الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كثير، ولم يصح ذلك» .
وذكر كلاماً طويلاً عن (الملاحم)، ووضع بعض الناس مؤلفات لها: نظماً، وزجلاً، ونثراً، وأنها كانت -آنذاك- مشهورة عند أهل المغرب، بل قال (1/420) :«إنّ في بعضها تفصيلاً فيه مطابقة من تقدّم عن ذلك من حدثانه، وكذب ما بعده» .
فالسابقون للأحداث؛ يهمهم ما هم فيه، ويفصّلون فيما سيجري (1) ، ويخدعون الناس في ذلك؛ «لِمَا جُبلت عليه النفوس من حُبّ التنقّل في الأشياء المتجدّدة، التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة» (2) .
ثانياً: هذه النبؤات ليست قائمة على أصول علمية، وقواعد مطردة
، ترجع إلى تعليل أو تحقيق، بل يقطع بها عابثون مراهقون، وقد تسبب زيادة طمع الأعداء، ووقوع التربص بهم وببلدانهم، وهي لا تظهر إلا في الساعات الحرجة من تاريخ الأمة، ولما تقف على مفترق الطرق، فهؤلاء يُمهّدون للأعداء بتهيئة النفوس وترويضها إلى نصر دون عناء، وفتح بلاد غير الأعداء! وكَشَفَ عن هذا ابن خلدون، فقال -بعد كلام عن استكناه الغيب، وتطلب معرفته، وبطلان ذلك من النصوص-:
«فقد بان لك بطلان هذه الصناعة من طريق الشرع، وضَعْفُ مداركها مع ذلك من طريق العقل، مع ما لها من المضار في العمران الإنساني بما تبعث من عقائد العوام من الفساد إذا اتّفق الصدق من أحكامها في بعض الأحايين اتفاقاً لا يرجع إلى تعليل، ولا تحقيق فيلهج بذلك من لا معرفة له، ويظن اطراد الصدق في سائر أحكامها، وليس كذلك، فيقع في رد الأشياء إلى غير
(1) دون حياء، ولا تقوى، ويسحرون الناس في وقت الفتنة، وسرعان ما ينقلب السحر على الساحر.
(2)
«البرهان في علوم القرآن» (3/28) للزركشي.
خالقها.
ثم ما ينشأ عنها كثيراً في الدول من توقع القواطع، وما يبعث عليه ذلك التوقع من تطاول الأعداء والمتربصين بالدولة إلى الفتك والثورة، وقد شاهدنا من ذلك كثيراً، فينبغي أنْ تحظر هذه الصناعة على جميع أهل العمران؛ لِمَا ينشأ عنها من المضار في الدين والدول، ولا يقدح في ذلك كون وجودها طبيعيّاً للبشر بمقتضى مداركهم وعلومهم.
فالخير والشر طبيعتان موجودتان في العالم لا يمكن نزعهما، وإنما يتعلق التكليف بأسباب حصولهما، فيتعين السعي في اكتساب الخير بأسبابه، ودفع أسباب الشر والمضار، هذا هو الواجب على من عرف مفاسد هذا العلم ومضاره، ولْيَعلَمْ من ذلك أنها وإن كانت صحيحة في نفسها فلا يمكن أحداً من أهل الملّة تحصيلُ علمها ولا ملَكَتها، بل إنْ نَظَر فيها ناظِرٌ، وظن الإحاطة بها؛ فهو في غاية القصور في نفس الأمر؛ فإنّ الشريعة لما حَظَرَت النظر فيها، فُقِدَ الاجتماع من أهل العمران لقراءتها والتحليق لتعليمها، وصار المولع بها من الناس -وهم الأقلّ، وأقلّ من الأقلّ- إنما يطالع كتبها ومقالاتها في كِسْر بيته، متستراً عن الناس، وتحت رِبْقَة الجمهور، مع تشعب الصناعة، وكثرة فروعها واعتِياصِها على الفهم، فكيف يحصل منها على طائل؟! ونحن نجد الفقه الذي عمّ نفعه ديناً ودنيا، وسهلت مآخذه من الكتاب والسنة، وعكف الجمهور على قراءته وتعليمه، ثم بُعْدُ التحقيق والتجميع، وطول المدارسة، وكثرة المجالس، وتعدُّدُها إنما يحذُق فيه الواحد بعد الواحد في الأعصار والأجيال، فكيف يُعلَمُ مهجور للشريعة مضروب دونه سَدُّ الخطر والتحريم، مكتومٌ عن الجمهور صعبُ المآخذ محتاج بعد الممارسة والتحصيل لأصوله وفروعه، إلى مزيد حَدْس وتخمين يكتنفان به من الناظر؟! فأين التحصيل والحِذقُ فيه مع هذه كلها؟! ومدعي ذلك من الناس مردود على عقبه، ولا شاهد له يقوم بذلك لغرابة الفنِّ بين أهل الملّة، وقلّة حمَلَته.
فَاعْتَبِرْ ذلك؛ يتبيّن لك صحة ما ذهبنا إليه، والله أعلم بالغيب فلا يظهر على غيبه أحداً.
ومما وقع في هذا المعنى لبعض أصحابنا من أهل العصر عندما غلب العربُ عساكرَ السلطان أبي الحسن، وحاصروه بالقَيْروان، وكثر إرجاف الفريقين الأولياء والأعداء، وقال في ذلك أبو القاسم الرُّوحِيُّ -من شعراء أهل تونس-:
أستغفر الله كل حين
…
قد ذهب العيش والهناء
أُصبِحُ في تونس وأُمسي
…
والصبح للَّه والمساء
الخوف والجوع والمنايا
…
يُحدِثُها الهرج والوباء
والناس في مِريَةٍ وحرب
…
وما عسى ينفع المِرَاء
فأحمديٌّ يرى عَليّاً
…
حلَّ به الهُلْكُ والتَّوَّاء
وآخر قال سوف يأتي
…
به إليكم صَباً رخَاء
واللهُ من فوق ذا وهذا
…
يقضي لعبدَيْه ما يشاء
يا راصد الخُنَّس الجواري
…
ما فعَلَتْ هذه السماء
مطَلْتُمونا وقد زعَمْتم
…
أنكم اليوم أمِليَاء
مَرَّ خميسٌ على خميس
…
وجاء سبتٌ وأربعاء
ونصف شهر وعُشْرُ ثان
…
وثالث ضَمَّه القضاء
ولا نرى غيرَ زورِ قول
…
أذاك جهلٌ أمِ ازدراء
إنا إلى الله قد علمنا
…
أن ليس يُستَدْفَع القضاء
رضِيتُ بالله لي إلهاً
…
حسبُكُم البدرُ أو ذُكَاء
ما هذه الأنجُمُ السواري
…
إلَاّ عَبَاديد أو إماء
يُقضَى عليها وليس تَقضِي
…
وما لها في الورى اقتضاء
ضلت عقول ترى قديماً
…
ما شأنُهُ الجُرم والفناء
وحكَمَتْ في الوجود طبعاً
…
يُحدِثُه الماء والهواء
لم تر حلواً إزاء مُرّ
…
تغذُوهم تربة وماء
الله ربي ولست أدري
…
ما الجوهر الفرد والخلاء
ولا الهَيُولى التي تنادي
…
ما لي عن صورة عراء
ولا وجودٌ ولا انعِدام
…
ولا ثُبوتٌ ولا انتفَاء
والكَسْب لم أدر فيه إلا
…
ما جلَبَ البيع والشراء
وإنما مذهبي وديني
…
ما كان للناس أولياء
إذ لا فصولٌ ولا أصول
…
ولا جدال ولا رياء
ما تبِعَ الصَّدْر واقتفينا
…
يا حبذا كان الاقتفاء
كانوا كما يعلَمُون منهم
…
ولم يكن ذلك الهَذَاء
يا أشعَرِيَّ الزمان إني
…
أشعَرَني الصيفُ والشتاء
لم أُجْزَ بالشر غير شر
…
والخَيرُ عن مثله جزاء
وإنني إن أكن مطيعاً
…
فلست أَعصِي ولي رجاء
وإنني تحت حُكْم بار
…
أطاعه العرش والثراء
ليس انتصارٌ بكم ولكن
…
أتاحه الحُكْم والقضاء
لو حُدِّث الأشعريُّ عَمَّن
…
له إلى رأيه انتماء
لقال أخبِرْهُم بأني
…
مما يقولونه براء» (1)
قال أبو عبيدة: فهذه التنبؤات لها صلة بالغيب، والمسلم يبرأ من التخرصات والرجم بالغيب، ويعتقد أنّ هذا خلل كبير في عقيدته، قد يخرجه
(1)«تاريخ ابن خلدون» (1/716-719) .