الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله -سبحانه- وأيَّده وأمدَّه بنعمته على محمد وأمته، وقلوب العدوّ في غاية الرعب منه، واللهِ! لقد رأى الداعي من رُعْبِهم ما يوصف، حتى إنّ وزيرَهم يحيى قال قُدَّام الداعي ومولاي يسمع: واحدٌ منكم يغلب ستةً من هؤلاء، وهكذا يُخبر القادمون من هناك أنهم مرعوبون جدّاً، فمن نعمة الله على المسلمين أنْ يُيسِّر غزاةً ينصر الله بها دينَه هنا وهناك، وما ذلك على الله بعزيز.
وليس من شريعة الإسلام أنّ المسلمين ينتظرون عدوَّهم حتى يقدم عليهم، هذا لم يأمر اللهُ به ولا رسولُه ولا المسلمون، ولكنْ يجب على المسلمين أنْ يقصدوهم للجهاد في سبيل الله، وإنْ بدأوا هم بالحركة فلا يجوز تمكينُهم حتى يَعبُروا ديار المسلمين، بل الواجبُ تقدُّمُ العساكر الإسلامية إلى ثغور المسلمين، فالله -تعالى- يختار للمسلمين في جميع الأمور ما فيه صلاح الدنيا والآخرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والحمد لله وحده، وصلَّى الله على محمد عبده ورسوله.» انتهى.
فصل
الجهاد في زمن الفتنة
قال أبو عبيدة: فما في هذه الرسالة هو تقرير المحكم من الدين، وما أوجبه الله علينا في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا؛ فإنه ذكر واقعة التتار وجعلها كالدواء المؤلم الذي يحصل به الشفاء، وبيان ما استفاد المسلمون منها، ومع هذا فهو -رحمه الله تعالى- ما تنكّب أحاديث الفتن، ولم يهمل ما يجب أنْ يُراعَى عند وجودها، وقد كشف عن ذلك بكلام يفرح به المتعقّلون من المصلحين ممن يعمل من وراء تقريرات العلماء، قال في
«الاستغاثة في الرد على البكري» (2/631) -وهو يتكلم عن حال المسلمين عند قدوم التتر عليهم، مصوّراً مخالفاتهم العقدية-:
«وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم، ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم؛ لأنهم إنّما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، أو الدعاء به، أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم لله ودعائهم إياه؛ فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى إنّ العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر
…
لوذوا بقبر أبي عمر
أو قال:
عوذوا بقبر أبي عمر
…
ينجيكم من الضرر» .
قال:
ثم قال -وهذا هو موطن الشاهد-:
«ولهذا كان أهل المعرفة بالدِّين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، ولِمَا يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة في القتال، فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة، لمن عرف هذا وهذا، وإنْ كان كثيرٌ من المقاتلين الذين اعتقدوا
هذا قتالاً شرعيّاً أُجرُوا على نياتهم (1) .
(1) هذا من دقّة شيخ الإسلام ابن تيمية المتناهية في المسائل الفقهية؛ فالجهاد في الظروف الصعبة، والأحوال غير الطبيعية يحتاج إلى أحكام تُراعَى فيه ظروفه، وما يحيط به من مستجدات، وهو ليس كالصلاة، لا بد من أدائه على أية حال! كما يعتقد بعض الداعين إليه، والمتحمسين له! ولستُ مبالغاً إنْ قلتُ: إنّ أبرز آثار (الفوضى) في (الفتوى) اليوم تظهر علينا في (الجهاد) وأحكامه!
والعجب من المفتين التناقض الشديد بينهم في هذا الميدان، واختلافهم في الجملة على حسب البلدان، ويدور مع مصالحهم دون النظر إلى مآلات الأفعال، وقد بلونا جملة من الوقائع، سمعنا فيها عجباً من أُناسٍ يشار لهم بالبنان، يتكلمون على أنهم علماء الأمة ويطلقون التكفير بمراهقة الشبان، وهم كبار كبار؛ في أسنانهم، ودعواتهم، ومناصبهم، ولكنهم -واللهِ! - ليسوا كذلك في تقعيدات العلماء وأصولهم! وأكبر مثال وأشهره -وهو مازال ماثلاً للعيان-: الجهاد في العراق لصد العدوان الأمريكي؛ فكثيرٌ من الناس أفتى بالوجوب العيني على الشباب، بناءً على أن أمريكا هي أصل الشر، و
…
، و
…
، و
…
، دون اعتبار جميع الأوصاف والقيود التي لها أثر في الفتوى؛ فالنتائج محسومة، والأمور محسوبة، والأمن للمجاهدين غير حاصل، والنظام القائم بَعثِيٌّ لا شرعي، ولو قيل بالجواز لهان الخطب، أمَّا الوجوب، والوجوب العيني؛ فهذا -واللهِ! - غفلة عما نبه ابن تيمية على ما هو دونه، ووصف غير المقاتلين للتتر آنذاك «أهل المعرفة بالدين» !
وهذا الأمر ليس خاصّاً بابن تيمية، فقد سبقه إلى نحوه العز بن عبد السلام، قال السبكي في «معيد النعم» (ص 45-46) :
فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله، والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل، كما قال -تعالى- يوم بدر:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُم} [سورة الأنفال: 9]
…
» ، وقال:
= الظلم، وردوا المظالم إلى أهلها، وأحيوا السنن، وأخمدوا نيران البدع والفتن؛ لفتح الله عليهم باب الجهاد، وقاتلوا كما أمروا؛ كفاهم الله كل مؤونة، وأمدهم بجنود لا يرونها، كما أمد أصحاب نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بذلك، ووقاهم شر عدوهم، وهذا من الأمور المشاهدة.
انظر: «نصيحة أهل الإسلام» (ص 144) .
والخلط والخبط في الأزمات يشتدّ، ولا سيما في أحكام الجهاد؛ فهذا قائل بوجوب القتال مع العراق، وآخر بوجوب القتال ضدّه، وكلا الصنفين ينعت وجوبه بـ:«الشرعي» ، وتكرر هذا الخلط عدة مرات، ابتداءً من الحرب ضد إيران، ومروراً باحتلال الكويت، وأخيراً عند قدوم الأمريكان! -والله أعلم بما سيكون في قابل الزمان- ووراء كل صنف أعلام ومؤسسات وهيئات للفتوى!
و (الشباب) متحمِّس ومتوثب ومتثبِّت، ومواقفهم -ما لم يعصمهم اللَّه- متذبذبة، وسماع الوجوب العيني مع عدم فعله له آثار تربوية سيّئة مدمرة! لا يقدّره إلا الراسخون المربون من العلماء.
أَمَا آن للمفتين قبل استدعاء النصوص -التي يعرفها كل طالب علم- فحص المكان والواقع الذي سَتُنزَّل عليه، والنظر إلى المآلات؟!
وأخيراً
…
إنّ إماتة لفظة (الجهاد) من مشاعر المسلمين، سواء بسوء استخدامها، ووضعها في غير مكانها، أو بإيجابها على عاجزين، لا يقل سُوءاً عن صنيع تلك الثلة التي تعمل على إخماد نورها وإطفاء لهيبها! والمحصّلة والثمرة واحدة، فهل من مدكر؟!
والذي أراه ضرورةً؛ مراعاة المفتين إعادة (الهيبة) إلى هذا (المصطلح) ؛ بترك ابتذاله، وسوء إسقاطه، وكذا من الخطباء والوعاظ؛ بترك استخدامه زينةً -فحسب- لخطب رنانة، وكذا من الدعاة والأحزاب؛ بترك توظيفه للوصول إلى أعناق الجماهير، والمجالس النيابيّة، وتزيينه بالبيانات الحزبية، وإنما العمل على التكامل بينهم للنهوض بواجب الوقت، والوصول بالأمة إلى ذروة السنام، وترك التآكل، والبُعد عن السذاجة وتفويت فرص التربّص، والتربية الشرعية الجادة الموصلة للولاية لله ورسوله والمؤمنين.