الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: جملة اختلاف الناس في مسألة اللفظ
حينَ ابتدَعَ الجَهْمِيَّةُ -قاتَلَهم الله- القَوْلَ بأنَّ ألفاظَ العباد بالقرآن مخلوقةٌ، أوقَعَ ذلك لَبْساً، جَرَّ بعض المُنْتسبينَ إلى السُّنُّةِ والحديث إلى الوقوع في بعضِ المَحاذير، بل جَرَّ آخرينَ إلى مُوافَقَةِ الجَهميةِ في حقيقةِ قولهم ومُرادِهم، وكانَت مسألةُ اللَّفظ سِتراً يَسْتَتِرُ به المنافقونَ من الجَهْمِيَّة، لِما يَخْشَوْنَ من فضيحَةِ أهْلِ الْحَقِّ لهم حينَ يصرّحون باعتقادِهم، فيقولونَ: القرآنُ مخلوقٌ.
وكان الناسُ قد افترقوا حينَ ظَهَرَتْ هذه البدعةُ إلى أرْبَعِ فِرَقٍ:
الأولى: الجهميّةِ القائلينَ بخَلْقِ القرآنِ، تستّروا بالقولِ: ألفاظُنا بالقرآنِ مخلوقةٌ، ومُرادهم: أنَّ كلامَ الله مخلوقٌ اعتقادَ أسْلافهم.
والثانية: طائفةٍ شابَهَتِ الجَهْمِيَّةَ في بعضِ قولِهم، وهم الكُلاّبيَّة -أتباعُ عبد الله بن كُلاّب- فأطلَقوا القولَ كالجَهْميَّة: ألفاظُنا بالقرآنِ مخلوقةٌ، ومُرادُّهم: أنَّ القرآنَ العربيّ الذي نزلَ بهِ جبريلُ، الذي هو الألفاظُ المؤلَّفةُ من الحُروفِ كالألفِ والباءِ والتَّاءِ مخلوقٌ، وأنَّ الله تعالى لمْ يتكلَّم بالحُروفِ، إنَّما كلامُه معنى مُجَرَّدٌ عن الألفاظِ وهذا قديمٌ غيرُ
مخلوقٍ، وهؤلاءِ هم المُسَمَّونَ بـ "اللفظيةِ النافية".
والثالثة: طائفةٍ من أهْلِ الحديثِ، كأبي حاتِمٍ الرَّازي الحافِظِ، وأبي سَعيد الأشَجَّ (11)، وغَيْرِهما، لمَّا رَأوْا تَضَمُّنَ قَوْلِ الجَهْميةِ والكُلاّبيَّةِ معنًى باطلًا، أرادوا الردَّ عليهم، فأطلقوا القولَ بضِدَّ مَقالَتِهم، فقالوا. ألفاظُنا بالقرآنِ غيرُ مخلوقةٍ.
ومرادُهم: أنَّ الألفاظَ المؤلَّفةَ من الحُروف، والتي هي القرآنُ العربيُّ الذي نزَلَ به جبريلُ عليه السلام من ربّ العالَمين غيرُ مَخلوقةٍ، لكن لمّا كان إطلاقُهم مُوهِماَّ إدخالَ فِعْل العَبْد فيهِ والذي بيّناه فيما مضى، وقعَ المَحذورُ، فتَبعَتْهُم طائفةٌ على مقالَتهم وأدخلوا في إطلاقها صَوْتَ العَبْدِ بالقرآن وفعلَهُ، وربَّما توقَّفَ بعضُهم في ذلك، ولهؤلاء هم المُسَمَّون بـ (اللفظية المُثْبِتَة).
والرابعة: طاثفةِ الأئمَةِ الرباّنيين من أهل السُّنَّة والاتّباع -كالإِمامين أحمدَ والبُخاريّ وأتباعِهما- مَنَعوا إطلاقَ القَوْلَيْن السَّابِقَيْن: اللَّفظُ بالقرآنِ مخلوقٌ، وغيرُ مخلوقٍ، وقالوا: القرآنُ كلامُ الله ووحْيُهُ وتنزيلُهُ، بألفاظهِ ومَعانيهِ، ليس هو كلامُه بألفاظهِ دونَ مَعانِيهِ، ولا بِمَعانيهِ دونَ ألفاظهِ، وأفعالُ العباد وأصواتُهم مخلوقةٌ، والعبدُ يقرأ القرآنَ، فالصَّوتُ صَوتُ القارىء، والكلامُ كلامُ الباري.
هذه جملةُ مذاهب الناس حينَ ظهَرت بدعةُ اللَّفْظ.
(11) ذكره عنهما الحافظ أبو الشيخ الأصبهاني، فيما رواه عنه قِوَام السنَّة إسماعيل بن الفضل في كتابه القيم "الحجة" ق 112/ ب - 113/ أوأبو حاتِم أسمه محمد بن إدريس، والأشج عبد الله بن سعيد.