الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: التكليم في الدنيا
قالَ الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51].
فأخبرَ تعالى في هذه الآيةِ أنَّ تكليمَه للبَشَر يقعُ على ثلاثِ مَراتب:
• المرتبة الأولى: الوحي المجرد:
ودليلُهُ قولُهُ: {إِلَّا وَحْيًا} .
وهذا غير الوَحْي العامّ الذي يشمَل جميعَ أنواع التكليم، وإنَّما هو نوعٌ منه، وقد فُسِّرَ بالإِعلام السَّريع الخَفيّ، ويقعُ للأنبياءِ عليهم السلام مَنامًا.
ومن الدَّليل عليه:
1 -
رؤيا إبراهيبم عليه السلام:
قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا
تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 101 - 105].
قَالَ عُبيد بن عُمير: "رُؤيا الأنبياءِ وحيٌ"، ثمَّ قرأ:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (14).
2 -
وعَن عائشة رضي الله عنها قالت:
"أوَّلُ ما بُدِىءَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الوَحي الرُّؤيا الصَّالحةُ (وفي لفظ: الصّادقةُ) في النَّوْم، فكانَ لا يَرى رؤيا إلَاّ جاءت مِثْل فَلَقِ الصُّبْحِ"(15).
3 -
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
"إنّي قُمْتُ من اللَّيل، فصَلَّيْتُ ما قُدِّرَ لي، فنَعَسْتُ في صَلاتِي حتى استثقلْتُ، فإذا أنا بربّي عز وجل في أحسَن صُورة، فقال: يا محمَّدُ، أتَدْري فيمَ يختصمُ المَلأ الأعلى؟
…
" الحديث وقد سبق بطوله في المبحث السابق (16).
وليسَ الإِلهام الذي يحصَلُ لآحاد النَّاس من هذا النوع، لأنَّه لا يَصِحُّ تسميتُه تكليماً خِلافًا لما ذهبَ إليهِ بعضُ أهْلِ العلم من المتأخْرينَ.
(14) رواه البخاري، وعُبيد بن عمير هو الليثي تابعي ثقة عالم.
(15)
متفق عليه.
(16)
ص 89 - 90.
• والمرتبة الثانية: التكليم الخاص من وراء حجاب بلا واسطة:
والدَّليلُ عليه قوله: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} .
وهذا تكليمٌ مباشرٌ منَ الرَّبِّ تعالى، بكَلامٍ يُسْمِعُهُ مَنْ شاءَ من رسُلِهِ، من وراءِ حجابٍ.
وهذه المَرتبة أعلى مَراتب التَّكليم وأشْرَفُها وأفضَلُها، قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ
…
} [البقرة: 253].
وقد وقعَ هذا النوعُ لثلاثةٍ من الأنبياءِ فيما جاءَ به السَّمعُ، هم:
1 -
آدم عليه السلام:
والدليلُ عليه قولُه تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ
…
} [البقرة: 37].
ومن السُّنَّةِ: حديثُ أبي أمامَة رضي الله عنه أنَّ رجُلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: يا نبيَّ الله، أنبيًّا كانَ آدم؟ قال:"نعَمْ، مكلَّمًا"(17).
2 -
موسى عليه السلام:
والأدلَّة عليه من الكتاب كثيرةٌ منها:
قَولُهُ تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وقَولُهُ تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] وقَوْلُهُ تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي}
(17) سبق الحديث وتخريجه في المبحث السابق ص 86 - 87.
[الأعراف: 144].
ومن السُّنَّةِ: حديثُ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ مُوسى قال: يا ربِّ أرِنا آدمَ الَّذي أخرجَنا ونفسَهُ من الجَنَّةِ، فأراه الله آدم، فقال: أنتَ أبونَا آدمُ، فقال له آدمُ: نَعَمْ، قال: أنتَ الذي نَفَخَ الله فيكَ من رُوحِهِ وعلَّمَكَ الأسماءَ كلَّها، وأمَرَ الملائكةَ فَسَجَدوا لكَ؟ قال: نَعَمْ، قالَ: فما حملَكَ على أنْ أخرَجْتَنَا ونفسَكَ من الجنَّةِ؟ فقال له آدمُ: وَمَنْ أنْتَ؟ قال: أنَا مُوسى، قال: أنتَ نبيُّ بني إسرائيل الَّذي كَلَّمكَ الله من وَراءِ الحِجابِ، لم يَجْعَلْ بينَكَ وبينه رَسولاً من خَلْقِهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: أفما وَجَدْتَ أنَّ ذلك كانَ في كتابِ الله قبلَ أنْ أخْلَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فِيمَ تلومُني؟ في شَيْءٍ سَبَقَ من الَله تعالى فيه القضاءُ قَبْلي؟ "قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "فحَجَّ آدمُ مُوسى، فحَجَّ آدمُ مُوسى"(18).
وقد سَمّى الله تعالى هذا التَّكليم نِداءً، كما قال: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
(18) حديث صحيح.
أخرجه عبد الله بن وهب في "القدر" رقم (3) ومن طريقه: أبو داود رقم (4702) وأبو يعلى رقم (243) وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (137) وآخرون. وإسناده جيد.
وقد استوعبت الكلام عليه في جزء مستقل، كما أشرت إليه فيما سبق في التعليق على حديث أبي هريرة ص 85.
لِذِكْرِي} [طه: 11 - 14]، وكَما قالَ سبحانه:{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 8 - 9] وكَما قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30].
3 -
نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم:
ووقعَ لَه ذلك في قِصة المِعراج عندَ سِدْرةِ المُنْتَهى.
قال صلى الله عليه وسلم: "فأوْحى الله إلىَّ ما أوْحى، ففرَضَ على خَمْسينَ صلاةً في كلّ يومٍ وليلةٍ، فنزلتُ إلى موسى صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ما فَرَضَ ربُّكَ على أمَّتِك؟ قلتُ: خَمْسينَ صَلاةً، قالَ: ارْجِعْ إلى ربِّكَ فاسْألهُ التَّخفيفَ، فإنَّ أمَّتَكَ لا يُطيقونَ ذلكَ، فإنيِّ قدْ بلَوْتُ بني إسْرائيلَ وخبَرْتُهم، قال: فرَجَعْتُ إلى رَبِّي، فقلتُ: يا ربّ، خَفِّفْ على أمَّتي، فحَطَّ عنِّي خمْساً، فرَجَعْتُ إلى مُوسى فقلتُ. حَطَّ عنّي خَمْساً، قال: إنَّ أمَّتَكَ لا يُطيقونَ ذلكَ، فارْجِعْ إلى ربِّكَ فاسألْهُ التَّخفيفَ، قالَ: فَلَمْ أزَلْ أرجِعُ بينَ رَبِّي تبارك وتعالى وبينَ موسى عليه السلام، حتى قال: يا محمَّدُ، إنَّهُنَّ خمسُ صَلَواتٍ كُلَّ يومٍ وليلةٍ، لكُلِّ صلاةٍ عشرٌ، فذلك خَمْسونَ صَلاةً، ومَنْ همَّ بحَسَنةٍ فلمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ له حسنةً، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ له عَشْراً، ومَنْ هَمَّ بسيِّئةٍ فلمْ يعمَلْها لمْ تُكْتَبْ شيئاً، فإن عَمِلَها كُتِبَتْ سيَّئةً واحدةً، قال: فنَزَلتُ حتى انتهَيْتُ إلى موسى صلى الله عليه وسلم فأخبَرْتُهُ، فقالَ: ارجعْ إلى ربِّكَ فاسألْهُ التَّخفيف"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فقلتُ: قَدْ رَجَعْتُ إلى رَبِّي حتَّى استحيَيْتُ منه"(19).
(19) متفق عليه من حديث أنس بن مالك، والسياق لمسلم.
قلتُ: ولهذا التكليمُ هو المرادُ بقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10].
وقَدْ ذَهبَ بعضُ أهل العلم إلى أنَّ هذا التكليمُ كانَ بواسطةِ جبريلَ، فقالوا: فأوحى إلى عبدِهِ بواسطةِ جبريلَ ما أوحى، أي: جبريلُ.
وهذا مَرْدودٌ، إذ الأصل عدَمُ الحَذْفِ في الكَلام، وظاهرُ الحديثِ أنَّ الخطابَ منَ الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم كانَ بغير واسطةٍ، ومِنْ قَرائِنِهِ مُراجعةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ، وكذا يؤكِّدُهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رُفِعَ إلى موضعٍ لَمْ يُرْفَع إليه موسى عليه السلام الَّذي فُضِّلَ بكَلام الله، ولا إبراهيمُ عليه السلام الَّذي فُضِّلَ بالخُلَّةِ، فذلكَ مُسْتَوْجبٌ أنْ يكونَ فَضْلُه أعظمَ من فَضْلِ مَنْ دونَه، فجَديرٌ به أنْ يَنالَ دَرَجاتِ الفَضْلِ التي حصَّلها مَنْ دونَهُ.
والَّذي ألْجَأ القائلينَ بهذا إلى هذهِ المَقالَةِ أنَّهم التَزموا أنَّه صلى الله عليه وسلم إنْ أثْبتَ له تكليمُ الله تعالى إيَّاه بغير واسطةٍ، فإنَّ ذلك يستجبُ رُؤْيَتَه صلى الله عليه وسلم لِرَبِّه، والتَّحقيقُ الَّذي عليه جُمهورُ أهْلِ السُّنَّةِ أنَّه صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرَ ربَّه تعالى ليلةَ الإِسراءِ.
والصَّواب أنَّ هذا الَّذي التزموه ليسَ بلازمٍ، لأنَّ التَّكليمَ غيرُ الرُّؤْيَةِ، وهو مُمْكِنُ الوقوع بخِلافِ الرُّؤْية، وذلك من وَراء حِجابٍ، كَما وقَعَ لمُوسى عليه السلام، فإنَّ موسى لمْ يَرَ ربَّه، معَ أنَّهُ كَلَّمَهُ وناداه.
وقد عَلِمْنا أنَّ هذه المرتبةَ من التَّكليمِ أكْمَلُ المَراتبِ وأعلاها، فهي فضلٌ عظيمٌ، ودرَجةٌ رَفيعةٌ، فحَرِيُّ أن تكونَ لسيّدِ ولدِ آدمَ عليه الصلاة والسلام.
• والمرتبة الثالثة: التكليم بواسطة الرسول:
والدَّليلُ عليه قولهُ: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} .
والرَّسولُ جبريلُ عليه السلام، وربَّما كانَ غيرَهُ، إلَاّ أنَّ ذلك قليلٌ، وهذا في الرُّسُلِ من المَلائكةِ، أمَّا الرُّسُلُ من البَشَر فإنَّ الله تعالى يكلّم أمَمَهم بواسِطَتِهم، كَما يكَلِّمُهم بواسطةِ الرَّسولِ المَلَكيّ.
وبيانُهُ:
أنَّ الرَّسولَ المَلكىَّ يسمَعُ كَلامَ الله من الله بغير واسطةٍ، فَيُبَلِّغُهُ إلى الرَّسولِ البَشَريّ، فهذا تكليمٌ بالواسطةِ، والرَّسُولُ البَشَرِيُّ يُبلِّغُهُ أمَّته، وهذا أيضاً تكليمٌ بالواسطةِ، وكُلُّ مَنْ كلَّمَهُ الله بالواسطةِ فهو سامعٌ لكَلامهِ من الواسطةِ لا مِنَ الله تعالى.
وجبريلُ عليه السلام هو الذي كانَ يأتي نبيَّنا صلى الله عليه وسلم بالوَحْي من ربَّهِ، قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195]، وقالَ:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ....} [النحل: 102]، وقالَ تعالى:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97]، وقال تعالى:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ} [النجم: 1 - 6] وهو جبريلُ عليه السلام.
ولقدْ كانَ يأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم بصورةِ بشَر، تأنيساً لَه، فإنَّه عليه السَّلام
خَلْقٌ عَظيمٌ من خَلْقِ الله تعالى، ولم يره النبُّيُّ صلى الله عليه وسلم على صُورتهِ إلَاّ مَرَّتين، كَما قالَتْ عائشةُ رضي الله عنها لمَسْروقٍ حين سألَها عن قوله تعالى:{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23]، وقولِه:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]: أنا أَوَّل هذه الأمَّةِ سألَ عَنْ ذلك رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالَ: "إنَّما هو جبريلُ، لَمْ أرَه على صُورتِهِ الَّتي خُلِقَ عَليها غيرَ هاتَيْن المَرَّتَيْنِ، رأيْتُهُ مُنْهَبِطاً من السَّماءِ، سادّاً عِظَمُ خَلْقِهِ ما بَيْنَ السماء إلى الأرْضِ"(20)
وقالَ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه في هذه الأية {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيْتُ جبريلَ عند سِدْرةِ المُنتْهى، عليه سِتُّ مِئَةِ جَناح، يُنْثَر من ريشِهِ التَّهاويلُ: الدّرُّ والياقوتُ"(21).
ولقَدْ أنبأنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نفسُه عن صِفَةِ إتيانِ الوَحْيِ إلَيْهِ، حينَ سألَه الحارثُ بن هِشام رضي الله عنه، فقال: يا رسولَ الله، كيفَ يأتيكَ
(20) قطعة من حديث صحيح.
أخرجه أحمد 6/ 236، 241 ومسلم رقم (177) والترمذي رقم (3068) من طرق عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق به.
قال الترمذي:"حديث حسن صحيح، ومسروق بن الأجدَع، يُكْنى أبا عائشة، وهو مسروق بن عبد الرحمن
…
".
قلت: وأصلُ الحديث عند البخاري في "الصحيح".
(21)
حديث جيد الإِسناد.
أخرجه أحمد 1/ 412، 460 وابن طَهْمان في "مشيخته" رقم (126) والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" 7/ 25 - وأبو يعلى في "مسنده" رقم (4993) وابن خزيمة في "التوحيد" ص: 203 وابن جرير في "تفسيره" 27/ 49 من طرق عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زِرّ عن ابن مسعود به.
الوَحْيُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحْياناً يأتيني مِثْلَ صَلْصَلةِ الجَرَسِ وهو أشدُّهُ عَلَيَّ، فيفْصِمُ عَنِّي وقَدْ وَعَيْتُ عنهُ ما قالَ، وأحْياناً يتمثَّلُ ليَ المَلَكُ رَجُلاً فَيكلِّمُني، فأعِي ما يَقولُ"(22).
ولَقَدْ أتى مَرْيَمَ عليها السلام بصُورةِ بَشَر، كمَا قالَ تعالى:{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم: 17 - 19].
وجاءتْ الملائكةُ رسلُ الله إلى إبراهيمَ ولوطٍ عليهما السلام بصورةٍ بشريّة، كما حكى الله في سُورةِ هودٍ وغيرِها.
وإنَّما كانَ ذلك يَقَعُ كذلكَ لأنَّ البشَر يأْنَس جِنسَه، ولا يَرتاعُ لرؤيته، ففيه من تهدئةِ القلبِ ما لا يكونُ لو أتى بصورة المَلَكِ، ومنْ طبيعةِ بني آدمَ النفرةُ من الأمورِ غيرَ المألوفة، ولذا كانت هذه من حكمةِ الله تعالى في إرسال الرُّسلِ إلى البشر من أنفسِهم، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا
(22) حديث صحيح.
أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 202 - 203 وأحمد 6/ 158، 163، 256 - 257 والبخارى 1/ 18 و 6/ 304 ومسلم 4/ 1816 - 1187 والترمذي رقم (3634) والنسائي في "المجتبى" 2/ 146، 147 وفي "الكبرى" كما في "فضائل القرآن" له رقم (4) وكما في "تحفة الأشراف" 12/ 193 - 194 من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله
…
الحديث.
قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8 - 9] وقالَ تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 94 - 95].
قال الحافظُ ابنُ كَثير: "فمِنْ رحمتهِ تعالى بخلقِه أنَّه يرسلُ إلى كُلِّ صنفٍ من الخَلائق رسُلاً منهم، ليدعوَ بعضُهم بعضاً، ولِيُمْكِنَ بعضُهم أنْ ينتفعَ ببعضٍ في المُخاطبةِ والسُّؤالِ"(23).
قلتُ: ولذا امتنَّ الله تعالى على المؤمنينَ بذلكَ، فقال:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ....} الآية [آل عمران: 164].
فهذا بيانُ أنواعِ ومراتب التكليمِ العامَّ الَّذي جاءَت به آيةُ الشورى، وهو متضمَّنٌ إبطالَ أقوَالِ كثيرٍ من المبتدعةِ الَّذين لم يفرِّقوا بين تكليم الله لموسى وتكليمِهِ لغيرهِ بواسطةِ الملَك، ولا بينَ الِإيحاءِ المجرَّد والتكليم الخاصِّ، فوقَعوا بسَببِ ذلك في ضَلالاتٍ، أوْقَعَتْهم في الِإلحادِ في صفاتِ الله تعالى، وتعطيلِ صَريح النُّصوصِ، وإبطالِ حقائِقها.
ومما ينبغي التنبيهُ عليه دَفْعاً لِمَا قد يُشْكِل في إطلاقِ لفظ (الوحي) ولفظ (التكليم) في مواضِعَ من كتاب الله تعالى، فالقاعدة في ذلك كما يقول شيخُ الإِسلام رحمه الله: "فيهما عُمومٌ وخُصوصٌ، فإذا كانَ أحدُهما
(23)"تفسير ابن كثير" 3/ 9.
عامّاً اندرجَ فيه الآخر، كما اندرجَ الوحيُّ في التكليم في هذه الآية، واندرجَ التكليمُ في الوحيِ العامِّ، حيث قال تعالى:{فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه: 13] " (24).
• • • • •
(24)
"مجموع الفتاوى" 12/ 402.