الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشهادة (1) .
رابعاً: أن لا يؤثّر هذا الإسقاط، والترقّب الذي يترتب عليه، على أداء واجب الوقت
، وتكاليف الشرع (2) .
وهذا -مع الذي قبله- تحصيل حاصل، وثمرة حتمية لكون (الإسقاط) من (الملح) لا من (الصلب) ، ويتأكد (القيد الرابع) بحال الصحابة -رضوان الله عليهم-، وسيأتيك قريباً تحت عنوان (كيف ينبغي أن نفهم أحاديث الفتن؟) مزيد إيضاح وبيان.
وأما (القيد الثالث) فهو ثمرة لكون الإسقاط هو (تنزيل) ، كما ذكرناه عند الكلام على (تكييف الإسقاط) ، وبالتالي هو استنتاج قابل للخطأ والصواب، و «لأن أحاديث الفتن لا تحدد الزمان لخروجها، فلو حددت الأحاديث سنوات خروجها لما أصبحت فتناً، ولما وقع فيها الناس وامتحنوا، ولهذا فإن (الفتن) لا تُعرف إلا بعد حدوثها، أما خلال فترة الوقوع فلا يتم تميّزها ومعرفة حقيقتها؛ لهذا يقع الإنسان فيها من حيث لا يدري، ويتم امتحانه، وبالتالي تتحقق سنة الله التي جعلها غاية لوجود هذه الفتن» (3) .
خامساً: الذي يقوم بالإسقاط عالِم مشهود (4) له، إذ الإسقاط أدقّ تفسيرٍ وشرحٍ للنَّص، فهو حصرٌ لمعنىً في حادثة معيّنة، ولهذه الحادثة نظائر فيما مضى، وقد يتخلّف عنها وصف، أو ذكر زمان أو مكان، أو شخص له ذكر في النص؛ فالهجوم بمجرد المشابهة والتخيُّل دون التأنّي ليس من المنهج العلمي، ولا سيما أنّ الحوادث لا تنتهي!
(1)«المهدي وفقه أشراط الساعة» (ص 696) .
(2)
«المهدي وفقه أشراط الساعة» (ص 697) .
(3)
«مختارات من أحاديث الفتن» (ص 45) .
(4)
انظر ما سيأتي قريباً بخصوص صفاته.
وينبغي أنْ يراعي مَن يقوم بذلك: التزام التجرد والموضوعية في فهم النصوص؛ بمعنى: «يجب أنْ لا يخضع [النص] لأيّة مقررات سابقة، أو رواسب قديمة، أو مواقف ممهّدةٍ سلفاً، بل يجب أن ينطلق فهم هذا النص من النص نفسه، وينبغي أنْ يستمد أيُّ فهمٍ صلاحيتَه وسلامتَه من النظر الأمين فيه، وليس مقبولاً أنْ يكونَ فهمُ هذا النص أسيرَ المواقف والرواسب والمقررات السابقة القديمة؛ وذلك لأنّ الأفهامَ التي تنطلق في أساسها من مواقف موافقةٌ، أو مناوئةٌ، من النادر أنْ يُوفَّق إلى الوصول إلى المراد الإلهي من نصّه، بل كثيراً ما تتميز بالإسقاطات والتكلف، ولهذا فإنه لكي يسلم الاجتهاد في فهم النص الشرعي؛ فإنّ على المجتهد أنْ يلتزم بهذا الضابط المنهجي: التجرّد والموضوعيّة.
ومرادنا من (التجرد) : هو تخلي المجتهد عن جميع مقرراته السابقة، ومواقفه المتعددة، وتوجهُه إلى النص الشرعي بعقلية نزيهة، تهدف إلى التوصل إلى المراد الإلهي بغض النظر أن يكون ذلك المراد الذي سيتوصل إليه موافقاً لمقرراته السابقة، أو مناوئاً لها.
وأمّا مرادنا بـ (الموضوعية) : فهي تجرّد المجتهد مِن الذّاتية، ومِن التحيّز لآرائه السابقة، ومقرراته القديمة، وتميزه بالأمانة والاستقامة عند الاجتهاد في فهم نص من النصوص؛ بحيث يجعل التوصل إلى المراد الإلهي من نصه هدفه ومرماه في اجتهاده.
وتكمن أهمية هذا الضابط المنهجي في كونه الضابط المظلوم (1) ضمن ضوابط الاجتهاد في فهم النص المنهجية، إذ إنه كثيراً ما يُغْفَل، ويُهْمَل ولا يُذكرُ إلا نادراً، وبسبب إهماله شاع التفسير السياسيّ والمذهبيّ للنص الشرعي
(1) يمكن أن تعتبر الدراسات الحديثة التي فيها إسقاطات سخيفة؛ أنموذجاً بارزاً، ومَعْلماً ظاهراً لهذا الظلم، ويتبرهن لك ذلك بأمثلة مضت.
-قرآناً وحديثاً-، ولو استُحْضِر هذا الضَّابط المنهجي المهمّ عند الاجتهاد في فهم نص من نصوص الوحي -كتاباً وسنة-؛ لما انتشر بين المسلمين التفاسير الخادمة للتوجهات، والأفكار، والمذاهب، والمشارب
…
، بل إنّ أهمية هذا الضابط تتجلى أكثر في كونه المنهج الذي التزمه الأصحاب رضي الله عنهم عند تعاملهم مع النص الشرعي، ممّا جعل فهمهم له فهماً لا يُدارى، ولا يُضاهى؛ إذ كان الصحابي يبذل ما وَسِعَه من جهد في فهم النص الشرعي، دون أنْ يجعل مواقفه أو اتجاهه حاكماً على فهمه، بل كان النص الشرعي هو الذي يكوِّن له مواقفه، ومقرراته، وهو الذي على ضوئه يتخير مذهباً، أو ينتهج منهجاً معيَّناً (1) ، ولذلك سلم فهمُهُم لمراد الشارع من نصوصه، ولم يظهر في أيامهم ولا في تفاسيرهم أيُّ لون من ألوان التفسير السياسي، أو المذهبي للنص القرآني أو النبوي، وإنّما ظلّت أفهامُهم للآيات غيرَ متأثرةٍ بأيِّ موقف من المواقف المؤيدة أو المناوئة
…
وعليه؛ فإذا ما تجاوز المجتهد في اجتهاده هذا الضابط المنهجي، فحدِّثْ ولا حرج عن التأويلات الجائرة الخائرة في البُعْد عن مراد الشارع من نصوص وحيه -كتاباً وسنةً-، بل إنّ مجتهداً يأتي إلى النص الشرعي ورأسُه مليء بطائفة من التصورات والمواقف والمقررات والرواسب؛ فإن الفهم الذي يتوصل إليه لا يعدو سوى أنْ يكون جملة مِن تصوراته، أو طائفة مِن مقرراته، ولا يمكن أنْ يَهدِيَه ذلك الفهمُ إلى مراد الشارع جل جلاله.
إنَّ هذا الأمر مُشاهد على مستوى الكتب البشرية؛ نعني: أنه لو أنّ مؤلفاً نظر في كتاب -وفي خلده أفكارٌ، وتصوراتٌ مقررة- فإنّ فهمه لذلك الكتاب سيتأثر بطريقة مباشرة وغير مباشرة بأحكامه الأولية المقررة، وتصوراته الموجّهة لتفكيره ومنهجه، مما يُفقده القدرة على التوصل إلى حقائق ما يحمله
(1) هذا مرادنا من (استدل، ثم اعتقد) .
ذلك الكتاب. وهذا الأمر لا يختلف عليه اثنان، فما بالك لو كان ذلك النص الذي ينظر فيه الإنسان نصّاً شرعيّاً يتميز بأسلوب مرن يمكن للمرء أن يخضعه تعسفاً لمقرراته وتصوراته، ويمكن لغيره -هو الآخر- أنْ يجعله مؤيِّداً وسَنَداً لاتجاهاته وأفكاره.
لذا؛ فإنّنا نرى أنّه لا مَفَرَّ للمجتهد الذي يسعى إلى التوصل إلى حسن فهم الوحي -كتاباً وسنةً- من التقيد والالتزام بهذا الضابط المنهجي، ولا سبيل إلى الوصول إلى المراد الإلهي من النص سوى اتباع هذا الضابط، وسوى تجريد الفهم والاستنباطات من الذاتية، والتحيز، والاستدلالية، وبهذا وحده يجد المجتهد نصّاً قادراً على انتشال البشرية من براثن الضياع والتخلف، والأمراض الخلقية والنفسية، والأزمات الفكرية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية!
إنَّ غياب هذا الضابط في تعاملات كثير من متعصبي الفرق والمذاهب والاتجاهات مع النصوص الشرعية، أدَّى إلى استجرار النص الشرعي إلى جميع ساحات الصراع الفكرية والعلمية والسياسية
…
إلخ استجراراً تعسفيّاً لتأييد مذهبٍ، أو منهجٍ فكري، أو عقدي، أو فقهي، وما ذلك إلا بسبب عدم تجرد المتفهّم من الذاتية والتحيز والتعصب» (1) .
ويجد المتمعِّن في كثير من دراسات المعاصرين في إسقاط الأحاديث على الأحداث، أو على ما استجد من اختراعات؛ أنّ أصحابها ما استناروا بهذا الضابط المنهجي، ولم يجرِّدوا أنفسهم من صبواتهم ورغباتهم، ولذا نجدهم أخضعوا النصوص لتصورات ومُنْطَلَقات وأفكار وتخرّصات راجت في أوقاتهم بتأويل جائر خائر بائر حائر، خالفت المقاصدَ الشرعيّة الكليّة، والضوابط المنهجيّة للتعامل مع النص، ولم يحققوا الغاية المأمولة من تجسيد
(1)«في ضوابط منهجية للتعامل في النص الشرعي» (ص 33-34) .
معاني هذه النصوص بحسن تصوّر، وإنما كان ديدنهم وشعارهم إسقاطاً لشيء بيّتوه في أنفسهم في وقت صعب بتهوّر.
ومن الأهمية بمكان: أنْ يراعي المجتهدُ العدلَ في فهمه؛ بحيث يُبقي على مراتب النصوص كما وصلتنا، وأن يلحظ تعدد الأفهام والاجتهادات في تفسير النصوص التي ربّما قد تتدخل الظروف والبيئات في تكوينها وإفرازها، كما سبق بيانه.
«وبما أنّ الظروف والبيئات والحياة نفسها في تغيُّر مستمر، وتطوّر دائم، فإنه ليس من المقبول منهجيّاً إلباس فهم متأثر بظروفه وبيئته بلباس الديمومة، والعصمة، والأبدية، والحيلولة دون أي فهم آخر منبثق عن بيئة وظروف متغايرة، ومختلفة عن ظروف وبيئة الفهم الأول، ولن يكون للمرونة والسَّعة أيُّ معنًى إذا تحول النص الظنيُّ -بسبب اجتهادٍ- إلى نصّ قطعيٍّ في حق غير المجتهد
…
وبالمقابل ينبغي الإبقاء على النصوص القطعية قطعيّةً؛ فلا ينالها يد التغيير والتبديل فيتحول بسبب اجتهادٍ إلى نصوص ظنيّة، بعد أن كانت في أصلها نصوصاً قطعيةً.
والسبب في هذا هو أن القطعي من النصوص الشرعية ثابتٌ وغير متغير، ولا يحقُّ لسُنَّة التغيّر والتبدُّلِ والتّحوُّرِ والتطوُّر لأن تجري عليه؛ لأنه من وراء تلك السنة، وجيء به مخاطباً وراء البيئات والظروف والأحوال والعوائد، ولذلك لا يؤثر فيه أي من هذه الأمور، وإذا ما تعامل معه المجتهد مثل تعامله مع الظني من النصوص، فإن مآلَ ذلك إعادةُ النظر في جميع أحكام الدين، ونقضُه من أساسه، والانتهاءُ في نهاية المطاف إلى المروق من هذا الدين، وتبديله بشطحات العقول، وبائسات الأفكار والتأويلات الجائرة الحائرة الخائرة!
إنّ إدراك هذا الضابط المنهجي في فهم النص الشرعي ينبغي أنْ يقوم على إدراك البعد الزمنيّ للأفهام، والتمييز بين ما كان من الأفهام ظرفيّاً، وما
كان منها فوق ظرفيّ، وما لم يتمكن المجتهد من إدراك هذا الأمر؛ فإنّ اجتهاده يظل ذا صفة تخبطية غير موضوعيّة، ولا منهجيّة» (1) .
ونُقرر هنا بكل أريحية؛ أنّ كثيراً مِن الدراسات التي اعتنت أخيراً
…
-وسبق ذكرٌ لبعضها- في إسقاط الأحداث على الأحاديث -أو العكس- بعيدةٌ عن هذا الضابط: (الإبقاء على مراتب النصوص كما وصلتنا) ، ولذا وجدنا فيها تخبطاً ولا موضوعية، والأمثلة السابقة أكبر شاهد على ذلك، واللَّه الموفّق.
إذا عُلِمَ هذا؛ تقرر تعذُّر الرسم التفصيلي لمعرفة مجريات الأحداث آخر
(1)«في ضوابط منهجية للتعامل مع النص الشرعي» (ص 36) ، ومراعاة ما سبق تعصم المجتهد من تسليط سيف الإجماع على الآراء المخالفة، وتمنع من دعاوى غلق باب الاجتهاد والعكوف على آراء مذهبية والتعصب لها، والجمود في شروح أحاديث (الفتن) على كلام السابقين! وحصر الحق فيها!
ومما ينبغي أن يذكر هنا شبيه ونظير لما نحن بصدده، يظهر لنا من خلاله تأكيد المراد من سوق هذا الكلام هنا، وهو يتعلّق ببعض الأمكنة التي خصها الشرع بأحكام لا نزاع فيها؛ أعني: تخصيص قدر معين من الأرض المحيطة بالمسجدين: الحرام والنبوي، بأحكام لا تسري إلى ما جاورها، فهذا الظرف المكاني يشبه ما نحن بصدده من الظرف الزماني، فالكلام في هذا المقدار يدور مع التسليم، والتلقِّي، ويقول في هذا الفيروزآبادي في كتابه «المغانم المطابة في معالم طابة» (1/290-291) :
وهكذا يقال في أحاديث الفتن، فلا بد لنا من النصوص للتّسليم، بالمقدار والصفة التي وردت، دون تجاوز ذلك، والله الموفق.
الزمان، وبالتالي لا يمكن التخطيط وفق ما سيقع، إلا فلتات يكون لمن وصَفَهم حذيفة بـ:«قلوبهم من ذهب» (1) ، من غير إشغال الأمة بهذا، أو جعله من المسلَّمات (2) ! ومنه يُعلم غلوُّ جماعةٍ من الغيورين لَمّا راحوا يُقرِّرون ضرورة امتداد الاجتهاد إلى جميع مجالات الحياة، واستشراف المستقبل من خلالها (3)، وهذا أنموذج من ذلك:
يقول بعض الباحثين بعد إيراده مجموعة من أحاديث الفتن:
«فإنّي لم أرد فيما أوردت من أحاديث الفتن أنْ أستقصي أو أنْ أستوعب، وإنّما هي شذرات منها أردت أنْ أستثير بها همم القادرين من أهل العلم إلى الكتابة في فقه أحاديث الفتن، وتقديم دراسات تستخلص ما فيها من الدروس التي تناسب عصرنا.
لقد ألف كثير من العلماء عبر العصور في أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة، ولكن مجال فقهها ما يزال باباً مفتوحاً لكل مَن أوتي فهماً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبصيرةً في أحداث التاريخ والواقع.
لقد ربط ابن كثير في «البداية والنهاية» بين أحاديث الفتن، ولكنّه وقف في ذلك على عصره، وبقيت العصور التالية تنتظر من يربط بين أحداثها ونبوءات النبي صلى الله عليه وسلم.
ولعل قائلاً يقول: أيُّ فائدة ترجى من هذا العلم ونحن في عصر التخطيط والتنظيم الدقيق؟! أليس البحث في هذا نوعاً من الهروب من الواقع، أو الاستنامة على نبؤاتٍ، الله أعلم بها متى تقع؟!
(1) صحَّ ذلك عنه، وانظر تخريجه (ص 631) .
(2)
بل هو قابل للفحص من خلال الانتظار، والأخذِ بالأحكام الشرعية التي تخصّ النازلة.
(3)
انظر: «في الاجتهاد التنزيلي» (ص 14-15) ، وكلامه فيه أمر تصوّري محض!
وأقول: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يقل تلك الأحاديث عبثاً، ولم يُلحَّ في الحديث عن الفتن لتُسَوَّد بها صفحاتٌ من كتب الحديث، أو لتفرد في مؤلفات تُقرَأ للبركة، وتبين صدق نبوته عليه الصلاة والسلام-فحسب-!
وإنما قالها ليفقهها عنه المسلمون المعنيّون بها في كل عصر من العصور؛ أنَّها جزء من الرسالة التي حمَّلَها وأشهد عليها بقوله: «ألا هل بلغت؟» ، والمطلوب من المسلمين فهمها كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أنْ تُفهم، والعمل بالوصايا التي ضمّنها إيّاها.
إنّ كثيراً مِنَ الأحاديث إنّما هي أشبه بالرؤيا، ولا يفقه الرؤيا على حقيقتها إلا مَن آتاه الله علمَ تأويل الأحاديث، وهذا الصنف هو المرشح لدراسة هذه الأحاديث وفقه ما فيها، وبثّ هذا الفقه بين المسلمين لتؤتي ثمارها الطيبة بينهم، ويعرفوا مواطئ أقدامها، فيعرف المسلم متى يعتزل الناس، ويتبع بغنمه شعف الجبال ومواقع القطر؛ يفرّ بدينه من الفتن.
وعلينا أنْ نذكر أنه إذا كان بعض المسلمين ينعمون بدينهم، ولا يحول بينهم وبينه حائل، فكم من المسلمين في الأرض رفعت بينهم وبينه السدود، وحالت بينهم وبينه القيود، فأين فقه أحاديث الفتن الذي يستنيرون به؟
إنّ البحث في فقه أحاديث الفتن وأشراط الساعة لا يخص الفرد المسلم وحده، بل يمتد إلى الجماعات العاملة للإسلام؛ لتنظر في ضوئه في غاياتها ووسائلها، وأي عمل إسلاميّ لا يستنير بفقه أحاديث الفتن يظلّ -في رأيي- غائمَ الوجهة والأساليب، بل إنّ فقهَ أحاديث الفتن ضروريٌّ للدولة التي تلتزم بالإسلام، وقد مرّ بنا من قريبٍ الحديثُ الذي بين أنّ المسلمين في آخر الزمان يتحالفون مع الروم في قتال عدو مشترك، وإنّ مَن يفقه أحاديث الفتن يستطيع مِن خلال إدراكه لروح العصر أنْ يمتلك وعياً سياسيّاً يتنبأ به بما يخالف الرأي السائد.
وأضرب على ذلك مثلاً سمعته من أحد الثقات يحدّث عن رجل صالح كان في الأردن؛ هو الشيخ الدبّاغ، لقد كان هذا الشيخ يقول للناس -ويقسم-: إنّ بريطانيا وحلفاءَها سينتصرون في الحرب العالمية الثانية على ألمانيا! وكان الناس يعجبون من ذلك، بل لقد أسرّ إليه بعض المقربين أنّ الشكوك بدأت تحوم حوله.. بأنه يقوم بالدعاية لبريطانيا!!!
وقد بين الشيخ رحمه الله الأساس الذي بنى عليه يقينه؛ وهو أنه ربط بين حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بيّن أنّ المسلمين سيقاتلون اليهود قبل قيام الساعة، وبين أحداث عصره؛ فبريطانيا الدولة المنتدبة على فلسطين هي التي رعت فكرة قيام الدولة اليهودية منذ وعد بلفور، وما تلا ذلك من أحداث، ولن تقوم لليهود دولة إلا إذا انتصرت بريطانيا، ولو انتصرت ألمانيا لتبدد الحلم اليهودي في الدولة.
وقد كان ما فهمه الشيخ من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وفسّر به أحداث عصره، بل تنبأ بالشيء قبل أنْ يكون.
وأقول في ضوء هذا: إننا بحاجة إلى مراجعة واعية للأحاديث التي ذكرت كثرةَ الروم (أي: النصارى) في آخر الزمان، وقتال المسلمين لهم، ومواضعَ هذا القتال، ثم فتح القسطنطينية وروميّة، ونصر اليهود للدجّال، وقتل المسيح ابن مريم عليه السلام له في باب اللدّ في فلسطين، ولنضع ذلك بين أيدي العاملين للإسلام -أفراداً، وجماعاتٍ، ودُولاً-.
إنّ البحث في هذه الأحاديث وفقهها ليس من نافلة القول أو العمل، وليس من باب الترف العلمي، أو الخدر العقلي، بل هو جزء من التخطيط، والتفكير، والتدبير المستهدي بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
والنظر في تلك التفصيلات الجزئية التي وردت في بعض الأحاديث، وما فيها من التوجيهات النبوية لتفادي آثار بعض الفتن، مما سبق ذكره، ومما
هو مفصل في كتب الصحاح
…
ولننظر بعد ذلك في شأننا هل نُوكَل إلى نفوسنا، وتخطيط عقولنا، أم نستهدي بما صحّ من أحاديث الفتن؟!
فهل نجد من أهل العلم والفقه في الحديث النبوي، والتاريخ، وفقه الواقع المعاصر والتبصر فيه من يتصدى لهذا العمل ويضعه بين أيدي المسلمين؛ ليكون هداية لهم، وليعرفوا مدى حب النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وحرصه على نجاتهم من الفتن، ويجدوا -وهم يقرؤون- ذلك تفسيراً عمليّاً لقول الله عز وجل في وصف نبيه عليه الصلاة والسلام:{لَقَدْ جَاءَكُم رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيه مَا عَنِتم حَريصٌ عَلَيكم بِالمُؤمنين رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] » (1) .
قال أبو عبيدة: أُطَمْئنُ الأخ الكاتب أنه لن يجد من أهل العلم والتبصر من يتصدّى لما اقترحه، نعم؛ ذلك ممكن ومتصوّر لو كان (الإسقاط) و (التخطيط) و (التفكير) و (التدبير) المبنيّ عليها من صلب (2)(العلم) ، والأمر -كما قدمناه- ليس كذلك، ولا بُدّ من التنويه بأمور مهمّة تخصّ مقاله:
الأول: قوله: «ربط ابن كثير في «البداية والنهاية» بين أحاديث الفتن، ولكنّه وقف في ذلك على عصره، وبقيت العصور التالية تنتظر من يربط بين أحداثها ونبوءات النبي صلى الله عليه وسلم» غير دقيق؛ وها هو «البداية والنهاية» و «نهاية النهاية» -وهو «الملاحم والفتن» له- لم نجد الربط المذكور، ولا يُتَصوَّر إطلاقُه، وجاء بعده كثير من العلماء، فلم يفعل أحد قبله ولا بعده ذلك، وإنّما هي فكرةٌ استقرت في ذهن صاحبها، وأخذ يُدلل عليها قبل أنْ يفحصها، وتعلّق بما لا يصح متعلَّقاً، ومثّل بشيء لا يصلح أنْ يكون مثالاً.
(1) مجلة «البيان» العدد (33) ربيع الثاني/سنة 1411هـ، مقالة بعنوان:(أحاديث الفتن والفقه المطلوب) للدكتور مأمون فريز جرار -حفظه الله تعالى- (ص 14-18) .
(2)
لاتّصافه بما يمكن أن يبنى عليه كما فصّلناه.
ثانياً: نعم؛ هنالك ومضات وإفاضات من كلام ابن كثير تدلل على حرصِه، وتخوُّفِه على قومه، وهي مِن إفاضاته فيما يخص حوادثَ عصره، تفيد توسع مدلول النصوص الواردة في الفتن، ولكن الربط المدّعى غير واقع أصلاً، فضلاً عن الزعم -فيما يبدو للقارئ- أنّه فعل ذلك من البداية إلى عصره، فهذا غير واقع من غير دافع، وهذا نقل عنه يصلح أنْ يكون أنموذجاً في الإسقاط الصحيح، بضوابطه المعتبرة.
قال -رحمه الله تعالى- في «البداية والنهاية» (13/119) عند كلامه عن (فتنة التتر) :
«وقد قَتَل جنكيزخان من الخلائق ما لا يَعْلَمُ عددهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البُداءة من «خوارزم شاه» ؛ فإنه لما أرسل جنكيزخان تُجَّاراً من جهته معهم بضائعُ كثيرةٌ من بلاده، فانتهوا إلى إيران، فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه، وأخذ جميع ما كان معهم، فأرسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه يستعلمه؛ هل وقع هذا من الأمر عن رضًى منه، أو أنه لا يعلم به؟ فأنكره.
وقال فيما أرسل إليه: «من المعهود من الملوك أنّ التجار لا يُقتلون؛ لأنهم عمارةُ الأقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والأشياء النفيسة، ثم إنّ هؤلاء التّجار كانوا على دينك، فقتلهم نائبك، فإنْ كان أمراً أمرتَ به؛ طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تُنْكِرُهُ وتقتصُّ من نائبك» ، فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيزخان، لم يكن له جوابٌ سوى أنه أمر بضرب عُنُقِهِ؛ فأساء التدبير، وقد كان خَرَّفَ وكَبُرَتْ سِنُّه، وقد ورد الحديث:«اتْرُكُوا التُّرْكَ ما تَرَكُوكُم» (1) ، فلما بلغ ذلك جنكيزخان، تجهز لقتاله، وأَخْذِ بلاده؛ فكان بقَدَر الله -تعالى- ما كان من الأمور التي لم يُسْمَعْ بأغربَ منها، ولا أبشعَ» .
(1) مضى تخريجه.
فذكر ابن كثيرٍ رحمه الله -تعالى- لفتةً دقيقةً، وهي أنّ المسلمين لما خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أُصيبوا بفاجعة فظيعة، وكانت العاقبة مريرة، حيث اجتاح التتار ديارهم في صورة بشعة لم يشهد التاريخ لها مثيل، وقدّمنا كلام العلماء ونقولاتهم في ذلك (1) ، والله الواقي من المهالك.
واللفتة نفسها نبّه عليها في (حوادث سنة ثلاث وأربعين وست مئة)، قال في (13/168) :«وفي هذه السنة كانت وقعةٌ عظيمةٌ بين جيش الخليفة وبين التتار -لعنهم اللَّه-؛ فكسرهم المسلمون كسرةً عظيمةً، وفَرَّقوا شملهم، وهُزِمُوا من بين أيديهم، فلم يلحقوهم، ولم يتبعوهم، خوفاً من غائلة مكرهم، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «اتْرُكُوا التُّرْكَ ما تَرَكُوكُم» .» .
وهذا الأمر ليس خاصّاً به، وإنما هو منهج تَلَقّاه عن علماء عصره، وعلى رأسهم شيخه ابن تيمية؛ فها هو يقول:
ثالثاً: الذي غرَّ الكاتب ما عنون عليه ابن كثير في «البداية والنهاية» (6/199-212)(فصل: في ترتيب الأخبار بالغيوب المستقبلة بعده صلى الله عليه وسلم (3)، و (6/214-221) (باب: إخباره صلى الله عليه وسلم عن الفتن الواقعة في أيام عثمان وخلافة علي رضي الله عنهما) ، و (6/221)(إخباره صلى الله عليه وسلم عن الحَكَمين اللذَيْن بُعثا في زمن علي) ، و (6/222-223)(إخباره صلى الله عليه وسلم عن الخوارج وقتالهم) ،
(1) انظر: ما مضى (ص 369) .
(2)
«مناقب الشام وأهله» (ص 73) .
(3)
نقل فيه جل ما عند البيهقي في «الدلائل» (6/312 - فما بعد) .
و (6/223-224)(إخباره بمقتل علي بن أبي طالب فكان كما أخبر) ، وما أشبه هذا، واقتصر على ذكر النصوص، وتكلّم على الواهي منها، ولم يفعل (1) ما طلبه الكاتب الفاضل من العلماء، ولم يعمل على إسقاط النصوص على الحوادث قبل وقوعها.
رابعاً: هذه الظاهرة لو كانت مطردةً وكليةً وثابتةً لكثُرت فيها جهودُ الأقدمين، ولما تركوها لخوض العابثين من المعاصرين (2) ، ولكنها تُذكر وتوظَّفُ عندهم على نحو إيجابيٍّ، وتعطي النصوص شمولاً (3)
في المعاني من
(1) وكلامه فيه على (الفتن) محصور، وهو ليس موضوعاً لها أصالة.
(2)
مضت نماذج من كلامهم وعبثهم، يقول العاقل عندها: اللهم يا مُقلّب العقول! قلِّب عقلي على دينك!!
(3)
ما فهمه الشيخ الدَّبَّاغ -فيما نقلناه عن الكاتب عنه فيما مضى- من مجريات الأحداث في الحادثة المنوّهِ بها سابقاً من انتصار بريطانيا وحلفائها على الألمان في الحرب العالمية الثانية، هو في حقيقة أمره ليس إسقاطاً لنص على واقعة! وإنما توسُّعٌ في إرهاصات لمقدماتِ أحداثٍ قد يترتب عليها حصولُ تَمَكُّنِ اليهود في فلسطين، ويترتب على هذا التمكن قتالٌ بعد مئات السنوات! فالصِّلة موجودة، ولكنها ضعيفة، والحسنُ به أنه أخبر عن شيء انقدح في نفسه، ولم يرح يبحث له عن مستند في نبوءات كذاب، أو أخبارٍ سرابٍ، منقولةٍ عن أهل الكتاب، مجانباً منهج أهل العلم والصواب، كما فعل العابثون الخائضون! ولله في خلقه شؤون.
ومما ينبغي أنْ يذكر: أنّ قبولَ قولِ الشيخ الدَّبَّاغ ممكن، وليس بحجة، إذ يمكن أن تصبح ألمانيا حليفةً لليهود -أيضاً-، ويمكن -أيضاً- أن تنتصر في هذه الحرب، ثم تهزم فيما بعد؛ فهذه الاحتمالات واردة غير بعيدة، ولكنه شيء قذفه الله في قلب عبد -نحسبه مؤمناً- فأصاب، وإصابته إلهام أُلقِيَ في قلبه ظهرَ صدقُه بعد وقوعِه، أمّا الاعتماد والتعويل عليه فلا، ولا سيما إن كان صاحبه فاسقاً، أو مغضوباً عليه؛ فمن الجرأة التي ليست في مكانها ما ذكره بعضهم في محاضرة له بعنوان:«النظام العالمي الجديد» ، قال:«عندما أُعلِنَ عن قيام دولة إسرائيل (!!) ، دخلت عجوز يهودية على أم ذلك الداعية، وهي تبكي، فلما سألتها عن سبب بكائها، وقد فرح اليهود، قالت: إنّ قيام هذه الدولة سيكون سبباً في ذبح اليهود» ، ثم يقول الداعية:«إنه سمعها تقول: إنّ هذه الدولة ستدوم 76 سنة» . وعندما كبر رأى أنّ الأمر قد يتعلق بدورة المُذَنّب (هالي) ، إذ أن مذنب (هالي) مرتبط بعقائد اليهود. ونحوه في «زوال إسرائيل 2022هـ» لبسام جرار. =
فهذا الجواب فيه ما ترى، وبعَرْضه على العقل يتبيَّنُ ما بينه وبين ما هو من صلب العلم» .
والقصة أوردها الشاطبي -أيضاً- في كتابه «الإفادات» (ص 110) ، وسمَّى شيخه، وهو المقّري.