الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبحان الله! أيُّ عِلم وأيُّ حكمةٍ يُحَصِّلُها من كانت بضاعتُهُ اللّغوَ والجَدَلَ والكلامَ الذي لا يورث إلَاّ قسوةَ القلوب بل والحيرةَ والشَّكَّ؟! فإنَّ رؤوسَ هؤلاء والأعلامَ فيهم، من ذوي الأقدام الراسخة، أمثال: إمام الحَرَمين، والشّهرستانيّ، والرّازِيّ، والآمِدِيّ، عاشها غالبَ الأعمار في الحَيْرة والشَّكِّ، معَ ما حَصَّلوا من المعرفةِ بالكلام والجَدَلِ، ومُناظَرَةِ مُخالفيهم من أهل الأهواءِ، حتى تكونَ خاتمةُ الواحدَ منهم أنَّ يسأل ربَّه الموتَ على دين العجائزِ.
فأقْبِلْ - رَحِمَك الله - على طريقة سلفِكَ الكرامِ، واعتصم بسَبيلهم.
قال الأوزاعي رحمه الله: "عليكَ بآثار مَن سلفَ وإنْ رفَضَكَ الناسُ، وإيَّاك ورأي الرِّجالِ وإنْ زخرفوه بالقول؛ فإنَّ الأمرَ ينجلي وأنتَ منه على طريقٍ مستقيمٍ"(20).
وقالَ: "فاصبر نفسَك على السُّنَّة، وقِفْ حيثُ وقَفَ القوم، وقُلْ فيما قالوا، وكُفَّ عَمَّا كَفّوا عنه، واسْلُكْ سَبيلَ سَلَفِكَ الصالح؛ فإنَّهُ يَسَعُكَ ما وَسِعَهم"(21).
•
المسألة الرابعة:
أهل البدع والكلام لا يميّزونَ اعتقادَ السلف من غيره، وربّما لم
(20) رواه البيهقي في "المدخل" رقم (233) وسنده صحيح.
(21)
رواه قِوَام السنة إسماعيل بن الفضل في "الحجة" ق 6/ أ - ب وسنده صحيح.
يَعرِفوه؛ فلذا تجدُهم يذكرونَ في كتبهم في العقائدِ والفرقِ اعتقادَ جَميع الطوائف، وحين يذكرون اعتقادَ السَّلَفِ لا يذكرونه على ما هو عليه؛ فإنَّك ترى العارفَ فيهم يَصِفُ مذهبَ السلف في الصفات بأنَّهمٍ كانوا مفوّضة، لا يَدْرون ما معاني الصفات، وهذا جَهلٌ على السَّلَف؛ فإنَّهم كانوا أعظمَ الناس فَهْماً وتدبُّراً لايات الكتاب وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، خاصّةً ما يتعلقُ بمعرفة الله تعالى، فكانوا يَدْرون معاني ما يقرؤون ويَحْمِلونَ من العلم، ولكنَّهم لم يكونوا يتكلَّفون الفهمَ للغيب المحجوب، فلم يكونوا يخوضونَ في كيفيَّات الصفاتِ، شأنَ أهل الكلام والبِدَع؛ فإنَّ هؤلاء حين خاضوا في ذات الله وصفاته، وَوَقعوا في التأويل والتَّعطيل، إنَّما ألجأهم إلى ذلك الضِّيقُ الذي دخَلَ عليهم بسبَب التثبيهِ، فأرادوا الفِرارَ منه، فوقَعوا في التَّعطيل، ولم يَقَعْ تعطيلٌ إلَاّ بِتَشبيهٍ، ولو أنَّهم نزّهوا الله تعالى ابتداءً -كفعل السَّلَفِ- عن مشابهة الخلق، وأثبتوا الصفةَ مع نفي المُماثلة؛ لسَلِموا ونَجَوْا، ولوافَقوا اعتقادَ السَّلَفِ، ولَبانَ لهم أنَّ السَّلَفَ لم يكونوا حَمَلَةَ أسفارٍ لا يَدْرون ما فيها.
قال شيخ الإِسلام ابنُ تيمية وهو يصف طريقةَ السَّلَفِ في باب الاعتقاد: "ومَنْ تدبَّرَ كلامَ أئمة السُّنَّة المشاهير في هذا الباب؛ عَلِمَ أنَّهم كانوا أدَقَّ الناس نَظَراً، وأعلمَ الناس في هذا الباب، بصحيحِ المنقولِ وصَريح المعقولِ، وأنَّ أقوالَهم هي المُوافقةُ للمنصوص والمعقول، ولهذا تأتلفُ ولا تختلفُ، وتتوافقُ ولا تتناقضُ، والذين خالَفوهم لم يفهموا حقيقةَ أقوالِ السَّلَفِ والأئمةِ، فلم يعرفوا حقيقةَ المنصوص والمعقول، فتشعَّبَتْ بهم الطرقُ، وصاروا مختلفينَ في الكتاب، مخالفينَ للكتاب، وقد قالَ
تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176](22).
وهؤلاء تراهم يذكرونَ المذهبَ، يَحْسَبونَهُ مذهب السَّلَفِ، وهو من كلام أهل البدعِ، وإنَّما ذلك لجَهْلِهم بالمنقولِ عن السَّلَفِ، بَلْ ربَّما وافَقَ ذكرُهُم بعضَ أقوالِ السَّلفِ، يَحْسَبُونها من أقْوال أهْل البدع، فيردّونَها ويَسْتنكرونَها، بل ربَّما كفَّروا القائلَ بها مِن غير أنْ يَعْلَموا أنَّها مذهبُ السَّلَفِ واعتقادُهُم.
ولذلك فقد يَصِفون اعتقادَ السَّلَفِ بأنَّه اعتقادُ المجسِّمة، أو المشبّهة، أو الحَشْوية (23).
سبحان الله! إنَّ قلوبَ أصحاب البدع تتشابَهُ؛ فإنَّ الجهميةَ -أوَّلَ الأَمر- كانوا يَصِفون بذلك أئمَّةَ السُّنَّة ومَن يُتابِعُهم، ثمَّ لمَّا مضى العهدُ فظهَرَ الأَشعريَّةُ والماتُريديَّة وأشباهُهم؛ كانتَ هذه الأوصافُ لأهل السُّنَّة على ألسنتِهِم.
وهذه الأوصاف إنَّما يُطلقها أهلُ البدع على أهل السُّنَّة لِيُنفِّروا الخلقَ عن اعتقاد السَّلَف، ويرغّبوهم في بدعهم، خاصّةً وأنَّهم يصفون أنفسَهم بمقابل ذلك بأنَّهم أهلُ السُّنَّة.
(22)"درء تعارض العقل والنقل" 2/ 301.
(23)
بل إني رأيت بعض هؤلاء المبتدعة جعل اعتقادَ السلف الصحيح القويم هو اعتقاد المعتزلة والكرّامية، ذلك هو ابن خليفة عليوي الأشعري، الهالك في تعصّبه ضدّ أهل السنة في كتابه المحشو بالأغاليط الذي سمَّاه زورًا "هذه عقيدة السلف والخلف في ذات الله وصفاته وأفعاله
…
".
ولقد أدركَ ذلك أئمَّتنا الأوائلُ، فجَعَلوا من شعار الجَهْمية والزَّنادقة وصفَهم أهلَ السُّنَّة بهذه الأوصاف.
قَال الإِمام أبو حاتِمٍ الرازيُّ: "وعلامَةُ أهل البدع: الوقيعةُ في أهلِ الأثَرِ، وعلامةُ الزَّنادقةِ: تسميتهُم أهلَ السُّنَّةِ حَشْويةً، يُريدون إبطالَ الآثار، وعلامةُ الجَهْمية: تسميتُهم أهلَ السُّنَّة مُشبّهةً، وعلامةُ القَدَرِيَّة: تسميتُهم أهلَ الأثَر مُجْبِرةً، وعلامةُ المُرْجئَةِ: تسميتهُم أهلَ السُّنَّةِ مُخالِفةً ونُقصانيَّةً، وعلامةُ الرَّافضةِ: تسميتهُم أهلَ السُّنَّةِ ناصبةً، ولا يلحَقُ أهلَ السُّنَّةِ إلَاّ اسمٌ واحدٌ، ويَستحيلُ أنْ تَجْمَعَهم هذه الأسماءُ"(24).
قلتُ: أرادَ يلحَقُهم اسمُ أهلِ السُّنَّة دونَ هذه الأسماء.
وقال الإِمامُ الحافظُ أحمدُ بن سِنانٍ الواسطيُّ: "المشبّهةُ الذين غَلَوا فجاوزوا الحديثَ، فأمَّا الذين قالوا بالحديثِ؛ فلم يزيدوا على ما سَمِعوا؛ فهؤلاء أهل السُّنَّةِ، والمتمسِّكونَ بالصَّوابِ والحقِّ، وليس هم بالمشبهةِ، ما شبّهوا هؤلاء، إنَّما آمَنوا بما جاء به الحديثُ، هؤلاء مؤمنونَ مصدِّقون بما جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم والكتابُ والسُّنَّةُ"(25).
فالسَّلَف والأئمة لم يكونوا كما يصفهُم هؤلاء المبتدعةُ، وكيفَ يُظَنُّ ذلك بحَمَلَةِ القرآن والسُّنَن والآثار؟!
ولكنَّ أهل البدعِ أعداءُ السُّننِ أرادوا أن يُعْرِض الناس عن السنن،
(24) رواه ابن الطبري في "السنة" 1/ 179 بسند صحيح، وانظر: ص 182.
(25)
رواه إسماعيل بن الفضل في "الحجة" ق 32/أبسند صحيح.