الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
الاستفادة من أحاديث الفتن بمنهج علمي منضبط
وخطأ فرقتين جائرتين عن قصد السبيل
قال أبو عبيدة: لكن مع هذا؛ يجب علينا أن نستفيد من الأحاديث الواردة في الفتن، بمنهج علمي منضبط (1) ، وأن نتعامل معها بعد التأكّد من صحتها وثبوتها بعدل، فلا نظلم أنفسنا بإهدارها، ولا نظلمها بأن نتعجل وقوعها، بل الواجب التّعوّذ منها، والعمل على محاربتها بغزوها، فإننا إن لم نحارب الفتنة بتجفيف منابع تكوينها؛ أتتنا، وإن لم نحاربها؛ جاءتنا، والذي أُراه في التعامل مع أحاديث الفتن خطأ فرقتين، كلٌّ منهما جائرة عن قصد السبيل؛ هما:
الأولى: تلقّت هذه الأحاديث على منهج أهل الجبر، وتعجَّلت البلاء قبل وقوعه
، ووقفت أمامها مكتوفة الأيدي، لا تحرك ساكناً فيما أمرها الله به من سلوك أسباب التغيير، والأخذ به، وهؤلاء عطّلوا المقصد الأصلي من أحاديث الفتن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بها؛ لنحذرها ونحذِّر منها، ولنحفّز قوانا النفسيّة للاستعداد لها، بحيث تأتي الشدائد فيقول المؤمن:«هذه مهلكتي» (2) لا يغيِّر ولا يبدِّل، ولذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين أن يبقوا بعيدين عن الفتن العُمِّية التي تقع فيما بينهم، وأن يتوجّهوا في ذلك الوقت للعبادة، وبيّنَ
(1) وقع هذا لبعض الصحابة، قبل وقوع الفتنة فيما سمّاه النبي صلى الله عليه وسلم وعيّنه؛ كعثمان، يظهر هذا من النظر في قصة قتله، وكذا مقتل عمار، كما تراه في «السلسلة الصحيحة» (3216) .
ووقع ذلك لبعضهم بعد وقوعها؛ كقصة أسماء بنت أبي بكر مع الحجاج، انظرها مفصلة مع ألفاظها في «الصحيحة» (رقم 3538) .
وما يقال عن تعيين الأشخاص؛ فإنّ البلدان مثله، والله الموفق.
(2)
جزء من حديث في «صحيح مسلم» (1844) عن عبد الله بن عمرو، وتقدم.
دعاةَ الفتنةِ وأوصافَهم، وما سيطرأ من أثر لهم في المجتمع من الداخل، وكذلك ما سيكون بين المسلمين وأعدائهم من الروم وغيرهم من الملاحم من الخارج، وبالغ صلى الله عليه وسلم جدّاً في التحذير من الدجال وبيان صفاته وسبل الوقاية منه.
ولذا كان من الضوابط العلمية في التعامل مع الفتنة -ما قدمناه- من عدم تطبيقها على الواقع الحاضر؛ بمعنى: أن لا نكون قدريين في فهمها، وانتظار حلولها؛ ذلك أن الله -تعالى- أراد منا، وأراد بنا، فالسعيد من انشغل بماذا أراد الله منه، وحذر أن يراد به ما لا يرضاه ولا يحبه، والمخذول من انشغل بماذا أراد الله به عن الذي أراده منه.
وأبرز مثال يذكر على هذا: (المهدي) عليه السلام، فالناس السذج يتصورون أن معه قوة خارقة، وعصاً سحريةً بواسطتها تتغير الأمور، ويقود العالم، وينشر الإسلام، ولا شك أنه عليه السلام مُؤيَّد من الله عز وجل، ولكنه يأخذ بالأسباب بحنكة وعلم ومعرفة لما يلزم، ويهديه الله إليها، ومن خلال ذلك تقع البركة على يديه.
وكشف عن ذلك شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في كثير من مجالسه وكتبه، وأقتصر على نقلين عنه رحمه الله يوضِّحان المراد:
قال في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (4/42-43) :
«واعلم -يا أخي المسلم- أنّ كثيراً من المسلمين اليوم قد انحرفوا عن الصواب في هذا الموضوع؛ فمنهم من استقر في نفسه أنّ دولة الإسلام لن تقوم إلا بخروج المهدي! وهذه خرافة وضلالة ألقاها الشيطان في قلوب كثير من العامة، وبخاصة الصوفية منهم، وليس في شيء من أحاديث المهدي ما يشعر بذلك مطلقاً، بل هي كلها لا تخرج عن أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بشر المسلمين برجل من أهل بيته، ووصفه بصفات بارزة أهمها أنه يحكم بالإسلام وينشر
العدل بين الأنام، فهو في الحقيقة من المجددين الذين يبعثهم الله في رأس كل مئة سنة -كما صح عنه صلى الله عليه وسلم، فكما أنّ ذلك لا يستلزم ترك السعي وراء طلب العلم والعمل به لتجديد الدين، فكذلك خروج المهدي لا يستلزم التواكل عليه وترك الاستعداد والعمل لإقامة حكم الله في الأرض، بل العكس هو الصواب، فإن المهدي لن يكون أعظم سعياً من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ظل ثلاثاً وعشرين عاماً وهو يعمل لتوطيد دعائم الإسلام، وإقامة دولته، فماذا عسى أنْ يفعل المهدي لو خرج اليوم فوجد المسلمين شيعاً وأحزاباً، وعلماءهم -إلا القليل منهم- اتخذهم الناس رؤوساً! لما استطاع أن يقيم دولة الإسلام إلا بعد أن يوحد كلمتهم ويجمعهم في صف واحد، وتحت راية واحدة، وهذا -بلا شك- يحتاج إلى زمنٍ مديدٍ اللهُ أعلم به، فالشرع والعقل معاً يقتضيان أن يقوم بهذا الواجب المخلصون من المسلمين، حتى إذا خرج المهدي، لم يكن بحاجة إلا أن يقودهم إلى النصر، وإن لم يخرج فقد قاموا بواجبهم، والله يقول:{وَقُل اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُم ورَسُولُه} [التوبة: 105] .
ومنهم -وفيهم بعض الخاصة- من علم أنّ ما حكيناه عن العامة أنه خرافة، ولكنه توهم أنها لازمة لعقيدة خروج المهدي فبادر إلى إنكارها، على حد قول من قال:«وداوني بالتي كانت هي الداء» ! وما مثلهم إلا كمثل المعتزلة الذين أنكروا القدر لما رأوا أنّ طائفة من المسلمين استلزموا منه الجبر!! فهم بذلك أبطلوا ما يجب اعتقاده، وما استطاعوا أن يقضوا على الجبر!
وطائفة منهم رأوا أنّ عقيدة المهدي قد استغلت عبر التاريخ الإسلامي استغلالاً سيئاً، فادعاها كثير من المغرضين، أوالمهبولين، وجرت من جراء ذلك فتن مظلمة كان من آخرها فتنة مهدي (جهيمان) السعودي في الحرم المكي، فرأو أنّ قطع دابر هذه الفتن، إنما يكون بإنكار هذه العقيدة الصحيحة!
وإلى ذلك يشير الشيخ الغزالي عقب كلامه السابق!
وما مثل هؤلاء إلى كمثل من ينكر عقيدة نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان التي تواتر ذكرها في الأحاديث الصحيحة؛ لأن بعض الدجاجلة ادعاها؛ مثل: ميرزا غلام أحمد القادياني، وقد أنكرها بعضهم فعلاً صراحة؛ كالشيخ شلتوت (1) ، وأكاد أقطع أن كل من أنكر عقيدة المهدي ينكرها -أيضاً-، وبعضهم يظهر ذلك من فلتات لسانه، وإن كان لا يبين، وما مثل هؤلاء المنكرين جميعاً عندي إلا كما لو أنكر رجل ألوهية الله عز وجل بدعوى أنه ادعاها بعض الفراعنة! {فَهَل مِن مُدَّكِر} [القمر: 15] » .
وقال في كتابه «قصة المسيح الدجال» (ص36-38) بعد كلام:
«لا يجوز للمسلمين اليوم أنْ يتركوا العمل للإسلام وإقامة دولته على وجه الأرض؛ انتظاراً منهم لخروج المهدي ونزول عيسى -عليهما الصلاة والسلام- يأساً منهم، أو توهماً أنّ ذلك غير ممكن قبلهما! فإنّ هذا توهم باطل، ويأس عاطل، فإنّ الله -تعالى- أو رسوله صلى الله عليه وسلم لم يخبرنا أن لا عودة للإسلام ولا سلطان له على وجه الأرض إلا في زمانهما، فمن الجائز أن يتحقق ذلك قبلهما إذا أخذ المسلمون بالأسباب الموجبة لذلك؛ لقوله
…
-تعالى-: {إنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُم ويُثَبِّت أقدَامَكم} [محمد: 7]، وقوله:{وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُه إنّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزيز} [الحج: 40] .
ولقد كان هذا التوهم من أقوى الأسباب التي حملت بعض الأساتذة المرشدين والكُتّاب المعاصرين على إنكار أحاديث المهدي وعيسى -عليهما
(1) قال أبو عبيدة: صرّح الشيخ شلتوت بذلك، وتأوّل رفع عيسى عليه السلام بجسمه، وأنكر نزوله آخر الزمان في مقالة نشرت له في مجلة «الرسالة» (عدد 462) ، أعقبه بكتابة مقالات أخرى في الموضوع نفسه، وذكر بعض ملازميه من طلبة الأزهر أنّ الشيخ شلتوت في أواخر حياته تراجع عن ذلك، وأحرق كل ما كتبه في ذلك.
السلام-على كثرتها وتواترها- لما رأوا أنها عند المتوهمين مدعاة للتواكل عليها وترك العمل لعز الإسلام من أجلها! فأخطؤوا في ذلك أشد الخطأ من وجهين:
الأول: أنهم أقرّوهم على هذا التوهم؛ على اعتبار أنّ مصدره تلك الأحاديث المشار إليها؛ وإلا لم يبادروا إلى إنكارها!
والآخر: أنهم لم يعرفوا كيف ينبغي عليهم أن يعالجوا التوهم المذكور؟
وذلك بإثبات الأحاديث، وإبطال المفاهيم الخاطئة من حولها، وما مثلهم في ذلك إلا كمثل من أنكر عقيدة الإيمان بالقدر خيره وشره؛ لأنّ بعض المؤمنين به فهموا منه أن لازمه الجبر، وأن المكلف لا كسب له ولا اختيار، ولما كان هذا الفهم باطلاً بداهة سارعوا إلى إنكاره، ولكنهم أنكروا معه القدر -أيضاً-؛ لتوهمهم -أيضاً مع المتوهمين- أنه يعني الجبر، فوافقوهم في خطئهم في التوهم المذكور، ثم زادوا عليهم خطأً آخر -فراراً من الأول- وهو إنكارهم القدر نفسه! فلولا أنهم شاركوهم في فهمهم منه الجبر لما أنكروه!
وهذا هو عين ما صنعه البعض المشار إليه من الأساتذة والكُتّاب، فإنهم لما رأوا تواكل المسلمين -إلا قليلاً منهم- على أحاديث المهدي وعيسى؛ بادروا إلى إنكارها لتخليصهم بزعمهم من التواكل المذكور! فلم يصنعوا شيئاً؛ لأنهم لم يستطيعوا تخليصهم بذلك من جهة؛ ولا هم كانوا على هدىً في إنكارهم للأحاديث الصحيحة من جهة أخرى.
والحقيقة أنّ هؤلاء المنكرين -الذين يفهمون من هذه الأحاديث ما لا تدل عليه من التواكل المزعوم، ولذلك يبادرون إلى إنكارها تخلّصاً منه- قد جمعوا بين المصيبتين: الضلال في الفهم، والكفر بالنص! ولكنهم عرفوا أن الفهم المذكور ضلال في نفسه؛ فأنكروه بإنكار النص الذي فهموا ذلك منه! وعكس ذلك العامة؛ فآمنوا بالنص مع الفهم المذكور، فمع كل من الفريقين
هدىً وضلال، والحق الأخذ بهدى كل منهما، ونبذ الضلال الذي عندهما؛ وذلك بالإيمان بالنص دون ذلك الفهم الخاطئ.
وما مثل هؤلاء وهؤلاء إلا كمثل المعتزلة من جهة؛ والمشبِّهة من جهة أخرى، فإن الأولين تأولوا آيات وأحاديث الصفات بتأويلات باطلة أودت بهم إلى إنكار الصفات الإلهية، وما حملهم على ذلك إلا فرارهم من التشبيه الذي وقع فيه المشَبهة، والحقيقة أن المعتزلة أنفسهم شاركوا المشبِّهة في فهم التشبيه من آيات الصفات، ولكنهم افترقوا عنهم بإنكار التشبيه بطريق التأويل الذي هو باطل -أيضاً-؛ كالتشبيه؛ لما لزم منه من إنكار الصفات الإلهية، وأما المشبِّهة فلم يقعوا في هذا الباطل، ولكنهم ثبتوا على التشبيه، والحق الجمع بين صواب هؤلاء وهؤلاء، ورد باطل هؤلاء وهؤلاء؛ وذلك بالإثبات والتنزيه؛ كما قال الله -تعالى-:{لَيسَ كَمِثْلِه شيءٌ وهو السّميع البَصير} [الشورى: 11] .
وكذلك أقول في أحاديث نزول عيسى عليه السلام وغيرها؛ فإن الواجب فيها إنما هو الإيمان بها، وردّ ما توهمه المتوهمون منها؛ من ترك العمل والاستعداد الذي يجب القيام به في كل زمان ومكان، وبذلك نكون قد جمعنا بين صواب هؤلاء وهؤلاء، ورددنا باطل هؤلاء وهؤلاء، والله المستعان» .
وعالج غير واحد من المعاصرين (1)(التصور الساذج للمهدي) عند كثير من الناس، والركون إلى قدومه من غير عمل بالواجبات المتحتمة على المسلمين لمرضاة ربهم، والخروج عما هم فيه من الذل والصَّغار، وصَوّر
(1) انظر -على سبيل المثال-: «فقه الواقع» لعبد السلام البسيوني (ص 91-93) ، «المهدي وفقه أشراط الساعة» (ص 715 وما بعد) ، «أحاديث سيد المرسلين عن حوادث القرن العشرين» (ص 75-76) لعبد العزيز السيروان، «قبل أن يهدم الأقصى» (ص 276-277) لعبد العزيز مصطفى.
المودودي تصوُّرَ هؤلاء على وجه يوجد في أذهان بعض العامة اليوم بحكم انتشار الخزعبلات والجهل، وقربهم من أصحاب الطرق، قال في كتابه «تجديد الدين وإحيائه» (1) (ص 37-40) :
فلا يسمع به الناس إلا وقد ظهر من معهد قديم، أو خرج من زاوية اعتكاف يصرف السبحة بيده ويتلو الأوراد بلسانه، ويعلن على الخلق:«أنا المهدي أيها الناس (!) » وإذا العلماء والمشايخ يهرولون إليه حاملين بأيديهم الكتب والأسفار، يقابلون هيئته وهندامه بما ورد فيها من سماته وعلاماته، فيعرفونه، ثم تكون البيعة العامة ويتبعها إعلان الجهاد، وهنالك يبادر جميع الدراويش المعتكفين في خلواتهم
…
وأما إذا قام الجهاد ووقع القتال، فلا يستعمل فيه السيف إلا تحلة القسم، وإنما تعمل البركة والتصرفات الروحية عملها في المعارك، ويحاز الظفر والانتصار بفضل النفثات والأوراد
…
» إلى
(1) النص المنقول فيه اختصار وتصرف، وهذا الكتاب -في نظري- بحاجة إلى دراسة وتقويم، كأفكار المودودي بالجملة، فإن فيها جرأة، وصدرت دراسات عديدة في ذلك، ومن أجود ما وقفت عليه:«موقف الجماعة الإسلامية من الحديث النبوي» للعلامة محمد بن إسماعيل السلفي (ت 1387هـ) ، و «زوابع في وجه السنة قديماً وحديثاً» (ص85-171) .
قوله:
«فهذا هو مثل تصورات عامة المسلمين في ظهور الإمام المهدي، ولكن الذي أفهمه في أمره -هو أنّ الحقيقة على عكس ذلك كله، فالذي أقدّره وأتصوره أنّ الإمام المنتظر سيكون زعيماً من الطراز الأحدث في زمانه، بصيراً بالعلوم الجديدة، بصر المجتهد المطلع، ويكون جيد الفهم لمسائل الحياة، ويبرهن للعالمين رجاحة عقله وفكره، وبراعة تفكيره السياسي وكمال حذقه لفنون الحرب، ويبز كل أبناء زمانه الجدد في تقدمه وارتقائه
…
» إلى قوله:
«والمهدي سيسير على أسس الإسلام الخالص، ويقلب عقلية الناس، ويبعث حركة قوة، تكون ثقافية وسياسية
…
، ولكنه سيوفق آخر الأمر للقضاء على سلطة الجاهلية، ويشيد دولة إسلامية موطدة الدعائم، تجري في هيكلها روح الإسلام الخالصة، ويبلغ رقيها في العلوم التجريبية والطبيعية ذروة الكمال» .
قال أبو عبيدة: واقع المسلمين اليوم يحتاج إلى علم شرعي صحيح، وعمل خالص نافع، ويحتاج إلى قادة دعاة يحسنون معرفة واجب الوقت، ويشغلون الناس به، ويصلون من خلال ما يستطيعون إلى ما لا يستطيعون، ويبقى الخير يتّسع -بتوفيق الله- أمامهم، حتى يكافئهم ربُّهم عز وجل بنصر من عنده.
أما أن نكون قدريين، أو غير واقعيين، أو نتصرف بمعزل عن واجب الوقت، معتمدين على أخبار آخر الزمان، فهذا من عجائب هذا الزمان، وهو من نفخ الشيطان في الآذان، ولم يعرفه المسلمون الأوائل، فلما -مثلاً- أُنبئوا بفتح البلدان، لم يقل واحد منهم -مثل محمد الفاتح السلطان-: إن فتح القسطنطينية ليس وقتها الآن، بل امتثل ما أوجبه الله عليه، فرزقه الله الفتح المبين، الذي كان -وما زال- مفخرة للمسلمين.
وهكذا المهدي؛ فإنه لا ينصره أناس خاملون، ولا يخرج إلى قوم قاعدين، وإنما له تباشير وتقادير وفق سنن الله عز وجل في التغيير.
ويعجبني بهذا الصّدد قول بعضهم (1) :
«لقد تبين لنا أن اليهود والنصارى ينطلقون من خلال نبوءاتهم التي دخلها كثير من التحريف إلى وضع تصوراتٍ عمليةٍ لما يمكن أن تدار على أساسه الصراعات، وإلى بذل الوسع من أجل الوصول إلى أهدافٍ دينيةٍ تَسَلُّطِيَّةٍ على العالم، ولم يمنعهم الاقتناع ذهنيّاً بهذه الأمور من الانصراف
…
-أيضاً- إلى بناء الحضارة، وتوسيع العمران، وزيادة الإعداد والاستعداد للمستقبل، فماذا أقول؟! أأقول إنهم يفهمون الروح المقصودة من التدين أكثر منا وهم على غير دين صحيح، أأقول إنهم إلى جانب فهمهم للدنيا، وكيفية التعامل معها يفهمون؛ وهم على ضلال أن ما يجيء به الدين هو قضايا من صُلْب الحياة، وصميم الواقع؟!!
إن اليهود والنصارى بين أيديهم أخبارٌ غير موثوقة، وتفسيراتٌ غير مأمونة، وعقائدُ مضطربةٌ تزيدها التأويلاتُ اضطراباً، واختلافاتٌ فيما بينهم في الأصول والفروع، يستحيل معها الجمع بين الأقوال، ومع كل ذلك فهم جعلوا هذه الأخبار، وتلك النبوءات، مناراً يسيرون على ضوئه خلال أحقاب طويلة؛ ففي مسيرة اليهود خلال الألفي سنة الخالية لم تكن تدفعهم إلا نبوءات «العهد القديم» ، ولم تَستَحثَّ آمالهم إلا أخبار الأنبياء السابقين، ولم تستنهض هممهم إلا أمانٍ بعيدة في العودة، والعلو، والسيطرة.
وفي المقابل نرى من بعض قومنا مَن إذا أخذ بأخبار من الدين عن المستقبل فإنه يجعلها سدّاً أمام الحركة، وعائقاً في وجه التقدم، ويتخذ منها وسادة وثيرة ينام عليها، أو أريكة وطيئة يقتعدها» .
(1) هو الأستاذ عبد العزيز مصطفى في كتابه «قبل أن يهدم الأقصى» (ص 247-248) .