الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قاعدة جلية في الاعتقاد
لقد وصَفَ الله تعالى نفسَه بأكملِ وأجملِ الأوصافِ، كما يليقُ بجَلاله وعظمتهِ، في كتابهِ وعلى لسانِ نبيه صلى الله عليه وسلم، ليُعرّفَ خلقَه بنفسهِ، كالعِلم، والحَياةِ، والقُدْرةِ، والإرادةِ، والسَّمْع، والبَصَرِ، والكِلَامِ، والحُبِّ، والبُغْضِ، والرَّأفَةِ، والرَّحْمَةِ، والعُلوِّ، والاستواءِ على العَرْش، والإتيانِ، والمَجِيءِ، والنُّزولِ إلى سَمَاءِ الدُّنْيا، وأنَّ له وجْهًا، ويَداً، وقَدَماً، وساقاً، وعَيْناً، إلى غير ذلكَ من صفاتِهِ التي نطَقَ بها الكتابُ والسُّنَّةُ.
ومِن صفاتهِ تعالى اشتقَّ أسماءَه الحُسنى، كالعَليم، والحَيّ، والقادرِ، والوَدود، والرَّحِيم، والرَّؤوفِ، إلى غير ذلك.
وعقيدةُ السَّلَفِ الذين كانوا أعلمَ الأمَّةِ وأعرفَها بالله ربِّ العالَمين: الإيمانُ بجميع ذلك على وجْهِ الإِجمالِ فيما جاءَ مُجْملًا، وعلى وَجْهِ التّفصيل فيما جاءَ مُفصْلًا، من غيرِ تزَيُّدٍ ولا نَقْصٍ، وكانَ هذا الاعتقادُ يقومُ على أربعِ دعائمَ:
الأولى: الإثبات المُفصّل المُجْمَل لكلِّ صفةٍ كما ورَدَ بها النصُّ.
فيتحقَّقُ بهذا قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وقوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، وما في معنى هذا.
والثانية: التَّنزيهُ، وعَدَمُ التكييفِ والتشبيهِ.
فيتحقَّقُ بهذا قولُ الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقوله تعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180]، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
…
} [الإسراء: 36].
والثالثة: عَلَمُ التأويلِ المُفْضِي إلى التَّعطيل.
فيتحقَّقُ بِهذا قولُ الله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].
والتَّعطيلُ: إلحادٌ في أسماءِ الله وصفاتهِ.
والرابعة: العِلمُ بالله تعالى والمَعْرِفَةُ به من خِلال صفاتِهِ.
فيتحقق بهذا قول الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
فالدِّعامةُ الأولى تضمَّنَت الإِيمانَ بكل صفةٍ لله تعالى كما وردَتْ في الكتاب والسنَّة.
والدِّعامةُ الثانية تضمَّنَت تنزيهَ صفاتِ الرب تعالى عن مُشابهة صفاتِ خلقهِ.
والدِّعامةُ الثالثة تضمَّنَت إثباتَ كلّ صفةٍ على الحقيقةِ كما ورد بها
النَّصُّ، من غير صَرْف له إلى معنى آخر غير الظاهر.
والدِّعامة الرابعة تضمَّنت أن السَّلَفَ كانوا يعلَمونَ معانيَ الصفاتِ، ويفرّقونَ بينها بحَسَبِ ما دلَّتْ عليه ممّا تعرفُهُ العربُ من لسانِهِا، فالعلمُ غيرُ الحياةِ، والإِتيانُ غيرُ الاستواءِ على العرش، واليَدُ غير الوجهِ، وهكذا سائر الصفات.
وفي هذا إبطالُ قولِ المُلحدينَ في أسماءِ الله وصفاتِهِ في حكايتهم مذهبَ السَّلَف: أنَّهم كانوا مُفوّضةً، ويعنونَ بهذا أنَّهم لم يكونوا يعلَمونَ معانيَ الصِّفاتِ، ولا التَّمييزَ بينها، وأنَّها من المُتشابهِ الذي يَكِلونَ العِلْمَ به إلى الله تعالى، ولهذا معنى قولهم "أمِرُّوها كَما جاءَت".
وهذا القولُ من أفْسَدِ ما يُنْسَبُ إلى السَّلَفِ، وهو من الكذب والبُهْتان والافتراءِ البَيِّن، ذلك لأنَّ الصفاتِ إنَّما تُعَرِّفُ بالمَوصوفِ، فإذا كانَ السَّلَفُ يَجْهَلُونَ مَعانِيَهَا فكيفَ كانوا أعلم من غيرِهم بالله تعالى؟ وبماذا عَرفُوه إذًا؟
إنَّ هذا لمِنْ أسوإ ما يُظَنُّ بهم، وهم خيرُ هذه الأمَّةِ، وفيهم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لم يَقْدِرِ الله تعالى أحدٌ قدرَهم.
وإنَّما كان السَّلَفُ أبعَدَ الناس عن الخوضِ فيما لم يُحيطوا به عِلمًا ممّا أخبرَ الله تعالى عنه من الغيبِ، فكما أنَّهم لم يكونوا يحيطونَ بذات الله عِلمًا، لَم يكونوا يحيطونَ بصفاتِهِ علمًا، إذ الكلامُ في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذاتِ، إلَاّ أنَّ صفاتِهِ كانتْ دليلَ المعرفةِ به، ولا تصلحُ أن تكونَ كذلك وهي من المتُشابهِ الذي ليسَ للعبادِ أن يعلَموا حقيقَتَه، وإنَّما كانَتْ معلومةَ المَعاني عندَهم، مجهولةَ الكَيْفِ، كما أنَّ ذاتَه تعالى معلومةٌ عندهم بصفاتِهِ، مجهولةُ الكَيْفِ، ولهذا معنى إمرار الصفات كما جاءت.
بل تضمَّن قولهُم: "نُمِرُّها كما جاءَت" إثباتَها على الحقيقة، فإنَّ الأصلَ في الإطلاق الحقيقةُ، فالعلمُ صفةٌ على الحقيقة، والقدرةُ صفةٌ على الحقيقةِ، واليَدُ صفةٌ على الحقيقة، مع أنَّ لكل صفةٍ معنى غير معنى الأخرى، تَعْرِفُ ذلك العربُ من لغاتِها.
ومن تأمَّلَ جوابَ الِإمام مالك بن أنس رحمه الله لِمَنْ سألَه عن كيفيَّةِ الاستواءِ على العَرْشِ، فقال:"الكَيْفُ غيرُ مَعلومٍ، والاستواءُ غيرُ مجهولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسُّؤال عنه بدعةٌ" تبيّنت له عدّةُ أمورٍ:
الأول: كيفيةُ الصفات مجهولةٌ للعباد.
والثاني: معاني الصفاتِ معلومةٌ من لسان العرب ولُغتها.
والثالث: الإِيمانُ بالصفة كما أخبر الله بها مع الجَهْلِ بكيفيَّتها والعلم بمَعناها واجبٌ، لأنَّه داخلٌ في عمومِ الإِيمان بالله تعالى.
والرابع: أنَّ الزيادةَ والنقصَ بالسؤالِ والخَوْضَ فيها بدعةٌ مذمومةٌ لم تُعْرَف عند السَّلَفِ، لِما تتضمَّنُ من القول على الله تعالى بغير علم.
ولم يزل الأئمةُ يذكرونَ كلمةَ الإِمام مالكٍ هذه قاعدةً لأهلِ السُّنَّة في سائر صفاتِ الباري تعالى.
فبهذا يظهَرُ لكَ استقامةُ اعتقادِ السَّلَف، وأنَّه المذهبُ الأسلمُ الأعلمُ الأحكمُ.
قال الإِمام أبو عثمانَ الصابونيُّ رحمه الله فيما حكاه من اعتقادِ السَّلَفِ: "وَيَعْرِفونَ ربَّهم عز وجل بصفاتِهِ التي نطقَ بها وحيُهُ وتنزيلُهُ، أو شَهِدَ له بها رسولُه صلى الله عليه وسلم، على ما ورَدَت الأخبارُ الصحاحُ بهِ، ونقَلَتْهُ العدولُ
الثِّقاتُ عنه، ويُثْبِتونَ له جل جلاله منها ما أثبتَ لنفسهِ في كتابِهِ، وعلى لسانِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم، ولا يَعتقدونَ تشبيهًا لصفاتِهِ بصفاتِ خلقهِ، فيقولونَ: إنَّهُ خلقَ آدَمَ بيدهِ، كما نصّ سُبحانه عليه في قوله عزَّ من قائل:{قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، ولا يُحَرِّفونَ الكلِمَ عن مواضعهِ بحَمْلِ اليَدَيْنِ على النّعمتين، أو القوّتين، تحريفَ المعتزلةِ والجَهميةِ -أهلكَهم الله- ولا يُكيْفونَهما بكَيْفٍ، أو يشبّهونَهما بأيْدي المَخلوقينَ، تشبيه المشبِّهة -خذَلَهم الله- وقَدْ أعاذَ الله تعالى أهلَ السُّنَّة من التحريفِ والتكييفِ والتشبيهِ، ومَنَّ عليهم بالتعريفِ والتفهيمِ، حتى سلَكوا سُبُلَ التوحيدِ والتنزيه، وتركوا القولَ بالتعليلِ والتشبيهِ، واتَّبعوا قولَ الله عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] " (16).
وقال شيخُ الإِسلام رحمه الله: "إنَّ سلفَ الأمَّةِ وأئمَّتَها كانوا على الإِيمان الذي بعثَ الله به نبيَّه صلى الله عليه وسلم، يصِفون الله بما وصَف به نفسَه، وبما وصَفَه به رسولُهُ من غير تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ويقولون: إنَّ القرآنَ كلامُ الله تعالى، ويصفونَ الله بما وصفَ به نفسَهُ، من التكليمِ، والمُناجاة، والمُناداةِ، وما جاءت به السُّنَنُ والآثارُ موافقةً لكتاب الله تعالى"(17).
وقال رحمه الله: "ويقولونَ ما جاءت به النصوصُ النبويَّةُ، ودلَّتْ عليه العقولُ الزَّكيَّةُ الصَّريحةُ، فلا يَنْفونَ عن الله تعالى صفاتِ الكَمالِ سبحانه
(16)"الرسالة في اعتقاد أهل السنة" ص: 3 - 4.
(17)
"مجموع الفتاوى" 6/ 518.
وتعالى، فيجعلونَه كالجَمادات التي لا تتكلَّم، ولا تُبْصِرُ، فلا تُكَلِّمُ عابديها، ولا تَهديهم سَبيلًا، ولا تَرجِع إليهم قولًا، ولا تَمْلِك لهم ضرًّا ولا نفعًا" (18).
فهذا قولٌ مُخْتَصَر قبلَ الشروع فيما أردناه تحصل به الكفايةُ لمن استرشَدَ.
*****
(18)"مجموع الفتاوى" 12/ 173.