المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلعودة إلى ظاهرة إسقاط الأحاديث على الأحداث،ودوافعها الجديدة، وبيان بعض المعالم الشرعية لها - العراق في أحاديث وآثار الفتن - جـ ٢

[مشهور آل سلمان]

فهرس الكتاب

- ‌ ذكر سائر رواة الحديث عن سفيان الثوري عن عاصم وبيان حالهم:

- ‌أولاً: إسماعيل بن أبان الغنوي الخياط

- ‌ثالثاً: عبيد الله بن سفيان الغُداني

- ‌رابعاً: عبد الرزاق بن همام الصَّنعاني

- ‌شواهد حديث جرير بن عبد الله البَجَليّ:

- ‌ حديث أنس بن مالك

- ‌ حديث حذيفة بن اليمان

- ‌فصلفي العراق والملاحم والسفياني

- ‌ شواهد أخرى للأحاديث السابقة

- ‌فصلفي حسر الفرات عن جبل من ذهب في الملاحم التي تكونبين يدي ظهور المهدي وحصول مقتلة عظيمة آنذاك

- ‌ الرواة له عن سفيان، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة

- ‌ الحسين بن حفص الأصبهاني

- ‌ شهاب بن خراش

- ‌ إسماعيل بن زكريا

- ‌ يعقوب بن عبد الرحمن الإسكندراني

- ‌ حديث أُبيّ بن كعب

- ‌أولاً: إن الفتن آخر الزمان قبل المهدي، عند الملاحم تبدأ من العراق

- ‌ثالثاً: لا تعارض بين وصف الذي أُحسر عنه بـ (جبل) ، أو (تل) ، أو

- ‌ إفاضة المال في وقت الملاحم

- ‌هور معدن الذهب وحضور شرار الخلق له في أرض بني سُليم

- ‌سابعاً: خلاصة ما مضى:

- ‌فصلفي الفوائد المستنبطة من حديث: «منعت العراق

- ‌ثالثاً: تسمية النبي صلى الله عليه وسلم مكيال كلِّ قوم باسمه

- ‌رابعاً: فيه بيان لبعض أحكام الأرضين المغنومة

- ‌الخراج بمعنى ضريبة الأرض نوعان:

- ‌سابعاً: في هذا الحديث ردٌّ على من ضعّف أحاديث توقيت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل العراق (ذات عرق)

- ‌عاشراً: يفهم بالإشارة من هذا الحديث التوصية بالوفاء لأهل الذمة لما في الجزية التي تؤخذ منهم من نفع للمسلمين

- ‌حادي عشر: استنبط كثير من الفقهاء من هذا الحديث أن الأرض المغنومة لا تقسم ولا تباع

- ‌الفرق بين العشر والخراج

- ‌خامس عشر: أن الحصار الاقتصادي لا بد أن يصيب العراق

- ‌فصلفي محاذير قراءة أحاديث الفتن لإسقاطها على الواقع

- ‌أولاً: عدم البحث عن صحتها

- ‌ثانياً: تحريف معانيها

- ‌ثالثاً: من أسوأ أنواع هذا التحريف وأخطره التعدّي على المُسَلَّمات والقواعد الكليات

- ‌ كون الظاهر منها هو المفهوم العربي، فلا تشرع الزيادة على الجريان على اللسان العربي؛ مثل: حساب الجُمَّل

- ‌ أولاً: فمعلوم أن تلك الحروف ليست موضوعة للأعداد في العربية

- ‌ ثانياً: فقد عُلم مخالفته صلى الله عليه وآله وسلم لليهود في أفعالهم وأقوالهم

- ‌ ثالثاً: فلأنهم منكرون أنه كلام الله، فهم فسروا على تسليم أنه تفسير كلام كاذب عندهم

- ‌ رابعاً: فلأنه يحتمل أن سكوته أراده لإغاظتهم وتحزينهم

- ‌ خامساً: فلأنه معلوم أن هذا ليس من لغته ولا لغة قومه

- ‌فصلفي بيان أنواع العلوم والمناهج المتبعة للوصول إلى الحقائق

- ‌فصلفي عدم تطبيق أحاديث الفتن على الواقع الذي نعيش

- ‌فصلالاستفادة من أحاديث الفتن بمنهج علمي منضبطوخطأ فرقتين جائرتين عن قصد السبيل

- ‌الأولى: تلقّت هذه الأحاديث على منهج أهل الجبر، وتعجَّلت البلاء قبل وقوعه

- ‌الفرقة الثانية: تنكّبت أحاديث الفتن، وعملت بنصوص الوحي، ولم تنتبه إلى ما يحيط بها من أمور

- ‌فصلفي ضرورة تعلم أحاديث الفتن، واليقين على ما صح فيهاعلى المقصد الذي سيقت من أجله

- ‌فصلالمراهقون وأحاديث الفتن

- ‌فصلالكذب والدجل، والوضع الجديد في الأحاديث الواردة في الفتن

- ‌فصلفتنة العراق في كتب الفتن الحديثة

- ‌فصلجولة سريعة مع «هرمجدون» ، وما هو على شاكلته،وما ذكروه عن (فتنة العراق)

- ‌ جملة من (تكهنات) صاحب «هرمجدون»

- ‌أولاً: الظنّ ليس بعلم

- ‌ثالثاً: مستنده فيما ذكره من آثار في صفة السفياني

- ‌ مع كتاب «القيامة الصغرى على الأبواب»

- ‌ مع الهواة والمقلّدين

- ‌فصلفي تفسير هذه الظاهرة مع الأدلّة

- ‌فصلفي تحليل هذه الظاهرة وتأريخها

- ‌ مظاهر عديدة تشترك في زماننا هذا مع ما ظهر قديماً من أحداث شبيهة تتنزل عليها النصوص

- ‌أولاً: أنها تنبؤات فردية وشخصية

- ‌ثانياً: هذه النبؤات ليست قائمة على أصول علمية، وقواعد مطردة

- ‌ثالثاً: كثير من هذه التنبؤات لا مستند لها من الأخبار والآثار الصحيحة

- ‌رابعاً: قد يقول قائل: ليست جميع الأحاديث التي يستدل بها هؤلاء كما زعمتَ

- ‌فصلتأريخ إسقاط النصوص على الحوادث في العصر الحديث وتقويمها

- ‌فصلظاهرة إسقاط الأحاديث الواردة في الفتن على وقائع معينة:

- ‌ أهمية المعالم والضوابط لهذه الظاهرة

- ‌ تكييف (الإسقاط) وبيان أنه من (ملح) العلم لا من (صلبه)

- ‌أولاً: عدم الاطِّراد والعموم

- ‌ثانياً: عدم الثبوت

- ‌ثالثاً: عدم الحكم والبناء عليه

- ‌ الإسقاط يعتريه خفاء وغموض، وبيان خطورته

- ‌فصلقيود وضوابط الإسقاط

- ‌أولاً: لا بُدّ من التحقق من صحة النّص

- ‌ثانياً: ترك الاستدلال باللوازم وغير الظاهر

- ‌ثالثاً: أن يبقى هذا الإسقاط في دائرة التوقّع المظنون

- ‌رابعاً: أن لا يؤثّر هذا الإسقاط، والترقّب الذي يترتب عليه، على أداء واجب الوقت

- ‌فصلرسالة شيخ الإسلام ابن تيمية إلى السلطان الملك الناصر في شأن التتار

- ‌إحداها: طمأنينة قلوب أهل البلاد حتى يعمروا ويزدرعوا

- ‌الثانية: أنّ البلاد الشمالية كحلب ونحوها فيها خيرٌ كثيرٌ

- ‌الفائدة الثالثة: أنّه يُقوِّي قلوبَ المسلمين في تلك البلاد

- ‌الفائدة الرابعة: أنهم إنْ ساروا أو بعضهم حتى يأخذوا ما في بلد الجزيرة

- ‌فصلالجهاد في زمن الفتنة

- ‌فصلكيف ينبغي أنْ نفهم أحاديث الفتن

- ‌فصلعودة إلى ظاهرة إسقاط الأحاديث على الأحداث،ودوافعها الجديدة، وبيان بعض المعالم الشرعية لها

الفصل: ‌فصلعودة إلى ظاهرة إسقاط الأحاديث على الأحداث،ودوافعها الجديدة، وبيان بعض المعالم الشرعية لها

{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2] .

والفتن التي حدثت قديماً بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، لا ولن تكون مسوغاً للمتقاعسين ليقنعونا بالقعود والتواكل؛ فالمنهج هو الأصل، والتاريخ الإسلامي ليس إلاّ تطبيقاً للمنهج، قد يوافقه كثيراً، ويخالفه ويخرج عنه أحياناً.

وقد كان لا بُدّ -في الختام- من هذا الكلمة على هذه الصورة حتى لا يُساء فهم النصوص والاستفادة منها عند البعض، ولتكون عاملاً للتنبه والحذر، والعمل المعاكس لتيار الفتن لا الانقياد لها، والتسليم والإذعان.

وهي إنما كانت من الرسول صلى الله عليه وسلم إخباراً بمغيبات، ودليلاً على صدق نبوته، وتحذيراً للمسلمين عن الانحطاط في الفتنة، أو التمهيد لها، أو المساعدة على نشوئها واستمرارها، ولكي يأخذ الصحابة رضي الله عنهم حذرهم لكل طارئ، وتدبيراً لهم على الاحتياط والإعداد لكل مفاجئ (1) .

‌فصل

عودة إلى ظاهرة إسقاط الأحاديث على الأحداث،

ودوافعها الجديدة، وبيان بعض المعالم الشرعية لها

مما ينبغي أنْ يذكر تجاه هذه الظاهرة أنّ الدراسات الجذرية المعتنية بها قليلة، وذكرها المعاصرون في معرض الأخذ والرد (2) ، وإنَّ ربطنا إياها بالنوع الثاني من العلوم عند الشاطبي -وهو (الملح) - جعلنا نقرر قبولها بضوابط

(1) بتصرف من «أحاديث سيد المرسلين عن حوادث القرن العشرين» (مقدمة فكرية: الفتن وعوامل التغيير)(ص ز-خ) .

(2)

انظر: كلام الشيخ صالح آل الشيخ (ص 52-53) ، وما نُقل عنه (ص 619) ، وما قدمناه -أيضاً- عن بعض الغيورين (ص 730) .

ص: 756

ومعالم، وقد أشار إليها بعض المعاصرين بإجمال، فقال تحت عنوان:(لا يمكن إسقاط النصوص التي يَطْرُقُها الاحتمال على واقعٍ مُعيّن إلاّ بعد وقوعها وانقضائها) ما نصه:

«فقد كان من هدي السلف رحمهم الله أنهم لا يُنَزِّلون أحاديث الفتن على واقع حاضر، وإنما يرون أصدق تفسير لها، ووقوعها مطابقة لخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك نلاحظ أنّ عامّة شارحي الأحاديث الشريفة كانوا يُفيضون في شرحها، واستنباط الأحكام منها، حتى إذا أتوا على أبواب الفتن وأشراط الساعة أمسكوا أو اقتصدوا في شرحها للغاية، وربما اقتصروا على تحقيق الحديث، واكتفوا بشرح غريبه، بخلاف ما يحصل من بعض المتعجلين المتكلفين اليوم؛ فإنه بمجرد ظهور بوادر لأحداث معينة -سياسية كانت، أو عسكرية؛ محلية، أو عالمية- تستخفهم البُداءات، وتستفزهم الانفعالات، فيُسقطون الأحاديث على أشخاص معينين، أو وقائع معينة، ثم لا تلبث الحقيقة أنْ تبين، ويكتشفوا أنهم تهوروا وتعجلوا.

وربما كان دافعهم نبيلاً؛ فَهُم يحسبون أنّ إسقاط النبوءات على الواقع مما يزيد يقين المسلمين، ويقوي إيمانهم، ويمكنهم من إقامة الحجة على المكذبين بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا تأييدٌ لدين الحق!

نقول: نعم؛ ولكن بالشرط المذكور آنفاً؛ لأنّ العجلة في مثل ذلك قد تأتي بعكس ما يشتهون؛ إذ لو خيبت الأحداث -إذا اكتملت- ظنهم؛ ربما كانت النتيجة عكسية عند الكفار، وعند ضعاف المسلمين.

ولا بُدّ من أنْ تكون النصوص التي يطبق عليها هذا الضابط مما يطرق دلالته الاحتمالُ، بخلاف النصوص المحكمة التي دلَّ الدليل على المراد منها؛ بحيث لا تلتبس على أحد، فإنها لا تخضع لهذا الضابط؛ مثل نزول المسيح عليه السلام من السماء عند المنارة البيضاء بدمشق، وصلاته الصبح خلف

ص: 757

المهدي؛ ومثل خروج الدجال بصفته التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم» (1) .

ويقول باحث آخر عن الموضوع نفسه ضمن (التوصيات والمقترحات) التي توصل إليها بحثه المعنون بـ «موقف المسلم من الفتن في ضوء الكتاب والسنة» (ص 574) ما نصه:

«عدم تطبيق ما ورد في الفتن -من نصوص- على الواقع المعاصر:

تزداد شهوة الكلام عند حلول الفتن، وتظهر جرأة كثير من ضغام الناس وقتها، فيحلو لهم آنذاك استرجاع أحاديث الفتن وتقليب صفحاتها، ويربو ذلك ويزداد في اجتماعاتهم في المنتديات والمجالس، فتجدهم ينزِّلون تلك الأحاديث على واقعهم الآني، ويلوون أعناقها لتوافق ما يعتريهم ويصيبهم من فتن، فيقولون: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم

كذا

هو المراد بهذه الفتنة التي نحن فيها الآن، أو المراد به الفتنة التي حدثت في الوقت الفلاني أو البلد الفلاني

وهكذا يفسرون ويطلقون المراد من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحاديثه عن الفتن، بتحديد أزمانها وأماكنها وتطبيقها على واقعهم وزمنهم الآني، كل ذلك ليس عندهم فيه من الله برهان.

وهذا خطأ فادح، على خلاف منهج السلف الصالح -من أهل السنة والجماعة-؛ فإن منهجهم إبَّان حلول الفتنة، هو عدم تنزيل أحاديثها على واقع حاضر، وإنما يتبين ويظهر صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أنبأ وحدث به أمته من حدوث الفتن عقب حدوثها واندثارها، مع تنبيه الناس وتحذيرهم من الفتن عامة، ومن تطبيقها على الواقع الحالي خاصة» .

قال أبو عبيدة: كَشْفُ خطأ الكذّابين عند أهل النقد والصَّنعة الحديثية سهل ميسور، أمّا الصعب الذي يحتاج إلى دقة فهم، وكثرة جمع وعرض، وقدح ذهن؛ فهو خطأ الثقة.

ص: 758

وهكذا يقال عن إسقاط الحدث قبل إتمام وقوعه، وبمجرد وجود إرهاصاته، أو مقدماته، أو تخييلاته، فضلاً عن التنبؤ والتكهن به؛ فهذا النوع سرعان ما يظهر كذبه (1)، وهو منهج دخيل على أهل العلم؛ أعني: جعله مطرداً كليّاً ثابتاً حاكماً يُبنى عليه.

وأما إسقاط الأحاديث على حدثٍ قد وقع فعلاً، فممكن، وقد سبق بيان بعض الضوابط التي يجب مراعاتها عند ذلك، وأنه لا بُدّ لمن يضطلع بهذه المهمة من الاطلاع الواسع على الحديث، وجمع ألفاظه وطرقه، وإذا أردت أنْ تقف على أهمية هذا الأمر؛ فتأمل ما أسنده الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (2/212 رقم 1640) عن أحمد بن حنبل، قال:

«الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً» .

وما أخرجه -أيضاً- (2/212 رقم 1641) عن علي بن المديني، قال:«الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبيَّن خطؤه» .

كما أنه لا بُدّ لمن يضطلع بهذه المهمة من معرفة وقائع التاريخ وأحداثه، وما ثبت منها أو كان منتحلاً، ولا بُدّ له من مراعاة العربية، ومعرفة أساليبها، وطرق دلالاتها، وفهم النصوص على ضوء ذلك، فالمولعون بالإسقاط اليوم أهملوا ذلك، ومضت نماذج من أخطائهم، يمكن أنْ يكون بعضها ملحقاً بـ (بدع التفسير) ، و (مسالك أهل البدع في الاستنباط)، بل لا أجاوز الحقيقة إنْ قلت: إنّ بعضها يصح أنْ يكون ملحقاً بكتاب «أخبار الحمقى والمغفّلين» !

(1) وهو يشبه من هذه الحيثية تسليط الثابت من المعلومات التاريخية على الرواية حين الشك فيها؛ فاستعمال ميزان التاريخ في محاكمة الرواة أمر معلوم، ينظر له بتفصيل:«منهج النقد عند المحدثين» للدكتور محمد مصطفى الأعظمي (ص 50-79) ، و «نقد الحديث بالعَرْض على الوقائع والمعلومات التاريخية» للدكتور سلطان العكايلة.

ص: 759

ولا بُدّ بهذا الصدد من التذكير بـ (ضرورة إثبات صحة الواقعة التاريخية إثباتاً يقينيّاً جازماً)، «وذلك يعني: اتفاق المؤرخين الثقات على الواقعة التاريخية» (1) ، ولو توافقت الواقعات، أو تشابهت، فلا بُدّ من التروِّي وعدم التسرع في الإسقاط، حتى يتبرهن عنده شدة الانطباق، ويزول الشك، ولقد سبق القول مني: إنّ الإسقاط اجتهاد، وقد تختلف وجهات الأنظار، وهذا ما نجده في كتب الشروح.

ومما ينبغي التركيز عليه هنا: إنّ إسقاط النصوص على وقائع متخيَّلةٍ، غير واقعة بعد، لا يمتّ بصلة إلى منهج علمي مطرد، وإنما هي أشياء تنقدح في أذهان البشر، وتجري على أفهامهم، والخطأ فيها أكثر من الصواب.

وأزيد الأمر وضوحاً؛ فأقول:

في النفس قوة تحفظ الأشياء بعد غيبتها، أو قبل وقوعها، وتجدد إحساس الإنسان للصور المودعة في هذه القوة، تسمى تصوراً أو تخيّلاً.

وللتخيل أسباب، وأكثر هذه الأسباب عملاً في النفوس: المماثلة (أنْ يكون بين الشيئين تشابه في بعض الوجوه المحسوسة أو المعقولة) ، ويليه التضاد (أنْ يتنافى الشيئان بحيث لا يجتمعان في محل) ، ثم (الوحدة المكانية، والوحدة الزمانية) .

والوحدة الزمانية: أنْ تحس الشيئين في زمن واحد؛ فإذا وقع بصر الإنسان على شيئين في وقت واحد، ثم رأى أحدهما بَعدُ؛ تذكَّرَ الآخرَ، بل إذا حدّثَ عن شخصين في وقت واحد حتى ارتسم لكل منهما صورةٌ في قوته الحافظة، ثم رأى أحدهما، أو جرى ذكرُه في المجلس، حضر في ذهنه صورة الشخص الآخر.

ص: 760

ويدخل في هذا الباب تذكر الأسباب عند ذكر مسبباتها، أو تذكر المسببات عند ذكر أسبابها؛ كتذكر النار عند ذكر الحرارة أو الدخان، وتذكر الأجنحة عند ذكر الطيران، وتذكر الأمة وسعادتها عندما يطرق سمعك كلمة الاستقلال، ولهذا عد علماء البلاغة من علاقات المجاز السببية والمسببية.

وتسلسل الأفكار يتكون من هذه الروابط؛ ذلك أنك تنتقل من صورة أمر إلى صورة آخر، ومن هذه الصورة إلى غيرها، وهكذا يذهب بك التخيل من الأمر إلى ما يناسبه، حتى تضع سلسلة حلقاتها تلك الصورة المماثلة، أو المتضادة، أو المحسوسة في زمان أو مكان واحد.

فالفكر يتسلسل بحسب المناسبة بين الصورة وما يقع الانتقال منها إليها، وقد يتحد الشخصان في بعض حلقات التفكير؛ لتوافقهما في أسباب ارتباط هذه الحلقات، ثم يفترقان في غيرها من الحلقات، فتضع مخيلة كل منهما سلسلة غير السلسلة التي تضعها مخيلة الآخر.

وتسلسل الأفكار يكون على قدر ما تحتويه الحافظة من صور الأشياء، فأفكار البدو لا يطول تسلسلها؛ لعدم كثرة ما تحتويه حافظته من الصور، بخلاف الناشئ أو المتردد على مدينة امتلأت بمظاهر العمران والزينة؛ فإنه يطول تسلسل أفكاره، وتجد مخيلته صارت بعيدة المدى؛ فالناس يتفاضلون في التخيل على قدر تفاوتهم فيما وقع إلى قواهم الحافظة من الصور، ويتفاضلون في التخيل -أيضاً- من جهة قوة الانتباه لما بين الأشياء من المناسبات.

وقد يكون بين الشيئين ما يقتضي اقترانهما في الذهن، ولكن النفس قد تُحسُّ أحدَهما ويشغلها عن الانتقال إلى الأمر الآخر ما في ذلك الأمر الذي أحسَّتْه من معنى يجلب اهتماماً شديداً، وتأثراً بالغاً.

ثم إنّ المخيلة قد تنتقل من صورة إلى أخرى من غير قصد إلى غرض، ومن غير أنْ تكون تحت رعاية العقل؛ فتسمى مخيلة آلية، وقد يكون انتقالها

ص: 761

صادراً عن إرادة ومحاطاً بانتباه، وهذا قد يكون الغرض منه الوصول إلى إدراك حقيقة؛ فتسمى مخيلة علمية، وقد يكون الغرض منه الوصول إلى تأليف صور من المعاني جديدة؛ فتسمى مخيلة إبداعية.

فالمخيلة الآلية هي التي تسير دون قصد إلىجهة خاصة أو غرض معين؛ كأن يحصل للإنسان استغراق في التخيل، ويذهب متنقلاً من معنى إلى آخر، ويجول في جملة من صور الأشياء التي عرفها في الماضي من غير انتظام ولا قصد إلى استنتاج.

ومن المرائي المنامية ما يرجع إلى عمل هذه المخيلة، حيث يزول الانتباه ولا يبقى للإرادة سلطان؛ فتجري المخيلة طَلِقةً من غير عنان، فتعرض على النفس صوراً غريبةً، أو لذيذةً، أو مؤلمة، ومن المرائي ما هو إلهام إلهي، كما ثبت في نصوص الشريعة القاطعة، ودلت عليه التجارب الصحيحة.

والمخيلة العلمية هي التي تتوجه بإرادة صاحبها، وتعمل تحت مراقبة قوته العاقلة، فتنتقل من صورة إلى أخرى تناسبها، حتى تجتمع في الذهن صور يحصل من ترتيبها -على قانون المنطق إدراك- حقيقة كانت خافية، ويقول المتحدثون عن العالم «نيوتن» : إنّ مخيلته العلمية قد انتقلت به

من مشاهدة تفاحة سقطت على الأرض وانساقت به إلى النظر في قانون الجاذبية.

والمخيلة الإبداعية يتمكن بها الشخص من إحداث صور غريبة؛ إمّا محسوسة -كما يفعل الصانع الماهر-، أو معنوية -كما يفعل الشاعر المجيد-، فالصانع يفسح المجال لمخيلته فتنطلق في صور ما شاهده من الأشياء، ويساعده ذوقه على أنْ ينتقي من تلك الصور ما يركب منه صورة جديدة (1) .

(1) انظر: «رسائل الإصلاح» للشيخ محمد الخضر حسين (2/30-34)(قوة التخيل وأثرها في العلم والشعر والصناعة والتربية) ، فما ذكرناه سابقاً مأخوذ منه باختصار.

ص: 762

وكذلك حصل مع هؤلاء الخائضين؛ فإنهم بعثوا مخيلتهم، وأطلقوا لها العنان، وما زالت تقع على تصور بعد آخر من الحوادث، حتى اجتمعت عندهم ما مكّنهم من تركيب مسلسل لا عهد لأحد به من قبل.

واجتمعت عندهم جميع أنواع المخيلات السابقة: العلمية؛ إذ راحوا يستدلون ويبحثون وينظرون ويوثقون من غير منهج، وبطريقة غريبة لا علمية، وإبداعية بإسقاط ما حصلوا عليه من أحاديث وأخبار في زعمهم على أحداث وأشخاص، وآلية سارت بهم إلى جهة خاصة، وغرض معين، ولكن بقصدٍ، بحكم التداخل الحاصل.

وهذا يؤكد ما قدّمناه من أنّ الإسقاط القائم على التصور هو من (ملح العلم) ، إذ هو غير محكوم بقواعد مطردة، ولا هي ثابتة ولا عامة.

ويؤكد -أيضاً- الخلاف الجذري بين هؤلاء الخائضين في بعض الإسقاطات؛ مثل: شخصية السفياني، وكذا في تحديد كثير من الأوقات؛ مثل: وقت ظهور المهدي، وانتهاء دولة اليهود.

ولا بُدّ -من جهة أخرى- من مراعاة التطابق والتشابه بين فريق من هؤلاء الخائضين (1) ، ولا يعود هذا إلى كون ما بحثوه من (صلب العلم) ، وتوفر خصائصه في أبحاثهم، لا واللهِ! وإنّما لأسباب أخرى؛ مِن أهمها:

1-

الذين أشغلوا الناس، وأثاروا الضجيج في الإسقاط نفر يسير، لا يتجازون عدد أصابع اليد الواحدة.

2-

أنّ اللاحق يتبع السابق.

(1) في بلادنا واحد من هؤلاء، لا همَّ له في الآونة الأخيرة إلا تهيئة المناخ لخروج (المهدي) ، ويقسم في خطبه أيماناً مغلظة أنّ خروجه سيكون قبل عشر سنوات، ثم نقصت المدة، وبدّل اليمين بطلاق زوجته، ثم غيَّره إلى حلق شاربه، ولله في خلقه شؤون!

ص: 763

3-

التواطؤ المسبق بينهم (1) ، مما يثير الريبة في صنيعهم، ولا سيما عند تكرار الكذبات التي لا نصيب لها من الصحة بمعايير النقد.

4-

الهمُّ في كثير من هذه الدراسات الربح المادي، والسبق الصحفي، ولذا أخذ بعضها من بعض، بل صرح بعضهم أنه حصل اعتداء وسرقة على كتبه، وصرح بأنه مختَرِع وله سبْقٌ في هذا الباب (2) !

5-

جُلُّ الخائضين من بلدة واحدة -وهي: مصر-، وظهرت تخرصاتهم في أوقات متقاربة حول أحداث متلاحقة محورها (العراق) ، وما عداها فيخص (فلسطين) والغاصبين لها، وبعضهم ربط بينهما، وزاد آخرون المهديَّ وصلتَه بما يجري، وأضاف بعضهم عنصراً آخر، وهو تأريخ زوال دولة (يهود)(3) !!

وإذا استعمل المحدِّثون قديماً المعلومات التاريخية الثابتة مقياساً لتمييز المقبول من المردود من الروايات؛ فإنّ هذا يفيدنا جدّاً في محاكمة نفرٍ من هؤلاء الخائضين العابثين، الذين قرروا وقوع أحداث، وعيَّنوا لها تأريخاً من عند أنفسهم، وجاء وقتها، وتبرهن عدم وقوعها (4) ، وأسقط هؤلاء أنفسهم

(1) على المسلم الفطن أن يعلم في الحقبة الزمنية الحرجة التي يعيش فيها، أنّ له عدوّاً في الملّة والنّحلة، وأنه يكيد له في الخفاء، وصدور هذا الكيد أمر ضروري التصور، محتوم الوقوع، ما لم يكن للأمة المسلمة الوسائل الكافية التي تأمن بها -بعد الله- الوقوع في الأحبولة، وليس من الضروري أنْ نعلم كيف يكيدون في الخفاء!! المهم أنْ لا نكون (الأضحية) ! ولا (الفريسة) !! ولا (أداة الكيد) !!! ونحن لا نشعر.

(2)

انظر عبارته بالحرف (ص 640، 708) .

(3)

ظهرت في الآونة الأخيرة دراسات كثيرة في هذا الموضوع، تدلل على مدى القهر في نفوس الصادقين، فراحوا يبحثون عن تنفيس، فخرجت معهم بتقميش، حتى ولو من كلام العجائز من اليهود!

(4)

علماً بأنهم لا يد لهم في تكوينها أو تعديلها أو التغيير فيها، ولا يتصور ذلك، وتلعب المعاينة والمشاهدة دوراً أساسيّاً في تقويم ما قالوه، ولا مجال بعد ذلك إلا صدقها أو كذبها، =

ص: 764

والناس في فتنة، وازدادت أتونها بعدم وجود ضوابط ومعالم كليّة للتعامل مع أحاديث الفتن وأشراط الساعة عند الخاصة فضلاً عن العامة، ويا للأسف! لم تظهر هذه الضوابط -أيضاً- على صفحات كثير من الردود التي تصدّت لهؤلاء الخائضين، وكان القارئ لها بتمعن يخرج منها وقد ظهر له الكذب الذي فيها (1) ، دون تحصيله لضوابط علمية، وهذه الضوابط -بالجملة- موجودة في تطبيقات علمائنا الثقات الربانيين، وهي متفرعة عن أصول الأقدمين العلمية المنهجيّة، ولكنها مبعثرة في كتبهم، وليست حاكمة على جميع أجزاء الأحداث المستقبليَّة، وتسلل الخائضون بغفلةِ أهل المراقبة والتقويم إلى مساحاتٍ الأضواءُ فيها خافتة، والجهودُ غير مركّزة، وكان عندهم شَرَهٌ في التقميش دون التفتيش، ووجدوا بغيتهم في الانتقاء من ركامٍ كثير، ومزجوه بتصريحات الساسة، وما هو متداول في وسائل الإعلام، ومع تأزّم الأحداث صنعت (سيناريو)(2)

لها، وشارك هؤلاء -بقصد أو دون قصد- فيها، وانتهت الأحداث (3) ، وأسقطت غربال النقد عنها (4) ، وأسهم ذلك عن ضرورة

= ورجل يجعل نفسه عرضة لميدان الكذب؛ جريء على الغيب، قليل التوفيق، بعيد عن منهجية العلم وطريق العلماء.

(1)

إذا كان طالب علمٍ، أمّا إنْ كان من العوام، فلعله يناطح وينافح ويدافع! بترّهات وجعاجع!

(2)

هكذا وقعت هذه الكلمة (سيناريو) عند (أمين) في «هرمجدون» (ص 66)، قال: «وهنا قد يحدث أحد (السناريوهات) الآتية حتى تقع واقعة هرمجدون

» ،. وقال (ص 67) : «وفي كل الأحوال وعلى كل (السناريوهات) سيستعين الروم بالمسلمين

» ، وقال في الصفحة نفسها:«ولن أجهد نفسي في توقع (سناريوهات) أخرى» و «هو يقطع علينا كل استرسال في التوقع والتصور، ووضع (السناريوهات) المحتملة» .

(3)

التي خاض فيها العابثون، وإلا فمن (العراق) تُهيَّج (الفتن) -كما قدمناه-، اللهم لطفك وحنانيك بالمسلمين عامة، وبدار التوحيد والخير منها خاصة، اللهم احفظها من كيد الكائدين، ونجِّها من مؤامراتهم وتخطيطاتهم.

(4)

إذ ظهر للعيان كذب ما حددوه وعيّنوه، واشتركت الحواس العديدة من البصر =

ص: 765

تقويم الدراسات التي ظهرت، ولا شك أن الأخطاء المنهجية فيها قد أثقلت العبء على الصادقين في ضرورة ترسّم المعالم التي تضبط السير في المهيع الصحيح.

وسبق أن ذكرتُ شيئاً من هذه الضوابط، وأذكر هنا بعض المعالم التي تزيد الأمر وضوحاً؛ فأقول:

مما ينبغي أنْ يُعلم بهذا الصدد:

1-

إنّ الإسقاط أمرٌ يمكن القول به، وتقرير صحته، ولكنا من خلال تتبع وقوعه عند العلماء نجدهم يقولون به -في الغالب- من غير جزم ويقين، وإنما على وجه الظن والتّخمين.

2-

إنّ عباراتهم ليس فيها إلزام أنّ النص لا يحتمل إلا هذه الحادثة، ولا اعتبروا مخالفيهم مخالفين للدين، بل غايته أنه معنًى انقدح في نفوسهم، وعرضوه على ما عندهم من علمٍ، وما في مخيلاتهم من أحداث، فوجدوه حقّاً وصدقاً، فذكروه على هذا الوجه، وعرضوه على أنه معنًى محتمل لاحَ لهم، وخيَّروا الواقفين عليه بين القبول والردّ، وعلى تتابع الزمان، وكثرة النظر فيه بإمعان، من قِبَلِ أهل الشأن، يتمحص الحقّ، ويظهر الخير، ويزول الشرّ.

3-

لم يقم في تصوّر علمائنا الأقدمين ألبتة أنهم ملزمون بإجراء هذا الإسقاط (1) !

= والسمع واللمس في ضبط ما وقع على عكس ما زعموه، وهذا أقوى بألف مرّة من أخبارٍ وُظّفت على جهة تنقصها الدقة والأمانة والنزاهة!

(1)

وإلا لكثر ذكره، واشتهر التمثيل عليه، والأمر ليس كذلك، ويمكننا القول: إنّ هذا النوع من الإسقاط لم يكن مقصوداً عندهم بالتأليف، ولا يعرف له عندهم تأصيل، وإنما مجرد تمثيل، ويقع لهم عَرَضاً، ويأتون به ضمن شروحاتهم للأحاديث، بخلاف بعض المعاصرين حديثاً، فقد خاضوا وأكثروا بجرأة، وخبطوا وخلطوا بقحّة!

ص: 766

4-

لقلّة التوفيق في هذا الإسقاط، ولكون هذا النوع (الإسقاط) من (الملح)(1) لا من (الصلب) ؛ لم نجد عنايةً متميزةً به من حيث ذكر الضوابط (2) ، ولكثرة عبث الخائضين فيه أخيراً؛ ارتفعت أصوات بعض المعاصرين (3) من المخلصين بذمه، وضرورة نبذه وهجره، وتجد -بالتتبع- في كلام الأقدمين استعماله بقدره، وهذا حق، وهذا حق؛ إنْ رُوعيت الشروط والضوابط، وجوداً وعدماً.

5-

من نافلة القول: إنّ عدم توفر شروط تنزيل النص على حادثة ومحل في الواقع؛ لا يفهم منه البطلان والضعف (4) .

(1) من دقّة صنيع الشاطبي في «الموافقات» (1/113) ، أنه ذكر تسعة أمثلة على (الملح)، وقال:

«فهذه أمثلة تُرشد الناظر إلى ما وراءها، حتى يكون على بيِّنةٍ فيما يأتي من العلوم وَيَذَر؛ فإنَّ كثيراً منها يستفزُّ الناظرَ استحسانُها ببادئ الرأي، فيقطع فيها عمره، وليس وراءها ما يتخذه معتمداً في عمل ولا في اعتقاد، فيخيبُ في طلب العلم سعيُه، والله الواقي» .

قلتُ: فإلحاق هذا النوع بـ (الملح) -إنْ أصبتُ فيه- فهو بناءً على تأصيل الشاطبي وتقريره، وهو من ثمراته، ومن بركة العلم عزوه إلى قائله، والله الهادي.

(2)

لا القواعد، فتأمّل!

(3)

انظر ما قدمناه قريباً.

(4)

هذه النقطة هي عقدة (العقلانيين) في التعامل مع (أحاديث الفتن) ، والتفصيل فيها لا يحتمله المقام، ووجدت رسالة مطبوعة بعنوان:«العقلانيون ومشكلتهم مع أحاديث الفتن» جيدة في الجملة، وعليها مؤاخذة منهجية؛ إذ تورط صاحبها في الإسقاط، فها هو يقرر فيها (ص 7) أن (فتنة الدهيماء) الواردة في حديث صحيح هي: «وقف الكمبيوتر فجأة، والناس يعودون إلى مئة عام إلى الوراء، لكن الفرق هنا أشد، حتى سقوط الحكومات لهذه الفاجعة المذهلة، سيعيث الفساد في الأرض، وتكون الدنيا في ظلام، لا كهرباء، ولا مواصلات، ولا أمن، والقوي سيأكل الضعيف

-بلا شك-؛ بحثاً عن الطعام أولاً، والأموال ثانياً، وهذا في أنحاء الأرض كلها، حيث يوجد أفراد الأمة الإسلامية» ، قال:«وهذا أنسب تفسير لهذا الحديث، نسأل الله العافية» !

قلتُ: أقام هذا التفسير بناء على ما شاع في فترة ما قبل سنة (2000) ميلادية من وجود =

ص: 767

6-

إنّ الجزم بعدم وقوع الحادثة الواردة في النَّص (1) -بعد- أمر

= مشكلة الصفر في الكمبيوتر، ولا أدري ما العلاقة بين هذا -الذي ظهر خطؤه- والوارد في الحديث؟! (نسأل الله العافية) !

وهذا الإسقاط يذكرني بغلوّ العقلانيين في استخراجهم الحقائق العلمية من القرآن الكريم والحديث النبوي، وهذه الظاهرة شبيهة بالظاهرة التي نحن بصدد علاجها من بعض الأوجه:

1-

كل من النوعين يدفع الخطر عن كون الدين ليس مُنزّلاً من عند الله رب العالمين؛ فما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم وسيقع، وما أثبته العلم مما جاء في القرآن -على زعم هؤلاء وأولئك- يؤكد لهم أنّ القرآن والسنة حق من عند الله عز وجل.

2-

جُلُّ الباحثين في هذا المضمار أو ذاك على وجه تفصيلي إسقاطي من غير العلماء المتخصصين في علوم الشريعة.

3-

يكثر الخطأ عند الفريقين بغلوّهم وكثرة إسقاطهم مع عجلة وتهوّر، ويتبرهن الخطأ على ذلك بمضيّ الزمان، ويكون على وجه ظاهراً للعيان، بعيداً عن قواعد العلماء، إذ كلاهما محلّه (الملح) لا (الصلب) ! والخطأ في هذا النوع يُتندّر به، و (مضروب به الطبل) ، ومضت أمثلة من كتب شاعت وذاعت، وأقبل عليها -في فترة الفتن العاصفات- أُلوف، وهي اليوم عند المنصفين أقرب إلى الخيالات والعبث، وإن احمرت أُنوف!

وصنيع هؤلاء شبيه بما حكاه الشاطبي في «الموافقات» (2/127 - بتحقيقي) : «إنّ كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدَّ، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدّمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات، والتعاليم والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها» .

قلتُ: وهكذا يقال في الخائضين في الفتن والملاحم من القصاصين قديماً ومن لفَّ لفَّهم حديثاً.

4-

هذان النوعان قد يصدق الخائضون فيهما قليلاً، وقد يكشف مضي الزمان على صدق تقريرهما، ولكن -على التحقيق- لا يكون للنص صلة بهما؛ فقد يفصل باحثٌ الكلام على نظرية ويكون الكلام حقّاً، ولكن النزاع معه في إسقاطها على النص، وهكذا في الوقائع؛ فإنه لا تناقض بين العلم والدين، ولا بين النصوص وما سيكون بقدرة الله عز وجل، ولكن أن يقال: إنّ الآية كذا، أو الحديث كذا، هو المراد بهذا الإعجاز، أو تلك الحادثة؛ فهذا أمر لا يُقبل إلا من أهل العلم وبالمنهجية العلمية.

(1)

تقسيم أشراط الساعة إلى صغرى ووسطى وكبرى غير دقيق -في نظري-؛ إذ =

ص: 768

مستقيم، كثير الوجود عند علمائنا، ومثله نفي تنزيل حديث ما على واقعة ما (1) .

7-

تنزيل أكثر من حادثة على نص واحد أمر موجود في كلام الشراح، ويبقى الأمر في عداد الاحتمال، ما لم تظهر أمارة لائحة على تحديد المراد، ومثاله ما قدمناه من أقوال الشراح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «منعت العراق

» الحديث.

8-

يمكن أنْ يستفاد مِن الوقائع الحادثة، ولا سيما تلك التي لم يكن لها شبيه عند السلف في توسيع مدلول النصوص، مع ضرورة مراعاة عدم التعسف ولا التكلف في ذلك، وضرورة عدم قصر النص على هذا المدلول (2) ، فضلاً عن حصره في واقعة معينة؛ قابلة للخطإ والصواب، والتعديل والتبديل (3) ؛ فإنّ بعض المتعجلين يسارعون إلى المطابقة على حوادث محصورة محدودة، بقصد بيان ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم من تنبؤات! فيرغمون النصوص على أنْ تحمل معاني وتأويلات بعيدة عن مدلولها، ولا

= الصغرى اليوم قد تكون الوسطى أمس، وهكذا، وعجلة الزمان تدور، وتقسيمها إلى ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم ووقع، وما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم ووقع شطره، وينتظر وقوع الشطر الآخر منه، وما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم ولم يقع، أدق وأحسن، وهو الذي مشى عليه ابن كثير في «الفتن والملاحم» وغيرُه.

(1)

الأمثلة على ذلك كثيرة؛ منها:

عن عوف بن مالك -في طاعون عمواس-: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اعدد ستّاً بين يدي الساعة

» الحديث، وأصله عند البخاري، قال: فقد وقع منهن ثلاث (يعني: موته صلى الله عليه وسلم، وفتح بيت المقدس، والطاعون)، قال: وبقي ثلاث، فقال له معاذ: إنّ لها أمداً. هذه رواية الحاكم، وقال ابن حجر في «بذل الماعون» (ص 132) :«وقد وقعت إفاضة المال في زمن عثمان رضي الله عنه، والفتنة العظمى بقتله، والسادسة لم تقع إلى الآن» . وانظر: «فتح الباري» (6/278-279) .

(2)

بل فيه ما قد يشير إليه فحسب!

(3)

كما وقع للمتتبع للكتب التي ظهرت حديثاً! وعالجت المستجدات من غير أصول علمية!

ص: 769

يفهمها العرب ألبتة، ولا يمكن أن تجتمع العقول الصحيحة ولا الأفهام السليمة التي تعرف الدلالات الشرعية عليها!

وأرى أنّ هذه النقطة تحتاج إلى مزيد تجلية (1) ؛ فأقول:

إنّ الذي أراه سائغاً؛ أنْ تكون العلاقة بين بعض (النصوص) وما (يستجدُّ من أحداث) علاقة أمر كلي: (النص)، بأمر آخر جزئي:(الحدث) ؛ بمعنى: أنّ النص كلي في مضامينه، ولكن ما استجد من نوازل ارتبط بأمر جزئي في مضامينه؛ بمعنى: أنه ما كان ورود النص يتوقف على وجود هذا الحدث الجزئي، وهذه الوجهة تختلف تماماً عن وجهة أولئك الخائضين المطابقين بين (النص) و (الحدث) ، الزاعمين أنّ ورود النص أصالة جاء لهذا الحدث، محصوراً فيه، غير متجاوز إيّاه (2) .

ولا يخفى أنّ الذي ذهبنا إليه، يجعل النص متعالياً على الأشخاص، والزمان، والمكان، ويجعل الحدث داخلاً ضمن المضامين الكلية، والمعاني العامة الشاملة لمفردات كثيرة، وحوادث غير متناهية، يمكن أنْ تنطبق عليها النصوص.

فمثلاً؛ أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن (الهرج) في آخر الزمان، فلو رحنا نعدد الوقائع التي يشملها النص، لوجدناها كثيرة، وكلها داخلة في مضامينه الكلية، وأما أنْ يزعم شخص ما أنَّ هذا (الهرج) هو واقعة معينة، يحصره فيها،

(1) إذ التفريق بين (السائغ) و (الممنوع) غير واضح في أذهان الخائضين، ومزجوا بين الأمرين، وخرجوا علينا بنتائج لم يسبقوا إليها، بل بطريقة (مبتدعة) من الجمع والتقميش.

(2)

ونردد مع صاحب «فقه التدين فهماً وتنزيلاً» (1/98) قوله -وإنْ كان وضعه في غير هذا المكان- أنّ عند هؤلاء «نزعة نلحظ فيها رواجاً لدى مَن يرومون المروق من بدء الاستمرارية في الهدي النبوي، حيث جنحوا إلى تخصيص الكثير من أحكام الوحي بأسبابها الظرفية» ، قال:«ومن البيِّن أنّ هذه النزعة كفيلة بأنْ تهدم الدّين أصلاً، وحيث تنتهي به إلى وضع من التاريخية ينقطع به عن الحياة، ويؤول به إلى العطالة الكاملة» .

ص: 770

ويطابقه عليها، من غير قرائن معيّنة لهذه الواقعة؛ فهذا أمر بعيد عن الموضوعية والعلمية، فإنّ النصوص فوق ذات التاريخ، ولا تخضع لما تخضع له الأسباب التاريخية؛ من النسبية والجزئية الحقيقية، وإلاّ لانتهى بنا الأمر إلى إلغاء النصوص باعتبار أنها وقعت وانتهت، ويتوقف إدراكها إدراكاً حسناً على ما يستجد من أحداث، ولعلها تكون في يوم من الأيام أدوات معينات ومساعدات مهمات على حسن فهم النص، وإدراك مراميه وأبعاده.

ويعجبني كلام ابن عقيل الظاهري (1) ، ظفرت به بعد تدوين هذه السطور (1)، قال: «أنه سيكون للأمة تمكين وقوة قبل أوان الملاحم التي يتعجل محاضرو الأشرطة بربطها بأحداث جزئية في الرقعة، مع أنّ سياق تلك الأحاديث بخلاف واقع الأحداث الجزئية.

قال أبو عبد الرحمن: ومع الحذر من حمل أحاديث الملاحم على الأحداث الجزئية في مثل الوضعية التي ذكرتها؛ فهذا لا يعني إلغاء الدلالة إذا وجدت.

ألا ترون كثرة القتل في الأمة بأيدي المضلين من أبناء جلدتنا باسم الثورة الانقلابية، أو الثورة التصحيحية، أو القانون العلماني، أو الهمجي كقانون العقوبات الذي يذبح به (صدام حسين) أبناء الأمة» .

9-

ينبغي أن يكون في الحسبان أنّ الحوادث التي نعيش؛ لا تعد شيئاً مذكوراً بالنسبة إلى ما مضى، وما سيأتي، ولعل هذا يعطينا الأمان في التمهل والتروِّي.

(1) وهو يلتقي مع ما زبرناه، وكلامه في كتابه الجيد «التفريغ أولاً.. والتغيير ثانياً، أو الهوية العربية بين زوابع الابتلاء» (ص 122-123) ، والكتاب دراسة تأصيلية لحزب البعث وأطروحاته، وبيان مزالقها وخطورتها، بتتبع جيد لكلام رؤسائه ومؤسسيه، والمروّجين له من الأدباء والشعراء.

ص: 771

10-

ينبغي عدم الخلط -ولا سيما في وقت الفتن والأزمات- بين النص الذي فيه عصمة، وهو ثابت النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند المحققين من المحدثين، وغيره مما اعتراه تغيير أو تحريف من كتب الديانات الأُخرى، فضلاً عن الكتب المفتراة على آل البيت، أو كتب التنبؤات، وهي أشبه بكلام الكهنة والمشعوذين، وتأتيهم به الشياطين، وهم «ليسوا بشيء» (1) .

والعجب من صنيع الخائضين أخيراً، فيا ليتهم اقتصروا على الخلط المذكور، ولكنهم زادوا إليه تصريحات بعض الساسة في الغرب أو في الشرق، وكلام بعض الصحفيين، ونزعوا منه -وهو كثير قليل البركة (2) - ما تخيّلوه، ووجدوا ضالتهم فيه مجموعاً! ولو أنهم تثبتوا، ولم يخلطوا، لأراحوا واستراحوا.

11-

الواجب عند الإسقاط فحص الأحداث وسبرها مع ما يحتف بها من أمور، وليس الفحص فقط لصحة وقوعها، وإنما يشمله -أيضاً- معرفة الوقائع السابقة والمجريات المشابهة، وسنن الله الجارية في الكون، وألمح ابن خلدون إلى ذلك بقوله:

«إنّ الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران، والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق، وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم على مجرد النقل؛ غثّاً أو

(1) ثبت في «صحيح البخاري» (رقم 5762) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ناسٌ عن الكهان؟ فقال: «ليس بشيء» ، فقالوا: يا رسول الله! إنهم يحدّثونا أحياناً بشيء فيكون حقّاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تلك الكلمة من الحقّ يخطفها من الجني فيقرها في أُذن وليّه، فيخلطون معها مئة كذبة» .

(2)

عدا الذي فيه عصمة.

ص: 772

سميناً، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعايير الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار» (1) .

وهذا الكلام متين رزين، ومهم غاية، ويوظّفه المتبصّرون في الأزمات في كشف الانتحال والتهور والكذبات، والعمل على إبعاد الآفات والنكبات على شخوصهم ومجتمعاتهم قدر مكنتهم، والله الواقي من الشرور والمنكرات، والموفق والهادي للصالحات.

ويتأكد لك ما قلناه، وتتبرهن صحة دعواه بعرض ما سطرناه على ما في كتب الشروح حول (الهرج) -مثلاً- ومداه.

قال ابن بطال (المتوفى سنة 449هـ) في شرح ما أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الفتن (باب ظهور الفتن) ب (رقم 7061) بسنده إلى أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقَّى الشّح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج» :

«هذا كله إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بأشراط الساعة، وقد رأينا هذه الأشراط عياناً، وأدركناها؛ فقد نقص العلم، وظهر الجهل، وأُلقي الشح في القلوب، وعمّت الفتن، وكثر القتل» (2) .

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله (المتوفى سنة 852هـ) معلقاً على قول ابن بطال هذا:

«قلتُ: الذي يظهر أنّ الذي شاهده كان منه الكثير مع وجود مقابله،

ص: 773

والمراد من الحديث: استحكام ذلك حتى لا يبقى مما يقابله إلاّ النادر، وإليه الإشارة بالتعبير بقبض العلم فلا يبقى إلا الجهل الصرف، ولا يمنع من ذلك وجود طائفة من أهل العلم؛ لأنهم يكونون حينئذ مغمورين في أولئك

، وكذا القول في باقي الصفات، والواقع أنّ الصفات المذكورة وُجدت مباديها من عهد الصحابة، ثم صارت تكثر في بعض الأماكن دون بعض، وقد مضى من الوقت الذي قال فيه ابن بطال ما قال نحو ثلاث مئة وخمسين سنة، والصفات المذكورة في ازدياد في جميع البلاد، لكن يقل بعضها في بعض، ويكثر بعضها في بعض، وكلما مضت طبقة ظهر النقص الكثير في التي تليها، وإلى ذلك الإشارة بقوله في حديث الباب الذي بعده:«لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه» (1) » (2) .

وإذا كان الحافظ رحمه الله قد ذكر أنّ كلام ابن بطال -والمتضمن أنّ جميع الصفات المذكورة في هذا الحديث قد وقعت ورؤيت عياناً- قد مضى عليه نحواً من ثلاث مئة وخمسين سنة، ثم ذكر أنّ هذه الصفات في ازدياد، وذلك حسبما ظهر في عصره وازداد، فما بالك في عصرنا هذا المُحْزِن الذي تدمع له الأعين وتدمى له القلوب، وبينه وبين عصر ابن حجر مدة مديدة، وأزمنة بعيدة؛ فإنّ الحافظ رحمه الله قد توفي في منتصف القرن التاسع؛ وبالتحديد في سنة 852هـ، ونحن الآن في أواخر سنة 1424هـ، فتبين أنّ بين عصره رحمه الله وعصرنا بون شاسع، وفرق واسع، يقرب من نحو خمسة قرون ونصف القرن؛ وبالتحديد اثنتان وسبعون وخمس مئة سنة (572) ، والله المستعان، وعليه التكلان.

والشاهد من هذا: أنّ (الهرج) -على اختلاف الأمصار والأعصار-

(1) أخرجه البخاري في «صحيحه» في كتاب الفتن (باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه)(رقم 7068) .

(2)

«فتح الباري» (13/18-19) .

ص: 774

يشمله عموم الحديث، وليس محصوراً بواقعة معينة، وبهذه النظرة نحسن ربط ما توصّلنا إليه بخصائص النص الشرعي؛ من الإيجاز والإعجاز في أسلوبه، وما فيه من خاصية المرونة والسَّعة.

12-

لا بُدَّ من معرفة شخصية مَن يكتب في هذا الباب، وجمع المعلومات العلمية عنه، وعن كتبه، وإنْ كان المؤرّخون لا يثقون بالخبر إلا بتعيين شخص المؤلف الذي دوّن الواقعة، ويعتبرون ذلك من «إحدى أهم قواعد التحقيق العلمي الصحيح» (1) ، فلا جرم أن هذا الباب أولى بهذه العناية، ولا سيما أنَّا وجدنا أخباراً مختلقة، أو محرفة (2) ؛ صنعت -أو حُرِّفت- خصيصاً لهذا الإسقاط.

ويعجبني كلام لبعض المؤرخين المعاصرين، قال فيه:«إنّ قيمة المعلومات التي يوردها المؤلف ترتبط كل الارتباط بشخصيته، ومدى فهمه للحوادث، وبكل الظروف التي تحيط به على وجه العموم» (3) .

13-

وأخيراً

من الضرورة بمكان أنْ نتيقّن على أنّ الأحاديث الصحيحة في الفتن إنّما هي من الغيب الذي أطلعنا الله عليه، وبالتالي هي تتصف بصفة كونها من الله عز وجل، ومعنى أنّ هذا: إن الله عز وجل لمَّا أوحاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم «لم يكن غافلاً عما سيؤول إليه الأمر، وهو يورد جزءاً من نصٍّ كليٍّ يُمهِّد به إيراد جميع أجزاء النصّ في مرحلة معينة، وذلك لأنه لا يخفى عليه ما كان، وما يكون، وما سيكون، وليس ثمَّ صاحب نص يتصف بهذا الأمر، بل جُلُّ النصوص البشرية المصدر تأتي إما لوصف أمر

(1) انظر: «مناهج البحث وتحقيق التراث» (126-131، 142-143) لأكرم العمري، و «نقد الحديث بالعرض على الوقائع والمعلومات التاريخية» (ص 85) .

(2)

مضى التمثيل على ذلك فيما سبق.

(3)

«منهج البحث التاريخي» (ص 100) لحسن عثمان.

ص: 775

مضى، أو لوصف أمر قائم، أو استشراف أمر مستقبل، ولكنه لا يستطيع أنْ يأخذ في الاعتبار هذه الأمور الثلاثة في آنٍ واحد، ويتحقق كلها كما توقعها وافترضها.

وعليه؛ فإنَّ متفهّم النص الشرعي، ينبغي له أن يُراعي هذه الخاصية، وينظر في النصوص نظرةً موضوعيّة شموليّة تكامليّة؛ بحيث يفصِّل ما ورد مجملاً بما ورد مفصّلاً، ويخصّص ما ورد عامّاً بما ورد خاصّاً، ويحمل ما ورد مطلقاً على ما ورد مُقيّداً، وبهذا ينجو المرء من ضرب النصوص بعضها ببعض، ومن التعسف في فهم مقاصد الشريعة وراء التنجيم والتفاوت في التنزيل والورود» (1) .

ولو أنّ الخائضين المتعسفين انتبهوا إلى هذه الخاصية؛ لأقلعوا عن صنيعهم بالجملة، ولساروا في قافلة الخير؛ باتباعهم منهج العلماء، وطريقتهم في التعامل مع أحاديث الفتن، وشروحها، وربطها بما يجري من واقعات.

ولقد كنتُ -واللهِ- بصدد الإعراض عن الخوض والكلام في هذه المسألة؛ لأنّ متقدّمي علمائنا قد كفونا مؤنة الاستفادة من الأحاديث، والذي نحتاجه: أنْ نتبع طريقتهم، متيقنين أنّ عجلة الزمان تدور، والأحداث -سواء التي تشملها النصوص، أو التي تعنيها بخصوصها- لم تتوقف، ولكن الرغبة في أنْ لا ينخدع الناس بما جاء به الخائضون الجدد (2) ، والحرص على أنْ لا يفهم مَن يميل إليهم ممن غلبت عليهم العجمة؛ أنّ مجتهدي وعلماء هذه

(1)«في ضوابط منهجية للتعامل مع النص الشرعي» (ص 5) .

(2)

خاضوا في الكلام في الأحاديث دون أساس متين؛ لأنهم ليسوا ذوي أهلية، ولا كفاية، لا في الإثبات ولا في الاستنباط، فكان إثمهم أكبر من نفعهم، بل لا أكون مجاوزاً للحقيقة إنْ قلت: إنّ خوضهم أفضى بهم إلى مخالفة ما أجمع عليه المسلمون، وإلى إشاعة الفوضى في الاستدلال، ومسايرة الهوى باسم الشرع! ولعل بعضهم يستبين بما سطرناه أنه تحمس، ودوّن شيئاً مأخوذاً من غير أصل، ويقول لقارئيه -في صرامة! -: قد تعجلنا أو أخطأنا في الفهم، أو خرجنا على ما تقتضيه أصول العلم.

ص: 776

الأمة، وسلفها الصالح لم يلتفتوا إلى ما التفت هؤلاء إليه.

كل ذلك دعانا إلى العناية بهذه الضوابط والمعالم، وبيان وجه الصواب فيها، ومِن الله -سبحانه- العصمةُ والتوفيقُ.

«جعلنا الله ممن تكلّف الجهد في حِفظ السُّنن ونشرِها، وتمييزِ صحيحِها من سقيمها، والتّفقهِ فيها، والذَّبِّ عنها، إنّه المَانُّ على أوليائه بمنازل المقرّبين، والمتفضّلُ على أحبابه درجة الفائزين، والحمدُ لله رب العالمين» (1) .

ص: 777