الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: الأشعرية وأهل السنة في مسألة القرآن
لَقَدْ كانَ المعتزلةُ في الزَّمَن الغابرِ يصِفونَ أنْفُسَهم بـ (أهل السُّنَّة) وكثيرٌ من أهلِ البِدَع كانوا على هذا النَّحْو، والأشعريَّةُ ومثلُهم الماتُريديَّةُ مِمَّن تلقَّبوا بهَذا، فهُم يصِفونَ أنْفُسهم بـ (أهل السُّنَّة) ويقولونَ في اعتقادِهم: إنَّه (اعتقادُ أهل السُّنَّة) وربَّما عَزَّزوا ذلك بأنَّ فيهم كَثْرةً من أهْلِ الفِقْهِ والحَديث، ورُواة السُّنَنِ والآثار.
يقولُ الزَّبِيديُّ: "إذا أطْلِقَ: أهلُ السُّنَّة والجَماعَةِ، فالمرادُ بهم الأشاعرةُ والماتُريديةُ"(17).
قلتُ: وَيَنْصُرونَ ذلك بكَثْرَة الأتْباعِ، وهذا مِمَّا اغترَّ به كثيرٌ من أهْلِ زمانِنا ونَسوا غُرْبَة أهْلِ الحَقّ.
ولَقَدْ كانَ الإِمامُ أحمدُ وأتباعُهُ قلَّةً بالنسبةِ إلى المُعتزلةِ لِما كانَ معهم من قوَّةِ السُّلْطان، ولم يكن هذا حجّةً في ميزانِ أهْل الحقِّ على صِحَّة اعتقادِهم، وكان فيهم مَن يُنْسَب إلى الفقهِ والحَديثِ والعِلْم.
(17)"شرح الإحياء" 2/ 6.
وإنَّما الميزانُ عَرْضُ الآراءِ والأقوالِ والمَذاهبِ على الكتابِ والسُّنَّة وما كان عليه سَلَفُ الأمَّةِ، وهذا لا يَحتاج إلى إيضاحٍ، فإنَّه لا يخفى مثلُه على أهل الإِنْصافِ والإِخلاصِ والاتّباعِ، فما وافَقَ الشَّرْعَ منها قُبِلَ، وما لَم يوافِقْ طُرِحَ ونُبِذَ.
والدَّعوى المجردَّةُ رَخيصةٌ لقائلها، ولم يكن لصاحب بدْعَةٍ في يوم من الدَّهْرِ أن يقولَ: إنِّي مُبْتَدعٌ، أو صاحبُ هَوى، خُصوصًا إذا أرادَ لدائهِ أن يَسْرِي في الناس، فإنَّه يتلقَّبُ بأحسن الألقابِ، ويتسمَّى بأحسَنِ الأسْماءِ.
وكما بَطَلَتْ دَعْوى المعتزلةِ الجهميَّةِ في سالِفِ الزَّمان، بطَلَتْ دَعوى الأشعريةِ والماتُريديةِ عندَ أهل الحَقِّ والسُّنَّة، ولقد شَرَحْنا من ذلك ما فيه الدَّلالةُ القاطعةُ على مخالفةِ الأشعريَّةِ والماتُريديَّةِ لاعتقادِ أهْل السُّنَّة ولمَنْهَج السَّلَف، مع أنِّي تناوَلْتُ اعتقادَهم في مسألة القرآنِ وبعضِ ما يرتبطُ بها لا جَميع المَسائل التي خَرَجوا فيها عن الصِّراطِ المستقيم، فإنَّ لهُم من الاعتقاداتِ الباطلةِ سِوى ما بيَّنتُه شيئاً كثيراً.
وأنتَ أيها الناظرُ في قَوْلي أحَدُ رجُلَين: إمَّا أن تكونَ مُنْصِفاً طالباً للحقّ ابتغاءَ وجهِ الله، وإمَّا أن لا تكونَ كذلكَ، فإنْ كنتَ الأوَّل أدركتَ الحقَّ إن شاء الله وبانَ لك، وإنْ كُنْتَ الثانيَ فلَسْتُ أرجوكَ فلا تُتْعِبْ نفسَك.
ولو عُدْتَ للباب الثاني من كِتابي هذا ونظرْتَ بأدْنى تأمُّل ما أوردتُهُ في اللَّفظيةِ الذينَ جَهَّمَهم الإِمامُ أحمد وغيرُه من الأئمةِ، علمتَ أنَّ ذلك
مُنْصَبٌّ تماماً على الأشعريةِ والماتُريديةِ، بَلْ إنَّ اللَّفظيةَ الأوائلَ الذين أنكَرَ الإِمامُ أحمدُ وغيرُه من أئمَّة السُّنَّةِ مقالَتهم أفْضَلُ من هؤلاء وأقرَبُ إلى الحَقِّ منهم، فإنَّ أولئكَ لم يُحْفَظ عنهم تصريحٌ بأنَّ الله لا يتكلَّمُ بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ (18)، ولا نَفْيُ تعلُّقِ الكلام بالمَشيئة والقُدْرَةِ، فجاءَ أصْلُ هؤلاء المُبتدعةِ ابنُ كُلاّب، فأدخَلَ على النَّاسِ هذه الأباطيلَ.
وإنِّي ذاكرٌ لكَ بعضَ كلام الأئمَّةِ في إنكارِ قولِ الكُلْابية ومَن وافَقَهم كالأشعرية والماتُريديةِ في كلام الله تعالى، سوى ما سقتُه في الباب الثاني:
1 -
الإِمام أحمد بن حنبل:
كانت مقالَةُ ابن كُلاّب غيرَ ظاهرةٍ في عَصْر الإِمام أحمد، سوى القَوْل بخَلْق ألفاظِ القرآن، وقد سبَقَ بيانُ إنكارِ الإِمام أحمدَ ذلكَ أشدَّ الإنكار وتبديعِ مَن قال هذه المقالةَ، بل تكفيرِهِ وتجهيمهِ.
ومع ذلك فَقَدْ عَلِمَ الِإمامُ أحمدُ بابن كُلاّب، وأنَّه من اللَّفْظيةِ القائلينَ: ألفاظُنا بالقرآنِ مَخلوقةٌ، فأنكَر بدعته، وشدَّدَ على أصحابهِ، مثل الحارثِ المُحاسبيّ، بسَبب ذلك.
وقَدْ سأل بعضُ مَن كانَ يَميلُ إلى قَوْلِ ابن كُلّاب الامامَ أبا بكر بن خُزَيمة، فقال: ما الذي أنْكَرْتَ من مذاهِبنا أيُّها الإِمام حتى نرْجِعَ عنه؟ قال: "ميلَكم إلى مذْهَب الكُلّابية، فقد كانَ أحمدُ بن حنبل مِن أشدِّ النَّاس على عبد الله بن سَعيد (يعني ابنَ كُلّاب) وعلى أصحابهِ، مثل الحارث،
(18) انظر: "مجموع الفتاوى" 12/ 379.
وغيره" (19).
وقد نقَلَ الأشعريُّ نفسُه عن الإِمام أحمدَ قولَه: "نحنُ لا نَحْتاجُ أنْ نَشُكَّ في هذا القرآن عندَنا، فيه أسماءُ الله، وهو من عِلْمِ الله، فمَنْ قالَ لنا: إنَّه مخلوق، فهو عندَنا كافرٌ"(20).
قُلْتُ: وهذا النَّصُّ متنزّلٌ على الأشعرية من وجُوهٍ:
الأوَّل: أنَّ الكلامَ عندهم مُغايِرٌ للعِلْم، وليسَ به مطلقاً.
قال الباجوريُّ الأشعريُّ: "والكلام: القوْلُ، وما كانَ مكتفياً بنفسهِ، والعلمُ هو المعرفةُ، كما يؤخَذُ من القاموس في مَواضع متعدّدةٍ، وإذا ثَبَتَ أنَّها متغايرةٌ لُغَةً كانت متغايرةً شَرْعاً، وبالجُمْلةِ فكُنْه كلِّ واحدةٍ غيرُ كُنْهِ الأخرى، ونفوّضُ علمَ ذلك لله تعالى"(21).
قلتُ: نحنُ لا نرتابُ في أنَّ كلام الله تعالى مِن علْمهِ، كما قال تعالى:{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1 - 2] وكما قال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ
…
} [البقرة: 145] وكما قال: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61] وكان هذا من حُجَّةِ الإِمام أحمد على الجَهْميَّة فيما ذكَرْناهُ عنه في الباب الأوَّل (22).
(19) رواه الحاكم في "تاريخه" -كما في "مجموع الفتاوى" 6/ 171 - 172 - وسنده صحيح.
(20)
"الإِبانة" ص: 71.
(21)
"شرح الجوهرة" ص: 86.
(22)
انظر: ص 124 - 125.
والثاني: كلامُ الله عندَهم لا يتبعَّضُ، وكذا علْمُه، والإِمام أحمد جعَل القرآن بَعْضاً من علْمهِ تعالى.
والثالث: قوله: "هذا القرآن" إشارةٌ إلى حاضِرٍ، وأكَّدَه بقولهِ:"عندَنا" وليس عندَنا إلَاّ هذا القرآنُ العربيُّ.
والرابع: أثْبَتَ أنَّ أسماءَ الله تعالى في هذا القرآن المُشار إليهِ، ولا يفْهَم أحَدٌ من ذلك إلَاّ الأسماءَ الحُسنى، كـ (الله، الرَّحمن، الرَّحيم) وغير ذلك، وهذه عنْدَ الأشعريَّةِ تَسْمياتٌ مخلوقةٌ، لكَوْنِها مؤلَّفةً من الحُروف، والقرآنُ العربيُّ نفسُه عندَهم مَخْلوق، لأنَّه مؤلَّفٌ من الحُروفِ، إلى غير ذلك من أباطيلِهم.
فالأشعربَّةُ خالَفوا نصَّ الإِمام أحمدَ من أوَّله إلى آخرهِ، فَتُرى على ماذا يَرِدُ قولُ أحمد رحمه الله:"فمن قالَ لنا: إنَّه مخلوق فهو عندنا كافر"؟ وعلى مَن؟!
وقد ذكَرْت آنفاً قولَ أحمد بن سعيد الدَّارميّ: قلتُ لأحمدَ بن حنبل: أقولُ لك قَوْلي، وإن أنكرتَ منه شيئاً فقُلْ: إني أنكِرُه، قلتُ له: نحن نقول: القرآنُ كلامُ الله من أوَّلهِ إلى آخرهِ، ليسَ منه شيءٌ مخلوقٌ، ومَن زغمَ أنَّ شيئاً منه مخلوقٌ فهوكافرٌ، فما أنكرَ منه شيئاً، ورَضِيَه (23).
قلتُ: والأشعريةُ يقولونَ: الكلامُ الذي له أوَّلٌ وآخِرٌ ويَتَبَعَّض فهو مخلوقٌ.
فمَن المقصودُ إذاً بقولهِ: "ومَن زعَمَ أنَّ شيئاً منهُ مَخلوق فهوكافر"؟
(23) سبق ص 246 - 247.
2 -
الإِمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة:
كان رحمه الله تعالى شديداً على الكُلَّابية (24) -أصلِ الأشعريَّةِ والماتُريدية-.
وقد ذكرَ شيخُ الإِسلام أبو إسماعيلَ الأنْصاري في "مناقب الِإمام أحمد" فتنة الكُلَّابية، وقال:
"فطارَ لتلك الفتنةِ ذاكَ الإِمام أبو بكْر -يعني ابنَ خُزَيمة- فلمْ يزَل يَصيحُ بتشويهها، ويُصَنِّفُ في ردِّها، كأنَّه مُنْذِر جيشٍ، حتى دَوَّنَ في الدَّفاتر، وتمكَّن في السَّرائر، ولقَّنَ في الكَتاتيب، ونقَشَ في المَحاريب: إنَّ الله متكلّمٌ، إن شاءَ تكلَّمَ، وإنْ شاءَ سكَتَ، فجَزى الله ذاك الِإمام، وأولئك النَّفرَ الغرَّ عن نُصْرة دينهِ وتوقير نبيِّه خَيراً"(25).
وله قصَصٌ حصلَت له معَ الكُلّابية تُنْبىءُ عن شِدَّتهِ عليهم، وإنكارِه لاعتقادِهم في القُرآن.
3 -
الحافظ الثقة أحمد بن سنان الواسطي:
قالَ رحمه الله: "مَن زعَمَ أنَّ القرآنَ شَيئين، أو أنَّ القرآنَ حكايةٌ، فهو والله الذي لا إله إلَاّ هو زِنديقٌ، كافِرٌ بالله، هذا القرآنُ هو القرآنُ الذي أنزلَه الله على لسانِ جِبريلَ على محمَّد صلى الله عليه وسلم، لا يُغَيَّرُ ولا يُبَدَّل، لا يأتيهِ الباطلُ من بين يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفهِ
…
" (26).
(24)"مجموع الفتاوى" 6/ 169.
(25)
"مجموع الفتاوى" 6/ 178.
(26)
سبق سياقه بتمامه وتخريجه ص 198 - 199.
قلتُ: والذي كان يقولُ: شيئين، أوَّل الأمْر، داودُ الأصْبهاني، والذي كانَ يقول: حِكاية ابنُ كُلّاب -أصلُ الأشعرية والماتُريدية- لكنَّ الأشعريَّ خالفَه في إطلاق لفظ (حكاية) على القرآن العربيّ، ويقولُ: هو عبارةٌ، لأنَّه رأى أنَّ لفْظَ (حكاية) لا يُناسِبُ اعتقادَهم.
قالَ الإِمام الفَقيهُ أبو حامدٍ الإسفرايينيُّ: "وكان ابنُ كُلّاب عبد الله ابن سَعيد القطَّانُ يقولُ: هي -أي الألفاظ- حكايةٌ عن الأمْرِ، وخالَفه أبو الحَسَنُ الأشعريُّ في ذلك، فقالَ: لا يَجوز أن يُقال: إنَّها حِكايةٌ، لأنَّ الحِكايةَ تَحْتاجُ إلى أن تكونَ مثْلَ المَحْكيّ، ولكنْ هو عِبارةٌ عن الأمْرِ القائم بالنَّفس، وتقرَّرَ مذهَبُهم على هذا"(27).
4 -
الإِمام الفقيه الجبل أبو العباس بن سريج: أحمد بن عمر، إمام الشافعية في وقته:
قال رحمه الله: "وقَدْ صَحَّ وتقرَّرَ واتَّضَحَ عند جَميع أهل الدِّيانةِ والسُّنَّة والجَماعةِ من السَّلَف الماضِينَ، والصَّحابة، والتَّابعينَ، من الأئمَّة المُهْتَدين الراشدينَ المشهورينَ إلى زمانِنا هذا: أنَّ جميعَ الآي الواردةِ عن الله تعالى في ذاتهِ وصفاتهِ، والأخبارِ الصادقةِ الصَّادرةِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في الله وفي صفاتهِ التي صَحَّحها أهلُ النَّقْل، وقَبِلَها النقّادُ الأثباتُ، يَجِبُ علَى المَرءِ المُسْلِمِ المؤمنِ الموفَّقِ الِإيمانُ بكلٌ وَاحدٍ منه كما وردَ، وتسليمُ أمْرهِ إلى اللهِ سبحانه وتعالى كما أمَر" فذكرَ جملةً من الصِّفاتِ، ثمَّ قال: "وإثباتُ الكلام بالحَرْفِ والصَّوْتِ، وباللُّغاتِ، وبالكَلِماتِ وبالسُّوَر،
(27) قاله في كتابه "التعليق في أصول الفقه" كما في "درء التعارض" 2/ 107.
وكلامُهُ تعالى لجبريلَ والملائكةِ، ولمَلَكِ الأرْحام، وللرَّحِم، ولملَكِ الموتِ، ولرضْوان، ولمالكٍ، ولآدَم، ولموسى، ولمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وللشُّهداء، وللمُؤمنينَ عنْدَ الحِساب، وفي الجنَّةِ، ونُزولُ القرآن إلى سَماءِ الدنيا، وكونُ القرآنِ في المَصاحف
…
" فذكر أشياءَ حتى قال: "نَقْبَلُها، ولا نَرُدُّها، ولا نتأوَّلها بتأويل المُخالفينَ، ولا نَحْملُها على تشبيهِ المشبّهينَ، ولا نَزيدُ عليها، ولا نُنْقِصُ منها، ولا نفسِّرها، ولا نكيّفها، ولا نُتَرْجِمُ عن صفاتهِ بلغةٍ غير العربيَّةِ، ولا نشيرُ إليها بخَواطر القُلوب، ولا بحَرَكاتِ الجَوارح، بل نُطْلِق ما أطلقَهُ اللهُ عز وجل، ونفسّرُ ما فسَّرهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابُه، والتابعونَ، والأئمَّةُ المَرضيّونَ من السَّلَف المَعروفينَ بالدّينِ والأمانةِ، ونُجْمِعُ على ما أجْمَعوا عليه، ونُمْسِكُ عَمَّا أمْسَكوا عنه، ونُسَلِّمُ الخبرَ الظاهرَ، والآيةَ الظاهرَ تَنزيلُها، لا نقول بتأويلِ المُعتزلةِ والأشعريَّة والجَهميَّة والمُلْحِدَة والمُجسِّمَة والمُشبّهةِ والكَرّاميَّةِ والمُكيّفةِ، بل نقْبَلُها بلا تأويلٍ، ونؤمنُ بها بلا تمثيلٍ، ونقولُ: الِإيمانُ بها واجبٌ، والقولُ بها سُنَّةٌ، وابتغاءُ تأويلِها بدعَةٌ" (28).
قلتُ: ابنُ سُرَيْج ذاك الِإمامُ الذي لا يُجْهَل قدرُهُ، ولا يُنْكَرُ فضلُهُ، به انتشَرَ فقهُ الشافعي رحمه الله، وربَّما فضّله بعضُ الأئمةِ على سائر أصحابِ الشافعي، حتى على المُزَنيّ تلميذِهِ، وقَدْ عُدَّ المُجدّدَ على رأس ثلاثِ مئةٍ، وأنْشَدَ فيه المنشِدُ:
اثنانِ قَدْ ذَهَبا فَبُورِكَ فِيْهِما
…
عُمَرُ الخَلِيفَةُ ثُمَّ حِلْفُ السُّؤْدَدِ
الشَّافِعِيُّ الألْمَعِيُّ مُحَمَّدٌ
…
إِرْثُ النُّبُوَّةِ وابنُ عَمِّ مُحَمَّدِ
(28) نقله ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإِسلامية" ص: 62 - 64.
أبْشِرْ أَبَا العبَّاسِ إنَّكَ ثالِثٌ
…
مِنْ بَعْدِهِمْ سُقْيا لِتُرْبَةِ أحمَدِ
فهل تعدّونَه -معشرَ الأشعريَّة- مجسِّماً حين أثْبَتَ الكلامَ بالحُروفِ واللُّغاتِ، وشهِدَ عليكم بالتأويلِ المَذموم؟ أمْ ماذا أنتم قائلون؟
5 -
الإِمام الفقيه الحُجَّة أبو حامد أحمد بن محمد الإسفرايينيّ، رأس الشافعية والمقدَّم فيهم:
كان من أشدِّ الناس على الأشعريَّة، وبالخُصوص على مُحَقِّقهم الأكبر أبي بكر الباقلانيّ.
قال الحافظُ أبو الحَسَن الكَرَجيُّ الشافعيُّ: "ولم يَزَل الأئمَّة الشافعيةُ يأنفونَ ويسْتَنكفونَ أنْ يُنْسَبوا إلى الأشعريّ، ويتبرَّؤونَ ممَّا بنى الأشعريُّ مذهَبَه عليْه، وينْهَوْنَ أصحابَهم وأحبابَهم عن الحَوْم حوالَيه، على ما سَمِعتُ عِدَّةً من المشايخ والأئمَّةِ -منهم الحافظ المؤتَمَن بن أحمد بن علي السَّاجيّ- يقولونَ: سَمِعْنَا جماعةً من المَشايخ الثّقاتِ قالوا: كانَ الشيخُ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإِسفراييني إمام الأئمَّة الذي طبقَ الأرضَ عِلْماً وأصْحاباً، إذا سعى إلى الجُمُعةِ من قطعيَّة الكَرَج إلى جامع المَنْصور، يدخُلُ الرّباطَ المَعروف بالزوزي، المُحاذِي للجامع، ويُقْبِل على مَنْ حضَرَ، ويقولُ: اشْهَدوا عليَّ بأنَّ القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، كما قالَه الإِمامُ ابنُ حنبل، لا كما يقولُه الباقلانيّ، وتكرَّرَ ذلك منه جُمُعات، فقيلَ له في ذلك، فقال: حتى ينتشرَ في الناس، وفي أهْلِ الصَّلاحِ، ويشيعَ الخبرُ في أهل البلاد: أنِّي بَريءٌ ممَّا هم عليه -يعني الأشعريَّة- وبريءٌ من مَذْهَب أبي بكرَ بن الباقلّاني، فإنَّ جماعةً من المُتفقّهةِ الغُرَباءِ يدخلونَ على الباقلّاني خُفْيَةً، ويقرؤونَ عليه، فيُفْتَنونَ بمَذْهَبهِ، فإذا رجَعوا إلى
بلادهم أظهَروا بدْعَتَهم لا مَحالةَ، فيظنّ ظانٌّ أنَّهم مِنّي تعلَّموهُ قَبْلَه، وأنا ما قُلتُهُ، وأنا بَريءٌ من مَذْهَبِ الباقلّانيّ وعقيدتهِ" (29).
قلتُ: فبالله عليكم معشرَ الأشعرية! أتُرَوْنَ الإِمامَ أبا حامد بَرِيء من التَّوحيدِ الصَّحيح حين بَرِىءَ من اعتقادِكم؟ أم هو مجسّمٌ يَدعو الناسَ إلى التشبيهِ وعدَم التنزيهِ؟
ولماذا فرق بين اعتقادِ الإِمام أحمد بن حنبل والباقلّاني، معَ أنَّه أفْضَلُ أئمَّتِكُم وأعظمُهم قَدراً؟
ولماذا يُشَهِّر به على رؤوسِ الناس؟
بل إنَّه قد شَهدَ عليه بأشدَّ من ذلك.
قالَ الإِمام أبو بكر عُبَيد الله بن أحمدَ الزاذقانيُّ (وكانَ ثِقَةٌ فاضِلاً):
"كنتُ في دَرْس الشَّيخ أبي حامدٍ الإِسفرايينيّ، وكانَ ينهى أصحابَه عن الكَلامٍ وعن الدُّخول على الباقلّاني، فبلَغَه أنَّ نَفراً من أصحابهِ يدخُلونَ عليه خُفْيَةً لقراءة الكَلام، فظنَّ أنّي معَهم ومنهم" -وذكر قصَّة قالَ في آخرها: "إنَّ الشيخ أبا حامد قالَ لي: يا بُنَيّ، قد بلغَني أنَّكَ تدخلُ على هذا الرَّجل -يعني الباقلّاني- فإيَّاك وإيَّاهُ، فإنَّه مُبْتَدعٌ يدعو الناس إلى الضَّلالة، وإلَاّ فلا تحضُرْ مَجْلِسي، فقلتُ: أنا عائذ بالله مما قيلَ وتائبٌ إليه، واشْهَدوا عليَّ أنِّي لا أدخُل إليه"(30).
(29)"درء تعارض العقل والنقل" 2/ 96 - 97.
(30)
رواه أبو الحسن الكَرَجي -كما في "درء التعارض"2/ 97 - بسند صحيح.
رَحِمَ الله الشَّيخَ أبا حامد، ما أشبهه بالأئمَّة الأوائلِ في التَّحذيرِ من أهْل البِدَع، والنَّهْي عن مُجالَسَتِهم.
وقال رحمه الله: "مَذْهَبي ومَذْهَبُ الشَّافعيّ وفُقَهاء الأمْصارِ: أنَّ القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، ومن قال: مخلوقٌ، فهو كافرٌ، والقرآنُ حملَهُ جبريلُ مَسْموعًا من الله تعالى، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم سَمِعهُ من جبريل، والصَّحابةُ سَمِعوهُ من رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي نتلوهُ نحنُ بألسنَتِنا، وفيما بينَ الدَّفَّتين، وما في صُدورنا، مَسْموعًا ومَكْتوبًا، ومَحْفوظًا ومَنْقوشًا، وكلّ حَرْفٍ منه كالباءِ، والتَّاءِ، كلّهُ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، ومَن قالَ: مَخلوقٌ، فهو كافرٌ، عليهِ لَعائنُ الله والملائكةِ والنَّاسِ أجمعينَ"(31).
قلتُ: فانْهارَ بنيانُكم معشَر الأشعرية.
وأمَّا أنْتُمْ أيُّها الأصحابُ السَّلفيونَ، فإنْ كانتْ تغرُّكم الكثرةُ من المُنْتسبينَ إلى الأشعري، فاعْلموا أنَّ الكثرةَ في أوَّلِ حالِ الأشعرية كانت على تبدِيعها وذمّ اعتقادِها، وهؤلاء الذين ذكَرْناهُم من الأئمَّةِ ومن يأتي ذكرُهم وما قالوه في حقّ الأشعريةِ، من أئمَّة الشافعيةِ والحنابلةِ وغيرهم، مِمَّن كانَ أصحابُهم إنَّما يصدرونَ عن أقوالِهم وكلامهم، لَهُوَ أكبرُ شاهدٍ على ما أقولُ، ولكن حين تباعَدَ الزَّمانُ ازدادَ الإعراضُ عن القرآنِ والسُّنَن وهَدْي السَّلَف والأئمَّةِ، فكَثُرَ أهلُ البِدَع.
(31) رواه أبو الحسن الكَرَجي -كما في "درء التعارض" 2/ 95 - 96 - بسند صحيح.
6 -
الإِمام أبو الحُسَين يحيى بن أبي الخَيْر العمرانيّ، فقيه الشَّافعية وإمامهم ببلاد اليمن:
قالَ الإِمام ابن القيّم: "له كتابٌ لطيفٌ في السُّنَّة على مَذْهَب أهل الحديث، صرَّحَ فيه بمَسْألةِ الفَوْقيَّةِ والعُلُوّ، والاستواءِ حقيقةً، وتَكَلُّمِ الله عز وجل بهذا القرآن العربيّ المَسموع بالآذان حَقيقةً، وأنَّ جبرائيلَ عليه الصلاة والسلام سَمِعَه من الله سُبحانه حقيقةً، وصرَّحَ فيه بإثباتِ الصِّفاتِ الخبرية، واحتجَّ بذلك ونصَرَه، وصرَّحَ بمخالفةِ الجَهمية النُّفاة"(32).
7 -
الإِمام أبو عبد الله الحسن بن حامد، شيخ الحنابلة:
كان مِمَّن أنكرَ اعتقادَ الأشعرية (33).
8 -
الإِمام الحافظ أبو نَصْر السِّجْزي، شيخ السنة:
له في ذلك كتاب "الإِبانة الكبرى في أنَّ القرآنَ غيرُ مخلوق"(34) وقد حكَيْتُ عنه بعضَ كلامه فيما سَبق في هذا الكتاب، وهو من أشدِّ الناس على الأشعريَّةِ، بل إنَّه قد بالغَ في ذلك حتى قال:"لم يكن خلافٌ بين الخَلْق على اخْتِلاف نِحَلِهم، من أوَّل الزَّمانِ إلى الوَقْتِ الذي ظهَر فيه ابن كُلّاب، والقَلانسيُّ، والأشعريُّ، وأقرانُهم، الذين يتظاهرونَ بالرَّدِّ على المُعتزلة وهم معَهم، بل أخسّ حالًا منهم في الباطن، من أنَّ الكلامَ لا يكونُ إلَّا حَرْفًا وصَوْتًا، ذا تأليفٍ واتّساقٍ، وإن اختلفتْ به اللُّغاتُ"(35).
(32)"اجتماع الجيوش الإِسلامية" ص: 71.
(33)
"درء التعارض" 2/ 100.
(34)
"سير أعلام النبلاء" 17/ 654.
(35)
"درء تعارض العقل والنقل" 2/ 83.
9 -
الإِمام الحُجَّة الحافظ أبو القاسم سعد بن علي الزَّنجاني: كان من مُنكري اعتقاد الأشعرية (36).
10 -
الإِمام قِوَام السُّنَّة إسماعيل بن محمد بن الفَضْل الأصبَهاني:
قال: "قال أصحابُ الحَديث وأهلُ السُّنَّة: إنَّ القرآنَ المكتوب الموجودَ في المَصاحفِ، والمحفوظَ الموجودَ في القلوبِ، هو حقيقةً كلامُ الله عز وجل، بخلافِ ما زعَمَ قوْمٌ: أنَّه عبارةٌ عن حقيقةِ الكلام القائم بذاتِ الله عز وجل ودَلالةٌ عليه، والَّذي هو في المُصْحَف مُحْدَثٌ وحُروفٌ مَخلوقةٌ، ومَذْهَبُ علماءِ السُّنَّةِ وفُقَهائهم: أنَّه الذي تكلَّمَ الله به، وسَمِعَه جبريلُ من الله، وأدَّى جبريلُ إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وتحدَّى به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وجعلَه الله عز وجل دلالةً على صِدْقِ نبوَّتِهِ ومُعجزةً، وأدَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الصَّحابَةِ رضوانُ الله عليهم حسبَ ما سَمِعَه من جبريلَ عليه السلام، ونقَلَه السَّلَفُ إلى الخَلَفِ قَرْنًا بعدَ قَرْنٍ"(37).
11 -
الحافظ الفقيه العَلَم موفّق الدين ابن قدامة المَقْدسيّ:
ولا يخفى قدرُهُ وفضلُهُ، قد كانَ رحمه الله شديدًا جدًّا على الأشعريَّة، وله في ذلك تصانيف في الرَّدّ عليهم، وإظهار باطلهم، وقَدْ كانَ مشهورًا ما بين آل قُدامَة وآل عَساكِر من النَّفْرَةِ بسَبَبِ الاعتقادِ.
وخلائق سِوى مَن ذَكَرْنا لا يُحصِيهم إلَّا الله من الأوائلِ والأواخِرِ، كانوا جَميعًا على إنكارِ اعتقادِ الأشعريَّةِ وأشباهِهم في مسألةِ القرآنِ، واعتقادِ
(36)"درء تعارض العقل والنقل" 2/ 101.
(37)
"الحجَّة" ق 103/ ب - 104/ أ.
خلافِ ما يعتقدونَ، وهم في ميزانِ الأشعريَّةِ مُشَبّهةٌ مُجَسّمةٌ، معَ أنَّهم عالَةٌ على أكثرِهم في الفِقْهِ والعِلْمِ.
وفي الجُمْلة فإنَّ قولَ الأشعريَّة والماتُريديَّة في كلام الله تعالى، ليسَ هو قولَ السَّلَف، بل ولا يعْرفُه السَّلَفُ، وإنَّما هو اعتقادٌ مبتَدَعٌ زائغٌ، موافِقٌ في حقيقةِ الحالِ لاعتقادِ الجَهْميَّة الذين كفَّرهم السَّلَفُ وهَجَروهم، وأمَروا بهَجْرِهم، وإظهارِ باطِلِهم والتَّحْذيرِ منهم.
قال شيخُ الإِسلام: "وإنكارُ تَكَلُّمِ الله بالصَّوْتِ وجَعْلُ كلامهِ معنًى واحدًا قائمًا بالنفس بدْعَةٌ باطلةٌ لم يذهَبْ إليها أحدٌ من السَّلَف والأئمَّةِ"(38).
وقال: "وهؤلاء يردُّونَ على الخلْقيَّةِ -يريدُ المعتزلةَ- الذينَ يقولونَ: القُرآن مخلوقٌ، ويقولونَ عن أنْفُسِهم: إنَّهم أهْلُ السُّنَّة المُوافقونَ للسَّلَف الذين قالوا: إنَّ القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، وليسَ قولُهم قَوْلَ السَّلَف، لكنْ قَوْلُهم أقْرَبُ إلى قَولِ السَّلَفِ من وجهٍ، وقَوْلُ الخَلْقيةِ أقْرَبُ إلى قَوْلِ السَّلَفِ من وجْهٍ"(39).
قُلْتُ: وهذا القرْبُ لا يَجْعَلُهم من أهْلِ السُّنَّة، كما أنَّ قُرْبَ المعتزلةِ لم يَجْعَلْهم من أهْل السُّنَّة.
وقالَ شيخ الإِسلام أيضًا: "فكُلُّ من المُعتزلةِ والأشعريَّةِ في مسائل كلامِ الله وأفعالِ الله، بل وسائِر صفاتهِ، وافَقوا السَّلَفَ والأئمَّةَ من وجْهٍ،
(38)"مجموع الفتاوى" 6/ 528.
(39)
"مجموع الفتاوى" 12/ 132.
وخالَفوهم من وجْهٍ، وليسَ قَوْلُ أحدِهما هو قولَ السَّلَف دونَ الآخَر، لكن الأشعريَّةَ في جِنْسِ مسائل الصِّفاتِ، بل وسائِرِ الصِّفاتِ والقَدَر أقْرَب إلى قَوْلِ السَّلَف والأئمَّةِ من المُعتزلة" (40).
وكلامُ شيخ الإِسلام فيهم لا يُحصى كثرةً، وهذا من أسْبابِ نقمتِهم عليه، وقد ضمَّنتُ الكثيرَ من ذلك كتابي هذا.
قلتُ: فالأشعريَّةُ والماتُريديَّةُ إذًا لا يصِحُّ أنْ يكونوا هم أهْلَ السُّنَّة، لِما جانبوا فيه السُّنَّة، وترَكوا فيه طريقَ السَّلَف والأئمَّة، إذْ بدعَتُهم من شرِّ أنواعِ البدَعِ، إنْ لم تكنْ شرَّها وأسوأها، ولولا التأويلُ الذي وقَعوا بسببهِ في مُخالفةِ اعتقادِ السَّلَف لكانَ للكلامِ معهُم صورةٌ أخرى!!.
فتأمَّل أخي ذلك واحْذَرْ مخالفةَ ما جاءَ به الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم، وتَرْك سبيلِ المؤمنينَ من أهلِ خير القرون، ولا تَسْتَهوينَّكَ الأراءُ والظُّنون فتقول على الله غير الحقّ، وتُجادل في آياتهِ بالباطل.
ومَن للذَّبّ عنِ السُّنَن والعَقيدةِ السَّلَفية إن نحنُ واطَأنا المُبتدِعَةَ واعْتذَرْنا لهم وجَادَلْنا عنهم؟
فالله المُستعانُ على ما آل إليه الحالُ من غُرْبَةِ السُّنَّة وظُهورِ البِدَع، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
• • • • •
(40)"مجموع الفتاوى" 12/ 134 - 135.