتنة تعوجُّ فيها عقول الرجال» .
(3)
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (9/24) .
لاسْتِكْناه الغيب، والوقوف على ما سيجري.
وفي السنة النبوية أحاديث صحيحة كثيرة عن الفتن، وفيها الكثير الكثير من الدّخيل، بل هذا النوع من الأحاديث (أحاديث الملاحم والفتن) كان سبباً لوضع الوضّاعين! لاشتراك الفتن مع الأسباب التي نشأ عنها الوضع؛ مثل: العصبية للفرق المبتدعه، وبعض البلدان أو الأشخاص، من حيث نصرة الآراء والدعاوى، أو الثلب في المناوئ، والرأي المخالف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في «منهاج السنة النبوية» (1/306-308) :
«
…
وكان المسلمون على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق، الموافق لصحيح المنقول، وصريح المعقول، فلما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، ووقعت الفتنة، فاقتتل المسلمون بصفين، مرقت المارقة التى قال فيها النبى صلى الله عليه وسلم:«تمرق مارقة على حين فُرْقة من المسلمين، يقتلهم أولى الطائفتين بالحق» (1) .
وكان مروقها لما حكّم الحكمان، وافترق الناس على غير اتفاق.
وحدثت -أيضاً- بدعة التشيع كالغلاة المدعين لإلهية عليٍّ، والمدعين النص على عليٍّ رضي الله عنه، السابِّين لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما
…
) .
ثم يقول رحمه الله: «فهاتان البدعتان؛ بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في ذلك الوقت لما وقعت الفتنة.
ثم إنه في أواخر عصر الصحابة حدثت بدعة القدرية والمرجئة؛ فأنكر ذلك الصحابة والتابعون، كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وجابر بن
(1) سبق تخريجه.
عبد الله، وواثلة بن الأسقع
…
» .
لقد تمخضت الفتنة عن شيعة ينتصرون لعليٍّ رضي الله عنه، وعثمانية ينتصرون لعثمان رضي الله عنه، وخوارج يعادون الشيعة وغيرهم، ومروانية ينتصرون لمعاوية وبني أمية.
فلما لم تسعفهم نصوص القرآن الكريم والحديث دائماً، استباح بعضهم انتحال الكذب، ولجؤوا إلى الوضع في الحديث الذي تأخر جمعه عن القرآن الكريم، حيث ما دون منه حتى نهاية الخلافة الراشدة كان أقل بكثير مما لم يدون، فكانت هذه ثغرة نفذ منها أهل الأهواء، وأولهم الشيعة إلى تحقيق أغراضهم، وكان أول باب طرقه الواضعون هو فضائل الأشخاص، ومثالبهم، ثم أوسعوا بعد ذلك في شتى المعاني» (1) .
والحديث في الوضع والوضّاعين كثير، ومثله الكلام على القصص والقصّاصين، وأُفردت لذلك مصنفات، والذي يهُمّني منها -هنا- في تحليل ظاهرة انتشار الكلام على (الملاحم) و (الفتن) التي برزت أخيراً.
ومن الطرق التي ذكرها ابن حبان في مقدمة كتابه «المجروحين» (1/72) عن واحد منهم؛ ممن يختلق ويكذب، وعنده مستند في ذلك، قال:
«دخلت باجروان -مدينة بين الرقة وحران-، فحضرت مسجد الجامع، فلما فرغنا من الصلاة قام بين أيدينا شاب، فقال: حدثنا أبو خليفة، حدثنا الوليد، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قضى لمسلم حاجة فعل الله به كذا
…
» وذكر كلاماً طويلاً، فلما فرغ من كلامه، دَعَوْتُه، فقلت: من أين أنت؟ قال: من أهل بردعة. قلت: دخلت البصرة؟ فقال: لا. قلت (1) : رأيت أبا خليفة؟ قال: لا. قلت: فكيف تروي عنه وأنت لم تره؟ فقال: إنّ المناقشة معنا من قلة المروءة، أنا أحفظ هذا الإسناد الواحد، فكلما سمعت حديثاً ضممته إلى هذا الإسناد فرويته، فقمت وتركته» (2) .
وأخبار القُصّاص التي ذكرها علماؤنا (3) تعكس مدى تجرئهم على الله ورسوله، ووقوعهم في الكذب والتخرص، ولم يكتف هؤلاء القصاص بالقيام عقب الصلوات، وإراقة ماء الوجه والاسترزاق بالكذب حتى طرقوا باب التأليف وصناعة الكتابة في تنفيق كذبهم ونشر أباطيلهم؛ فقد ذكر ابن الجوزي أنّ قَصّاصاً معاصراً (4) له صنف كتاباً في تلك الترّهات، وذكر من كذبه: أن الحسن والحسين دخلا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو مشغول، فلما فرغ من شغله، رفع رأسه، فرآهما، فقام فقبلهما، ووهب لكل واحد منهما ألفاً، وقال: اجعلاني في حل، فما عرفت دخولكما، فرجعا وشكرا بين يدي أبيهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال عليٌّ: سمعت
(1) في الأصل: «قال» !
(2)
وذكره ابن الجوزي في مقدمة «الموضوعات» (1/74) مختصراً، والسيوطي في «تحذير الخواص» (ص202) .
(3)
صنّفوا في ذلك مؤلفات؛ منهم: ابن الجوزي في: «القُصّاص والمُذكّرين» ، والسيوطي في:«تحذير الخواص» ، والعراقي في:«الباعث على الخلاص من حوادث القُصّاص» ، ولابن تيمية:«أحاديث القصاص» ، وجميعها مطبوعة.
(4)
سمّاه في كتابه «القصاص والمذكرين» (ص 417) : صهر العبادي.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عمر بن الخطاب نور في الإسلام، وسراج لأهل الجنة» ، فرجعا فحدّثاه، فدعا بدواة وقرطاس وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، حدثني سيدا شباب أهل الجنة، عن أبيهما المرتضى، عن جدهما المصطفى أنه قال:«عمر نور في الإسلام في الدنيا، وسراج أهل الجنة» ، وأوصى أنْ تجعل في كفنه على صدره، فوضع، فلما أصبحوا وجدوه على قبره، وفيه: صدق الحسن والحسين، وصدق أبوهما، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:«عمر نور الإسلام، وسراج لأهل الجنة» (1) .
ومن العجب أنْ تبلغ الوقاحة بمثل هؤلاء القصاص حتى يسودوا الصحائف بمثل هذا الكذب البارد، الذي يشير كل حرف منه على منزلة مؤلفه، وأعجب منه أنْ يتجرأ هذا الكاذب فيعرض كتابه على كبار فقهاء عصره ليكتبوا عليه تصويب ذلك المصنف، وصدق ابن الجوزي إذ يقول:«فلا هو عرف أن مثل هذا محال، ولا هم عرفوا، وهذا جهل متوفر عُلِم به أنه من أجهل الجهَّال الذين ما شمُّوا ريح النقل، ولعله قد سمعه من بعض الطُّرقيين» (2) .
هذه بعض بصمات القُصّاص التي يظهر فيها الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوضع في الحديث، وقد تركت أثراً سيئاً على المجتمع مما استنفذ جهد السلف في كشفها وبيان عوارها، كما حصل -تماماً- في هذا الزمان مع هذه الدراسات العابثة الغُثائية، غير الجادة، واللا مسؤولة، ورحم الله ابن الجوزي لما قال:
«معظم البلاء في وضع الحديث إنما يجري من القصّاص؛ لأنهم
(1)«الموضوعات» (1/44-45) .
(2)
يريد: أصحاب الطرق من المتواطئين على ترويج مثل هذه السموم. وانظر: «الموضوعات» (1/45) ، و «تحذير الخواص» (208) .
يريدون أحاديث ترقق وتنفق، والصحاح تقلّ في هذا» (1) .
قلتُ: هذا في زمان ابن الجوزي، والنقاد والعلماء متوافرون، وأما في زماننا، فواغوثاه! وقد امتنع شعبة بن الحجاج من تحديث القصاص، فلما سئل عن ذلك، أجاب بقوله:«يأخذون الحديث منّا شبراً فيجعلونه ذراعاً» (3) .
وقال أيوب السختياني: «ما أفسد على الناس حديثهم إلا القُصَّاص» (4) .
ومما يلحق بصنيع القَصَّاصين قديماً -إلقاءً وتصنيفاً- ما قام ويقوم به بعضهم من التنقير عن نصوص في كتب فيها تعدٍّ جريء على الغيب؛ مثل: «الجفر» (5) ، وكتب النبوءات، وما في الإسرائيليات، وإسقاطها على الواقع، دون وجود أدله صريحة صحيحة، وأمارات قوية رجيحة.
وصاحَبَ ذلك: شيوعُ المنكرات، وغربةُ الإسلام، وتحقُّقُ بعض ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي فيها ذكر الفساد الخلقي وغيره، والاضطهاد العالمي للمسلمين، والطمع في خيرات بلادهم، وتدهور حال الأمة، وتداعي الكفار عليهم؛ ففزع فريق من الناس -مع قلّة ضبط، وكثرة خبط- إلى أخبار يبحثون فيها عن حَلٍّ، وخروج من الأزمة!
(1)«الموضوعات» (1/44) ، وإذا كان هذا قديماً؛ فإنا وجدناه حديثاً في كذب بعضهم لما ادّعى أنه نقل من مخطوطات لا وجود لها، كما سبق وأن بيّناه.
(2)
«الموضوعات» (1/45) .
(3)
«القصاص والمذكرين» (308) ، «تحذير الخواص» (277) .
(4)
«الحلية» (3/11) ، «القصاص والمذكرين» (308) ، «تحذيرالخواص» (227) .
(5)
انظر ما قدمناه عنه في التعليق على (ص 611) .