الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
لقد بعثَ الله تعالى رسولَه محمَّدًا بالهُدى ودين الحَقَّ، وأنزلَ معهُ الكتابَ نورًا وهدًى للناسِ، فربّى أصحابَه بصِغار العلمِ وكبارِه، فآمَنوا بما جاءَ به وصدَّقوهُ، واتبعوا النُّورَ الذي أنزلَ معَهُ، وكانوا على هَدْيِهِ ونَهْجِهِ وسُنَّتِهِ، فقامُوا بذلكَ وأخَذُوا الكتابَ بقوَّةٍ.
وتبعَهم على ذلك خيارُ الأمَّة بعدَهم.
حتى خَلَفَ من بَعْدِهم خَلْفٌ أعْرَضوا عن الكتابِ، واتَّخذوهُ وراءَهم ظِهريًا، فشرَعوا الشرائعَ دونَه بظُنونٍ وأوهامٍ حَسِبوها حُجَجًا وبَراهينَ، فعزَّزَ لهم الشَّيْطانُ ذلكَ، فحكَموا به على الكتاب المعصومِ، وظنّوا بذلك أنَّهم بَلَغوا غايةَ العُلوم، فظهَرَ الجَعْدُ بن دِرهَم بفاسدِ المَقالةِ، استفادَها من فاسدِ المَعْقول الذي هو في الحقيقةِ عينُ الجَهالةِ، فأعلنَ بدعته وباطله إعلانًا، فصرَّح بتكذيب القرآن، وقالَ: لم يكلّم الله موسى تكليمًا، ولم يتَّخِذْ إبراهيم خليلًا، فأبطلَ بهَواهُ ما جاءَ به الرَّسول صلى الله عليه وسلم، ونفى أنْ يكون لله
كلامٌ، فشبَّههُ بالأبكَمِ، وأبْطلَ صلتَه تعالى بالعبادِ، فلا رسولَ مُرْسَلٌ، ولا كتابَ مُنْزَلٌ.
فجاءَ من بعدهِ رأسُ الضَّلالة الجَهْم بن صَفْوانَ، فزادَ على سلفه إضلالًا للعبادِ، وأدخَلَ عليهم من الشُّبَه ما عمَّ به الفَسادُ، فقرَّت به عينُ إبليسَ اللَّعين وتحقّقَتْ له البُغْيَةُ والمُرادُ.
قاتلَ الله جَهْمًا، كم جرَّ على هذه الأمَّةِ من الكُفْر والضَّلال؟ فنفى عن الله صفاتِ كمالهِ، فشبَّههُ بالعدَم، بل هو في الحقيقةِ عنده وعند أوليائِه عَدَمٌ مَحْضٌ، لا يتَّصف بصفَةٍ، ومن المُحال إثباتُ ذاتٍ مُجرّدةٍ عن الصَّفاتِ، فكذَّبَ جَهْمُ الرَّسولَ والقرآنَ، وجاءَ بما تقشعرُّ من ذكرهِ أبدانُ أهلِ الايمانِ، وحسْبُكَ قولُ الإِمام الحُجَّةِ عبد الله بن المبارك:"إنَّا لنَحْكي كلامَ اليهودِ والنَّصارى، ولا نستطيعُ أنْ نحكيَ كلامَ الجَهْمية"(1).
فتذكَّرْ ما وَصَفَتْ به اليهودُ والنَّصارى ربَّهم تعالى من النَّقائِصِ، وما نَفَتْ عنه من صفاتِ كمالِهِ مما قصَّ الله تعالى في كتابهِ، وما جاءَ عن نبيّه صلى الله عليه وسلم، واعلَمْ أنَّ الجَهميَّةَ جاؤوا بما هو أعظم، فإنَّ اليهودَ والنَّصارى لم يَصِفوا الله بالعدَم، ولم يقولوا: هو في كلّ مكانٍ قول الجَهمية، ولم يقولوا: إنَّ كلامَه مخلوقٌ قول الجَهْميةِ.
فعَمِلَ جَهْمٌ على بَثّ سُمومهِ بين المسلمينَ فكانَ للشرّ رَأسًا.
ذُكر عند أبي نُعَيْم الفَضْل بن دُكَيْن مَن يقولُ: القرآنُ مخلوقٌ، فقال:"والله ما سمِعْتُ شيئًا من هذا حتى خرَجَ ذاك الخبيثُ جَهْمٌ"(2).
(1) أخرجه أبو داود في "المسائل" ص: 269 وعثمان الدارمي في "الردّ على الجهمية" رقم (24، 394) و"الرد على المريسي" ص: 4 وعبد الله بن أحمد في "السنَّة" رقم (23) بسند صحيح.
(2)
رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (207) بسند صحيح.
فتبعهُ على ذلك أقوامٌ، حتى حمَلَ الرايةَ بِشْرُ بن غِياثٍ المِرِّيسيُّ
ورؤوس الاعتزالِ، فاحتضَنَت دعوَتَهم الحُكومةُ والسُّلطانُ، فعَمِلَت القوّة في الناس عَمَلها ووقعَت المِحْنةُ.
ولقد كانت مسألةُ القرآن من أبْرَز ما ظَهَر به جَهْمٌ من الكُفْرِ والبدعةِ، وقد كانَ يَنفي أن يكونَ لله كلامٌ، على نَهْج سَلَفِه الجَعْدِ بن دِرْهَم، ولكنَّه من بَعْدُ خافَ سطوةَ أهْلِ الحقّ وظهورَهم فحاباهم، فأثبتَ لله كلاماً، لكنَّه عنده ما خلقَه الله في غيرِهِ، وهذا هو الذي تلقّتهُ عنه المعتزلةُ، ودَعَوْا إليه الناسَ، وعزَّزَتهم عليه قوّة السُّلْطان، وهم في الحقيقةِ على أصْلِهم الجَهمي في نَفْي الكلامِ، لكنَّهم ادَّعوا إثباتَه في الظاهر على معنى فاسدٍ باطلٍ، كما سيأتي شرحُهُ ونقضُهُ.
وإلى هذا العَهْدِ، وهو على وجْهِ التَّحديد عهدُ الإِمام أحمد بن حنبل وطبقتهِ، لَمْ يكن ظهَرَ في كلام الله من البِدَعِ سوى هذه البدعةِ، فناضَلَ أهلُ الحقّ من أجل دَحْضِها وإبطالِها.
قال شيخ الإِسلام: "لمَّا أظهروا هذه البدعةَ اشتدَّ نكيرُ السَّلَفِ والأئمةِ لها، وعَرفوا أنَّ حقيقتها أنَّ الله لا يتكلَّمُ ولا يأمرُ ولا يَنهى، إذ الكلام وسائرُ الصفات إنَّما يعودُ حكمُها إلى مَن قامت به"(3).
ثمَّ لمَّا وقعت المحنةُ في القرآن: هل هو مخلوقٌ، أو غيرُ مخلوقٍ، وانكشفتْ بصُمودِ أهل الحقّ وثَباتِهم على أنَّ القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوق، وظُهورِهم على الجهميةِ المعتزلةِ القائلينَ: بأنَّ القرآنَ كلامَ الله مخلوقٌ،
(3)"مجموع الفتاوى" 6/ 518.
وحَقَّ الله بذلك الحقَّ ونصَرَ أهلَه، عندئذ مَكَرَتِ الجهميةُ مَكْراً جديداً لتدخُلَ على الناس من طريقٍ أخرى من طُرُق التَّلبيس والتَّمويه، فأظهروا بدعةَ اللَّفظ التي شرحْتُها في الباب السابق، وآخرونَ منهم ثَبَتوا على التقيّة لأهْل الحقّ، فوقَفوا، ولَمْ يكن وقوفاً عن ورَعٍ وديانةٍ، وإنَّما كانَ عن خوفٍ ومَهابَةٍ، أو عن شَكٍّ وتردّدٍ، كَما قد شرحته في الباب الأول.
فتلقّفَ بدعةَ اللَّفظ طائفةٌ من المُنتسبينَ إلى السُّنَّة، الذَّابينَ بزَعْمِهم عنها، وحَسِبوها هي المقالةَ الوسَطَ، ومن خِلالها حاولوا الردَّ على الجَهمية المعتزلة معَ اتّفاقهم معهم في حقيقةِ مذهَبهم، وكانَ من حامِلي رايةِ هؤلاءِ ذاكَ المَدْعو عبدالله بن سعيد بن كُلّاب أبو محمد القطّان البَصريّ، الذي تُنْسَبُ له طائفة (الكُلّابية) وكانَ رجُلاً يُذْكَر بالجَدَلِ والمُناظرهِ، ولَمْ يكن مَعْدوداً في أهل الرّوايةِ والأثر مع قِدَم عهدِهِ، وهذا من عَلَامة الخُذْلان (4)، وكانَ من حسنَتهِ إثباتُ الصفاتِ، وربَّما كانَ بعضُ ذلك على مَعاني محرّفةٍ مبتدَعَةٍ، وقد ردَّ على الجَهمية المعتزلةِ من بعض الوجوهِ التي جعلَت بعضَ
(4) وإني لأعجب ممَّن يصفه بـ "إمام أهل السُّنَّة في عصره، وإليه مرجعها" من بعض محققي الكتب، سبحان ربي! بماذا استحق هذا اللقب؟ أين ذهب أئمة السُّنَّة في زمانه؟ أين أحمد بن حنبل؟ وأين إسحاق بن راهُوَيْه؟ وأين مَن كان في تلك الطبقة من أعلام الهدى؟ ليكون ابن كُلّاب مرجعَ أهل السنَّة وإمامهم؟ وكيف يستحقّ هذا الوصفَ من كانت بضاعَتُه الكلامَ والجدلَ، ومن كان خِلْواً من السُّنن والأثر، سبحان الله! كم انعكست الحقائقُ في زماننا وانقلبت الموازين؟ وإني لا أحسَب صاحب هذه المقالة إلَاّ أحدَ رجلين: صاحب بدعةٍ يَتَسَتَّر بتحقيق كتب علماء السنَّة ليدسَّ في حواشيها سمومَه، أو جاهلًا غلبَ عليه جهله -كأكثر المدّعين للعلم من أهل زماننا- لا يفرَّقُ بين أهل الحقّ وأهل الباطل.
أهل العلْمِ والسُّنَّة يعدّونها محامدَ له.
ولكنَّه في مسألة القرآن أحدَثَ ما لَم يُسْبَق إليه، ووافقَ الجهمية المعتزلةَ في بعضِ أصُولهم، بل إنَّ تحقيقَ قولهِ يَرْجِعُ إلى قولِهِم، ووافقَهم في ردّ دلائل القرآن والسُّنَّة الموافقةِ لاعتقادِ السَّلَف.
وكانَ له أتباعٌ وافقوهُ على مقالَته وتَبِعوه عليها، حتى جاء الأشعريُّ (5)
(5) هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري، الذي تُنْسبُ إليه طائفة (الأشعرية)، وقد كانَ صاحب نظر وكلام، ذكيّاً فَطِناً، إلَّا أنَّ تَربّيَهُ في أحضانِ المعتزلة حَرَمه الانتفاعَ بذكائهِ وفطنتهِ، فنشأ على أصولهم واعتقادِهم، قيل: أربعين سنةً، ثمَّ نَزَع عن ذلك وتابَ منه، وأخذَ يردُّ عليهم، وصنَّفَ المصنفاتِ في ذلك، ووافقَ أهلَ السنَّة والسَّلَف في أكثر مسائل الأصول، لكن مع ذلك بَقِيَتْ فيه بقيةٌ من خُلاصة العُمُر الذي قضاه في الاعتزال، ولم يتوجَّه بعد توبته لتلقّي السُّنن والآثار -كما كانَ يفعلُ أهلُ السنَّة في زمانه- إلَاّ قليلًا، فطغى فكرُه القديمُ على طريقتهِ، فأخذ يَرُدُّ على المعتزلة بنفس قواعدهم، وربَّما زادَ عليها قليلًا من الأثر، وكانت هذه طريقةُ ابن كُلّاب وأتباعه، فكان أقرب إلى طريقته منه إلى أهل السنَّة والسَّلَف، فإنَّه وافقه وسلكَ طريقته في مسألة القرآن والصفات.
فرجَعَ الأشعريُّ عن بدعةِ الاعتزالِ إلى بدعة ابن كُلّاب، ومن حسنة رجوعه إثباتُ الصفات والرُّؤية وغير ذلك من عقيدة أهل السنَّة، ووافقَ الحقَّ في غالب ما رجع إليه، وجانبه في بعضه، ومن ذلك مسألة القرآن، وهي أعظمُ المسائل خطورةً، فقد وافق فيها ابن كُلّاب، وقد علمتَ أنَّ ابن كُلّاب كان مبتدِعاً فيها بدعةً لم يُسبَق إليها، وأنَّ تحقيقَ قولِهِ يَرْجِعُ إلى موافقة المعتزلة وإنْ خالفَهم في الظاهر.
ولقد اغترَّ كثيرٌ من إخواننا السلفيين بكتاب "الإِبانة" لأبي الحسَن الأشعري، ورفَعوا به من شأنه إلى حَدٍّ عدّه إمامَ أهل السنَّة والجماعة -قول أتباعه الأشعرية- بل إني رأيت لبعض المسوّدين لحواشي الكتب عدَّ اعتقادِ الأشعري هو اعتقادَ الإِمام =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أحمد في كلّ شيءٍ، وقالَ غيرُ واحد من هؤلاء: إنَّ الأشعريَّ كانَ له تحوّلان:
التحوّل الأول: من الاعتزال إلى اعتقاد ابن كلّاب.
والثاني: من اعتقاد ابن كلّاب إلى اعتقاد أحمد بن حنبل، وهو الذي ضَمَّنَه كتابَه "الإِبانة" وهو آخر كتبه، كذا قالوا!
وفي هذا نظرٌ من وجوه يَطولُ شرحُها، غير أنّي أذكر من ذلك ما أرجو أن يَدْفعَ هذا الإِيهامَ والتلبيسَ:
أولاً: ادّعاء أنَّ "الإِبانة" آخر تصانيفه تحكّمٌ لم يقيموا عليه الحجَّةَ البيّنة.
ثانياً: أنَّ أبا الحسن حين رجع عن الاعتزالِ صنَّف في الردّ عليه، فهلَّا فعلَ مثل ذلك في عقيدة ابن كُلّاب التي صنَّف فيها ودعا إليها إن صحَّ رجوعُه عنها؟ ولقد ضمَّن "الإِبانة" بعضَ الردّ على المعتزلة فهلَاّ فعل مثل ذلك في اعتقاد ابن كلَّاب لو صحَّ رجوعُه عنه؟
ثالثاً: إنَّ ما ذكره في "الإِبانة" في بعض المسائل، وفي مسألة القرآن خاصَّةً، مجمَلٌ، يوافقُ في إجماله اعتقادَ أحمد واعتقادَ ابن كُلّاب جميعاً، فنظَرْنا في كلام الأشعري في القرآن في غير "الإِبانة" فوجدناه وافقَ ابن كُلَّاب في تحقيق المسألة، ولم يوافِق اعتقادَ أحمد، وما فُسِّر من كَلامه قاضٍ على ما أجْمِلَ.
وشيخ الإِسلام ابن تيمية إمام رِضًى نتّفق على ذلك نحن وأنتم، ونتّفق على كونهِ من أعرف الناس بأقوال أهل القبلة، اسمعوه وهو يقول في الأشعري وهو يذكر اختلاف الناس في شأنه:"بل هو انتصرَ للمسائل المشهورة عند أهل السنَّة التي خالَفَهم فيها المعتزلةُ، كمسألة الرؤية، والكلام، وإثبات الصفات، ونحو ذلك، لكن كانت خبرتُه بالكلام خبرةً مفصَّلةً، وخبرتُه بالسنَّة خبرةً مجملةً، فلذلك وافق المعتزلةَ في بعض أصولهم التي التزموا لأجلِها خلافَ السنَّة، واعتقدَ أنَّه يمكنُه الجَمْعُ بين تلك الأصولِ وبين الانتصار للسنَّة، كما فَعَلَ في مسألة الرُّؤية، والكلام، والصفات الخبرية، وغير ذلك".
حتى قال: "فلمَّا كانَ في كلامهِ شَوْبٌ من هذا، وشَوْبٌ من هذا -يعني مِن =
وقد كانَ معتزلياً منافِحاً عن الاعتزال أربعينَ سنةً -كما يقولُه أتباعُه وغيرهم- وصنَّف في الدَّعوةِ إلى اعتقادِهم، ثمَّ تابَ عنه ورجَع، فسلَكَ طريقةَ ابن كُلّاب وارْتضاها، وإنَّما خالَفَهُ في يَسيرٍ من ذلك، وربَّما ذكَرَ بعض أهل العلم والسُّنَّة أنَّ ابن كلّاب خيرٌ منه على ما فيه.
وسَيظهَرُ لك في الفصْل الآتي تَوافُقُ الكُلّابيّةِ والأشعريَّةِ في مسألة القرآن.
وكذا جاءَ بعدَ ابن كُلّاب مَن وافقَه في بعض قَوْلِهِ وخالفَهُ في بعضِهِ، ومِنْ أوالئكَ ممَّن كانَ له أتباعٌ: أبو الحسن أحمد بن محمَّد بن سالم البَصْري، وكانَ يُذْكَرُ بِعِبادةٍ وزُهْدٍ، وأتباعُهُ يُقالُ لهمُ:(السَّالِميّة) ومِن أشهرِهم ذاك الصُّوفيّ المَشَهور أبو طالبٍ المَكّىُّ صاحبُ "قوت القلوب".
وقابَل هؤلاء طائفةٌ أخرى كان لها صِيتٌ وذُيوغٌ وكَثْرةٌ بخُراسانَ، وهم (الكرّامية) أتباعُ محمَّد بن كرّام السِّجِسْتاني، وكانَ مبتَدِعاً مَشْهوراً، خالفَ أهلَ السُّنَّة والسَّلَف في كثير من أَصولِهم في مسألة الإِيمانِ، والقرآنِ،
= كلام أهل السنَّة، ومن كلام المعتزلة - صارَ يقول من يقول:"إنَّ فيه نَوْعاً من التجهُم، وأمَّا من قالَ: إنَّ قولَه قولُ جَهْم فقد قال الباطلَ، ومَنْ قالَ: إنَّه ليسَ فيه شيءٌ من قولِ جَهمٍ فقد قالَ الباطلَ، والله يحبُّ الكلامَ بعلمٍ وعَدْلٍ، وإعطاءَ كلّ ذي حقٍّ حقَّه، وتنزيلَ الناس منازلَهم""مجموع الفتاوى" 12/ 205.
وذكَرَ في بعض المواضع أنَّه وابن كُلّاب، ومن على طريقتهما في قولهم شيءٌ من أصول الجهمية.
و"الإِبانة" لم يكن خافياً على شيخ الإِسلام، بل إنَّه ذكره في مواضع كثيرة من كتبه ونقلَ عنه، فتأمَّل ذلك، ولا تكن من الغافلين.
والصَّفاتِ، وعِصْمَة الأنبياء، وغير ذلك، وكان في أتْباعهِ مُجَسِّمةٌ مُشبّهةٌ.
فهؤلاء مشاهيرُ أهل البدَع في كلام الله تعالى، وهُناك طوائفُ سِواهم أخْمَدَ الله ذكرَهم، سِوى الَمتفلسفة المنسوبينَ إلى الإِسلام -وهو بريءٌ منهم- فهؤلاء لهم قَوْلٌ تضمَّنَ قولَ الجهمية وزيادةً، كما سيأتي ذكرُهُ، وكانَ من أقطاب القائلين به: ابنُ سِينا، ذاك الزَّنْديقُ القُرْمُطي المَحْسوب على الإِسلام، وابنُ عَربيّ الطائيُّ صاحبُ "الفتوحات" و"الفصوص" رأسُ القائلين بالاتّحاد، بَلْ رأسُ أهْلِ الإِلْحادِ، المَعدود في الأولياءِ، زوراً وبهتاناً، وظُلْما وعُدواناً، وأشباهُهما من المارقينَ عن دين المُسْلِمينَ.
وإنّي ذاكرٌ في هذا الباب اعتقاداتِ جميعِ هذه الطَّوائِفِ في القرآن العظيم، وعامَّةِ كلام ربّ العالمينَ، وناقِضٌ ذلك عليهم بالحُجَج والبَراهين، واختصَصْتُ بالتفصيل منهم المعتزلةَ والأشعريّةَ، فأفردتُ لكلّ طائفةٍ فَصْلاً، لعُموم البَلْوى باعتقادِ كلٍّ منهما، وخاصَّةً الأشعريةَ الَّذين ضَلَّ باعتقادهم الخاصُّ والعامُّ من المنتسبينَ للعلم وطلَبِهِ، وغيرِهم، إلَاّ قليلًا من الغُرَباء بالسُّنَّة، ولُبَّسَ على كثيرٍ من المنتسبينَ إلىَ السُّنَّة من علماءِ هذا الزَّمانِ فلم يُميّزوا بينَهم وبينَ أهلِ السُّنَّة والجماعَةِ، وحَسِبوهم منهم، وإنَّما وقَعَ هذا اللَّبْسُ لأسبابٍ سأشرحها في خاتمة كتابنا هذا.
فالله المُستعانُ، وبه الاعتصامُ.