الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من ملّة الإسلام، وعليه؛ فلا دور للعقل في قبول هذه التنبؤات (1) ، وإنْ وقع صِدْقُ بعض المخبرين، فهو فَلْتَةٌ، وليس بناءً على قواعد علمية مطردة، قائمة على بحث وتعليل وتحليل.
ثالثاً: كثير من هذه التنبؤات لا مستند لها من الأخبار والآثار الصحيحة
، بل هي منقولة من أخبار القَصَّاصين الأقدمين، وجاء المعاصرون، وتعاملوا معها على أساس غير علمي، سواء في الإسقاط وطريقته (2) ، فضلاً عن التثبت من صحة أصل هذه الأخبار.
ووجه الشبه -في زماننا- في هذه الظاهرة مع من قبلنا:
إنّ هذه الأحداث، تحت إلحاح سؤال العامة، وميل النفس البشرية بطبيعتها إلى معرفة المخبوء تفرز تصوّراً لمجريات ما سيحدث، ويتلمّس لهذا التصوّر صبغة القبول والإذعان وعدم ردّه أو المناقشة فيه، من خلال إلصاقه بالشرع بانضوائه تحت الأحاديث التي فيها ذكر للفتن، فيقع الكذب الصراح على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى الرغم من أنّ هذا الدس الرخيص كاد أنْ يتوقّف، إلا أنّ أسبابه لما تجدّدت عاد فظهر في هذه الآونة، وبسبب انتشار القلم -اليوم-؛ فإنّ واضعي هذا الدس مطالبون بمستند، والكتب المطبوعة موجودة في المكتبات العامة، وبإمكان أي واحد الوقوف عليها، فلم يبق متعلَّق لهؤلاء إلا المخطوطات، وهي كثيرة، موزعة في أرجاء المعمورة، والخبراء بها قلّة من الباحثين، فتسلل بعض الكذابين المعاصرين لواذاً إلى هذا الميدان، واقتحموه بهلكة، واخترعوا أسماء مخطوطات ومؤلّفين (3) ، ما لهم وجود، ونقلوا منها
(1) إلا البحث عن صحة الخبر الذي طرق سمعه؛ من خلال قواعد أهل الصنعة الحديثية.
(2)
ستأتيك -قريباً- كلمة في اعوجاجهم في الإسقاط، وسقوطهم فيه بالكذب والتحكّم من غير انضباط.
(3)
سبق ذكر أمثلة على ذلك.
أخباراً صاغوها بعبارات ركيكة، بنوا عليها تنبؤات، سرعان ما ظهر كذبها.
ثمة أمر مهم؛ وهو: أنّ الكذابين طبقات؛ من حيث زمن الوجود، ومن حيث اصطناع الخبر، وتقصّده، وراج على متأخّريهم -دون قصد منهم للكذب- كذبُ متقدِّميهم.
قال ابن الجوزي: «وفي القُصّاص من يسمع الأحاديث الموضوعة فيرويها، ولا يعلم أنها كذب، فيؤذي بها الناس، وقد صنّف جماعة لا عِلْمَ لهم بالنقل كُتباً في الوعظ والتفسير ملؤوها بالأحاديث الباطلة» (1) .
قال: «وإذا كان القُصَّاص كذلك، فكيف لا يُذَمُّون» (2) .
قال أبو عبيدة: وقام العابثون الخائضون -هذه الأيام- في أحاديث الفتن مقام القصاصين قديماً، ولا نعلم لواحد من هؤلاء مشاركات جادة في العلم، والبحث عن الأسانيد، وتخريج الأحاديث، وِفْق قواعد أهل الصنعة الحديثية، وراجت بضاعتهم عند العوام، وظنوهم علماء العصر (4) ! فاشتدت الفتنة، وخرّ
(1)«القصاص والمذكرون» (309) ، «تحذير الخواص» (277) .
(2)
«القصاص والمذكرون» (309) ، «تحذير الخواص» (277) .
(3)
«القصاص والمذكرون» (318)«تحذير الخواص» (277-278) .
(4)
حالهم كحال من ترك مجالس العلماء الذين ملأت الدنيا علومُهم، وانتشرت تصانيفُهم، وعُرف تلاميذُهم، وخلد ذكرُهم، وأقبل على أُناس ما ذُكِروا إلا بالمقت والازدراء والبهت والكذب، ولله في خلقه شؤون، وهو -سبحانه- الواقي والهادي!
بعضهم صريعاً على اليدين والفم!
ولعل منشأ اهتمام هؤلاء الخائضين بما وجدوه في بطون الكتب؛ توهمهم أنّ كل ما كُتِبَ وقَدُمَ عهده يصير مُسَلَّماً به، مقطوعاً بصحّته!
وهذا خطأ منهجي؛ فالصواب أنّ ما كتبه الناس في الزمان الماضي، هو كالذي يكتبونه الآن، والذي سوف يكتبونه في الزمن الآتي، منه الحق والباطل، والخطأ والصواب، والصدق والكذب، ومنه ما يكتب عن علم، وما يكتب عن ظنٍّ، وعن جهل!
والقاعدة المقررة: أنّ المكتوب كالمسموع، لا يوثق به إلاّ إذا جاء بسند متّصل، يحتج برواته، ويوثق بهم للعلم بعدالتهم، فما عساه يوجد في الكتب التي ينقل منها هؤلاء الخائضون، من أحاديث وأحداث، تكشف عن المكنون، وتهتك حجب الغيب؟!
فما يوجد فيها -بعد التأكد من صحة ذلك- يعرض على المعلوم من ديننا، وعلى طرق الاستدلال، وصحة الخبر؛ فما وافقه كان له حكمه بقدره، وإلا ضربنا به عرض الحائط، ولا نراه شبهة على المعروف عندنا، بل ما عندنا يكون حجة قاطعة على ما في هذه الكتب من كذب، لا قيمة له في التاريخ فيما ظهر في شبهه ومثله!
«وكيف يثق القلب بنقل مَن كثر منهم الكذب، قبل أنْ يعرف صدق الناقل، وقد تعدى شر» (1) هؤلاء الخائضين إلى غيرهم من العامة، الذين لا يضبطون ولا يتقنون!
ومن أوجه الشبه بين هؤلاء الخائضين وأولئك القصاصين -وبضاعتهم واحدة، وسوقهم رائجة، لكن لا يفلحون، وسرعان ما ينكشفون-: عدم
(1)«منهاج السنة النبوية» (2/467) .
الواقعية والمعقولية في النقل والتوقع؛ فهما يغربون في الخيال إلى حدِّ تزييف الخبر وتشويهه، وهم لا يسلمون من الغموض والاضطراب (1) في أحداث الوقائع، أو المعلومات التاريخية، وهذا يجعلهم يخلطون الغثّ بالسمين، ولا يقتصرون على مصادر المعرفة المنهجية، التي تفرض على أصحابها المحافظة على سلامة المعتقد، وصيانة الشريعة من كل إفراط أو تفريط، أو اعوجاج يخرجهم عن جادة الطريق!
وهذه نماذج قليلة، أسوقها لإخواني القراء؛ ليعلموا صنيع علمائنا مع هؤلاء، وتصنيفهم لهم، وحكمهم عليهم؛ ليلحقوا النظير بالنظير، والشبيه بالشبيه:
أخرج الخطيب في «الجامع» (2/162 رقم 1492) بسنده إلى ابن حبان، قال:
قال أبو زكريا: «فما كان من هذا شيء، وكان كله باطل (3) ، قال زكريا: «وهذه الأحاديث كلها التي يحدثون بها في الفتن، وفي الخلفاء، تكون كلها كذب (4) وريح، لا يعلم هذا أحد إلا بوحي من السماء» » .
ثم ذكر بإسناد صحيح عن أحمد بن حنبل يقول: «ثلاثة كتب ليس لها
(1) تقتضي الواقعية الوضوح والسلامة من الغموض والاضطراب. انظر: «في منهج البحث التاريخي» (ص33) ، «نقد الحديث» للعكايلة (ص90-91) .
(2)
سَلَمْيَة: بلد معروف بالشام، شرقي مدينة حماة.
(3)
هكذا رسمت في الأصل، ولها وجه صحيح، بأنْ تجعل (كان) تامة؛ بمعنى:(وجد) .
(4)
هكذا رسمت في الأصل، ولها وجه صحيح، بأنْ تجعل (كان) تامة؛ بمعنى:(وجد) .
أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير» (1) .
وقال: «وهذا الكلام محمول على وجه؛ وهو: أنّ المراد به كُتُبٌ مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير مُعْتَمَد عليها، ولا موثوق بصحتها؛ لسوء أحوال مُصَنِّفيها، وعدم عدالة ناقليها، وزيادات القُصّاص فيها.
فأما كتب الملاحم؛ فجميعها بهذه الصفة، وليس يصح في ذكر الملاحم المُرْتَقبة، والفتن المُنْتَظرة غير أحاديث يسيرة اتّصَلَتْ أسانيدها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وجوه مرضيّة، وطرق واضحة جليّة» .
فهذه الظاهرة قديمة، لها كتبها، ومُروّجوها، وأعلامها، وأساليبها، والعِلْم الصحيح -بقواعده ومنهجيته- بريء منها، وأعلامنا وعلماؤنا، وعلى رأسهم المحدِّثون منهم قالوا كلمتهم فيها، فها هو أبو الخطاب بن دحية يقول على إثر خبر من وضع هؤلاء:
«ومن أسند مثل هذا إلى نبي، عن غير ثقة أو توقيف من نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فقد سقطت عدالته، إلاّ أن يبين وضعه؛ لتصح أمانته، وقد ذكر في هذا الكتاب من الملاحم، وما كان من الحوادث، وسيكون، وجمع فيه التنافي والتناقض بين الضب والنون، وأغرب فيما أعرب في روايته عن ضرب من الهوس والجنون، وفيه من الموضوعات ما يُكَذِّبُ آخِرُهَا أوَّلَها، ويتعذر على المتأول لها تأويلها، وما يتعلق به جماعة الزنادقة، ومن تكذيب الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم، أنّ في سنة ثلاث مئة يظهر الدجَّال من يهودية أصبهان، وقد طعنَّا في أوائل سبع مئة في هذا الزمان، وذلك شيء ما وقع ولا كان، ومن الموضوع فيه المصنوع، والتهافت الموضوع، الحديث الطويل الذي استفتح به كِتَابَهُ؛ فهلاّ اتقى الله، وخاف عِقَابَهُ، وإنّ من أفضح فضيحة في الدين نقلَ مثل هذه
(1) هذه مقولة مشهورة لأحمد، ذكرها ابن تيمية عنه في غير ما كتاب من كتبه؛ مثل:«الرد على البكري» (17-18) ، «مقدمة في أصول التفسير» (21) .
الإسرائيليات عن المتهودين؛ فإنه لا طريق فيما ذُكِرَ عن دانيال إلا عنهم، ولا رواية تُؤْخَذُ في ذلك إلا منهم» (1) .
ونحن نردّد خطاب أبي الخطاب، ونوجِّههه لصاحب كتاب «هرمجدون» وأمثاله، ومَنْ صدّق به في يوم من الأيام، لعلهم يرعوون! ونسوق جملةً من صنيع هؤلاء الممخرقين التي تذكرنا بكتاب بـ (هرمجدون) ، لعلهم يتوبون!
قال ابن خلدون بعد ذكره لمعرفة الناس بالمغرب جزءاً منسوباً يسمونه: «الجفر الصغير» ، وما ظهر في دولة بني العباس من المنجِّمين، مَن لهم عناية مميزة بـ (الملاحم)، وما سيقع في قابل الأيام:
«ثم كتب الناس من بعد ذلك في حَدَثَان الدول منظوماً ومنثوراً ورَجَزاً -ما شاء الله- أن يكتبوه، وبأيدي الناس متفرقة كثير منها، وتسمى الملاحم.
وبعضها في حدثان الملّة على العموم، وبعضها في دولة على الخصوص، وكلها منسوبة إلى مشاهير من أهل الخليقة، وليس منها أصل يُعتمَد على روايته عن واضعه المنسوب إليه.
فمن هذه الملاحم بالمغرب قصيدة ابن مُرّانَة من بحر الطويل على رَوِيّ الراء، وهي مُتداوَلة بين الناس، وتحسب العامة أنها من الحدثان العام؛ فيطلقون الكثير منها على الحاضر والمستقبل، والذي سمعناه من شيوخنا أنها مخصوصة بدولةِ لِمْتُونَةَ؛ لأنّ الرجل كان قُبيل دولتهم، وذكر فيها استيلاءهم على سَبْتَةَ من يد موالي بني حَمُّود ومُلكِهم لِعُدْوة الأندلس، ومن الملاحم بيد أهل المغرب -أيضاً- قصيدة تسمّى التبعيّة أوّلها:
طربتُ وما ذاك مني طَرَب
…
وقد يطربُ الطائرُ المغتَصَب
وما ذاك مني لِلَهْوٍ أراه
…
ولكن لتذكار بعض السبب
(1)«التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة» (716-717 - ط. السقا) .
قريباً من خمس مئة بيت أو ألف فيما يقال، ذكر فيها كثيراً من دولة الموحدين، وأشار فيها إلى الفاطمي وغيره، والظاهر أنها مصنوعة، ومن الملاحم بالمغرب -أيضاً- مُلَعِّبَة من الشِّعْرِ الزجَلي (1) منسوبة لبعض اليهود، ذكر فيها أحكام القِرَانات لعصره العَلَويين والنَّحْسَيْن وغيرِهما، وذكر ميتته قتيلاً بفاس، وكان كذلك فيما زعموه
…
» (2) إلى قوله:
«ومن ملاحم المغرب -أيضاً- قصيدة من عروض المتقارب على رويّ الباء في حدثان دولة بني أبي حفص بتونس من الموحّدين منسوبة لابن الأبّار.
وقال لي قاضي قُسَنْطينيَّة الخطيب الكبير أبو عليّ بن باديس، وكان بصيراً بما يقوله، وله قَدَم في التنجيم، فقال لي: إنّ هذا ابن الأبّار ليس هو الحافظ الأندلسي الكاتب مَقْتُولَ المستنصر، وإنما هو رجل خيّاط من أهل تونس تواطأت شهرته مع شهرة الحافظ، وكان والدي -رحمه الله تعالى- يُنشِدُ هذه الأبيات من هذه الملحمة، وبقي بعضها في حفظي
…
» (3) .
في كلام كثير له -فيه ذكر لكثير من الملاحم، التي وضعت لسرقة عقول الناس؛ لترويج أمرٍ ما في زمن الفتنة، مِن مثل قوله:
«ووقفت بالمغرب على ملحمة أخرى في دولة بني أبي حفص -هؤلاء- بتونس، فيها بعد السلطان أبي يحيى الشهير عاشر ملوكهم ذِكْرُ محمدٍ أخيه مِن بعده يقول فيها:
وبعد أبي عبدِ الإله شقيقُه
…
ويُعرَف بالوثَّاب في نسخة الأصل
إلا أنّ هذا الرجل لم يملكها بعد أخيه، وكان يمنِّي بذلك نفسه إلى أن
(1) في نحو خمس مئة بيت، كما صرح بذلك في (1/422) .
(2)
«تاريخ ابن خلدون» (1/421) .
(3)
«تاريخ ابن خلدون» (1/422) .