الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: بيان غلط اللفظية النافية على الامامين أحمد والبخاري
• بيان غلطهم على الإِمام أحمد بن حنبل رحمه الله:
لقد عرّفتُكَ حُكْمَ الِإمام أحمد رحمه الله تعالى فيمن يقول: (لفظي بالقرآن مخلوقٌ) وشرَحْتُ ذلك من وجوهٍ كثيرةٍ عنه، ممَّا لا يدعُ مجالاً للشكِّ صحَّةِ قولهِ فيهم.
ولكن لمَّا كان من أمرهِ في الفتنة ما كانَ، ممَّا رفعَ الله به شأنَهُ، صارَ الانتسابُ إلى عقيدتِه سلامَةً، والحَيْدُ عنها بدعةً، وعلامَةُ السُّنّي اتباعَ عقيدةِ أحمد، وعلامةُ المُبتدع تركها، لذا صارَكلُّ من أتى بعدَه من طوئفِ أهل القبلةِ يفخَرُ بالانتساب إليه في الاعتقاد، ويعتَصِمُ به، وكلُّ طائفةٍ صارَتْ تَنْسُبُ إليه اعتقادَها، وتقولُ. هو اعتقادُ أحمدَ بنِ حنبل، فيروجُ ذلك عند مَن لا تمييزَ له ويقبَلُه وينصُرُهُ، ولكنَّ الإِنصافَ في ذلك أنْ تُقيمَ كلُّ طائفة حجَّتَها على صحَّةِ دعواها، ولقد عَلِمْنا من سُنَّةِ السَّلفِ الكرام رحمهم الله أنَّ (الإِسنادَ من الدين) فمن أسندَ فقد برئ، ومَن لا فلا.
وليس يشُكُّ الناظرُ في كلام الِإمام أحمد، والمتتبّعُ لطريقتهِ، أنَّه بَريءٌ من البدعِ وأهلِها، فسائرُ هذه الطوائفِ التي تنتسبُ إليه تنصُرُ
عقائدها بأحمد، إما:
1 -
بالكذبِ الصَّريح عليه.
2 -
أو بنقول عنه لا تثبتُ أسانيدُها.
3 -
أو بنقولٍ صحَّتْ عنه، ولكنها مجمَلَة، لم يُوَفَّقوا للوصول إلى معرفة مراده منها.
سِوى الطائفةِ المنصورةِ -إن شاء الله- أهل السُّنَّةِ والأثر، التي لا تعرِفُ علمَ الكلام والبِدَع، المُتنزِّهةِ عن الصفاتِ السَّابقةِ التي يتَّصفُ بها المُبتدعةُ، فلا تكْذِبُ عليه، ولا تحتجُّ عنه إلَاّ بما صحَّ إسنادُه، وثبتَ، وظهرَت الدَّلالةُ منه مفسَّرَةً لا لَبْسَ فيها ولا غُموض، وذلك بجَمْع مقالات الإِمام إلى بعضِها، والتوفيق بين ما أشكلَ منها، وضمِّها إلى أقوالِ أسلافهِ وإخوانِهِ من الأئمة الذين لم يُعْرَفوا بالبدع، إن وُجِدت، لِيَصِحَّ لهم حينئذٍ القولُ: اعتقادُنا هو اعتقادُ أحمد بن حنبل، وهو اعتقادُ السَّلَف.
وهذا المنهجُ هو الذي سلَكْناه في كتابنا هذا -ولله الحمد والمِنَّة-.
والمقصودُ هنا: أنَّ اللفظيةَ النافيةَ انْتَسبوا إلى الإِمام أحمد، ونقَلوا عنه ما ظنُّوهُ مُوافقاً لعقيدتِهم، وتأوَّلوا نصوصَه الصَّريحةَ في إنكارِ مقالَتِهم على ما يوافق أهواءَهم، ونصَروا ذلك من وجوهٍ:
الأوَّل: رَوَوا عنه أنَّه يقول: "لفظي بالقرآن مخلوق".
ولهذا ذكره البيهقيُّ في اعتقاد الإِمام أحمد (64).
(64)"مجموع الفتاوى" 12/ 364.
والثاني: رَوَوْا إنكارَه القولَ: (لفظي بالقرآن غير مخلوق) في قصة أبي طالب وغيره.
وقد ساقَ البيهقيُّ القصَّةَ من رواية فُوران عن الإِمام أحمد، وكذا قصة ابن شَدَّادٍ، ثمَّ قال:"فهاتان الحكايتان تُصرِّحان بأنَّ أبا عبد الله أحمد ابن حنبل رضي الله عنه بَريءٌ ممَّا خالَفَ مذهب المحققينَ من أصحابِنا، إلَاّ أنَّه كان يستحبُّ قلَّةَ الكلامِ في ذلك، وتركَ الخَوْضِ فيه، معَ إنكار ما خالَفَ مذهبَ الجَماعةِ"(65).
قلتُ: أرادَ مذهب اللَّفظيةِ، فإنَّهُ احتجَّ بإنكارِ أحمدَ على أبي طالب وابن شدَّادٍ بأنه كانَ على ضِدَّ قولهما، وأنَّ الصَّوابَ عنده أنَّ اللفظَ بالقرآن مخلوقٌ، فإنَّ هذا هو قول من سمَّاهم المحقَّقينَ من أصحابهم، أمثال أبي الحسَن الأشعريّ ومَن تَبِعَه كابن الباقلاّني وابن فَوْرَك وغيرهم.
والثالث: تأوَّلوا ما تواترَ عنه من إنكارهِ على من قال: (لفظي بالقرآن مخلوق) على ثلاثةِ معانٍ:
1 -
لأنَّه قولٌ محدَثٌ لم يتكلَّمْ به السَّلَف.
2 -
أنَّه أرادَ به الجهميَّ المَحْضَ الذي يزعُمُ أنَّ القرآنَ الذي لم ينزل مخلوقٌ.
وهذا قولُ البيهقي فيما حَكاه عنه شيخ الإِسلام (66).
3 -
أنَّ اللفْظ معناه الطَّرْحُ والرَّمْي، ومنه قولُك:(لفظتُ باللقمةِ) إذا
(65)"الأسماء والصفات" ص: 266.
(66)
"مجموع الفتاوى" 12/ 364.
طرحتَها وألقيتَ بها، وهذا المعنى لا تجوزُ إضافتُه إلى القرآن.
وهذا قول أبي الحسَن الأشعريّ وغيره (67).
والرابع: وربَّما احتجّ بعضهُم بما رواه فُوران قال: سألني الأثرمُ وأبو عبد الله المُعَيْطي أن أطلبَ من أبي عبدِ الله خُلْوةً،، فأسألَه فيها عن أصحابِنا الذين يُفرّقونَ بين اللفظِ والمَحْكي، فسألتهُ؟ فقال:"القرآن كيفَ تصرّفَ في أقوالِهِ وأفعالِهِ فغيرُ مخلوقٍ، فأمَّا أفعالنا فمخلوقةٌ" قلتُ: فاللفظيةُ تعدُّهم يا أبا عبد الله في جملة الجَهْمية؟ فقال: "لا، الجَهميةُ الذين قالوا: القرآن مخلوق"(68).
ونَحْن نجيبُ -بتوفيق الله تعالى- عن جميع هذه الظنونِ، فنقولُ:
* أمَّا الوجه الأوَّل فهو خطأ ظاهرٌ، وإفكٌ بَيِّنٌ على الإِمام أحمد، يُكَذَّبُه النقلُ المتواترُ عنه من روايةِ خاصَّةِ أصحابهِ وأهلِ بيته، فيما سُقناه آنفاً.
ولو كان ذلك من رواية ثِقَةٍ معروفٍ لَكان خطأ بيّناً، إذْ إنَّه يَلْزَمُ من قَبولِهِ رَدُّ الأخبارِ الصَّحيحةِ المُتواترةِ عنه بضدِّ ذلك، وهذا لا يقولهُ عالمٌ، ولا عجَبَ فإنَّ الأهواءَ تصنَعُ بأهلِها ما هو أعْجَب من ذلك.
* وأمَّا الوجهُ الثاني فقد أجَبْتُ عنه في المَبْحث الآتي بعدَ هذا، وبيّنتُ أنَّ سببَ إنكارِ الإِمام أحمد لإِطلاقِ (لفظي بالقرآن غير مخلوق) يرجِعُ لسَببين:
(67) انظر: "مجموع الفتاوى" 12/ 362.
(68)
رواه الحاكم -كما في "سير أعلام النبلاء" 11/ 291 - بسند صحيح.
- أحدهما: كونه بِدْعةٌ محدثةٌ لم يتكلَّم بها السَّلَف.
- والثاني: لِما يوهِمُ من المَعاني الباطلةِ، كإدخالِ فِعْلِ القارىِء وصوتِهِ في ذلك.
ومذهبُ مُحقِّقيهم (!) لم يقُلْ به الإِمامُ أحمدُ ولا ارتضاهُ، بل أنكرَهُ بأشدَّ ممَّا أنكَرَ به قولَ أبي طالب الذي حكاهُ عنه، فإنَّ ما حكاهُ أبو طالب من كَوْنِ اللفظ بالقرآن غيرَ مخلوقٍ عَدَّهُ أحمدُ بدْعَةً يُهجَرُ أصحابُها، ولكنَّ قولَ من وصفهم البيهقيُّ بـ (المحقِّقينَ) أنكرَه بأشدَّ منه، وجهَّم القائلينَ به، إذ مقتضاهُ أنَّ جِبريلَ إنَّما جاءَ بشيْءٍ مخلوقٍ، لأنَّ كلامَ الله عندَهم معنى قائمٌ به، ليسَ هو لغةً عربيةً ولا غيرَها، ولا هو حروفاً ولا كلماتٍ، وهذا اللَّفظُ العربيُّ عندهم عبارةٌ عنه وهو مخلوقٌ، وجبريلُ عليه السلام لم يَأتِ بقرآنٍ غيرِ هذا العربيّ، فكانَ ما أتى به مخلوقاً إذاً على اعتقادِهم، وارجِعْ إلى نصوصِ الإِمام أحمدَ في إنكار هذه الضَّلالةِ في المبحث الثاني من هذا الفصل، لتعلمَ أنَّ هذه الطائفةَ التي حمَلَتْ كلامَ أحمدَ على غير مَحاملهِ قد حُرِمَت التوفيقَ في فَهْم كلامهِ.
* وأمَّا الوجه الثالث فإنَّ جميع ما ذكروهُ تأويلاتٌ فاسدةٌ.
- أمَّا أولاً فإنَّه حقٌ في نفسهِ، ولكن ليسَ هو المرادَ، لأنَّ مجرَّد كونِ القول به بدعةٌ محدثةً فإنَّه لا يَستدعي تكفيرَ القائل بهِ، وهذا المَعنى يتنزَّهُ عن مثلهِ مَن دونَ الإِمام أحمد عِلماً وفَهْماً ومعرفةً، فكيف تصلحُ إضافته إليه رحمه الله وهو مِن أنزَهِ الناس لساناً، وأصْوَبِهم مقالاً، بما آتاه الله من العِلْم والهُدى؟
- وأمَّا ثانياً فإنَّما أوقعَهم في مثلهِ اضطرارُهم لتعليلِ ما وَقعوا فيه من مُخالفة عقيدةِ أحمد، وإلَاّ فإنَّ هذا التفسيرَ يردُّهُ ظاهرُ قَوْلِ أحمد رحمه الله، فإنَّه قَدْ سبَقَت حكايتُنا لقولهِ مفسَّرةً لا يَرِد عليها مثلُ هذا الحَمْلِ الفاسدِ، من ذلك قوله:"هم شرٌّ من قول الجهميةِ، مَن زعَم هذا فقد زعَمَ أنَّ جبريلَ جاء بمخلوقٍ وأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تكلَّم بمخلوق" والذي جاء به جبريلُ وتكلَّمَ به محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم هو هذا القرآنُ العربيُّ المعلوم عند جَميع المسلمينَ، لم يأتِ جبريل بقرآنٍ سِواه، ولَم يتكلَّم الله بقرآنٍ سِواه، وأحمدُ رحمه الله إنَّما قالَ هذهِ المقالةَ وما يُشْبِهُها في الذين قالوا بخَلْق هذا القرآن العربيّ، لا فيمَنْ قال: إنَّ القرآنَ الذي لَمْ يَنْزِل مخلوقٌ، فإنَّه ليسَ هناك قرآن لَم يَنْزِل، ولم تكن هناك جَهميةٌ يقولونَ: القرآنُ قرآنان، قرآنٌ نَزَل، وآخرُ لم يَنْزِلْ، وهما مخلوقانِ، ليُحْمَلَ قولُ أحمد على أنَّه أرادَهم، وإنَّما كانت الجهميةُ المحْضةُ يقولون: ليسَ لله كلامٌ، والله لا يتكلَّمُ، والقرآن مخلوقٌ.
- وأمَّا ثالثاً ففسادُهُ ظاهرٌ، فإنَّه لا يُساعدُ على مثلهِ ألفاظ الإِمام في تجهيم اللَّفظية، ثمَّ إنَّ لفظَ (اللَّفظ) إنما يُراد به هنا النُّطْقُ، لا لفظ اللُقمةِ، وهو أبْيَنُ من أن يخفى.
* وأمَّا الوجه الرابع فإنَّ (اللفظيةَ) لفظٌ مجمَلٌ، يُطلَق على اللَّفظيةِ النافية التي تقول:(ألفاظنا بالقرآن مخلوقة) وعلى اللَّفظية المُثْبِتة التي تقول: (ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة) وتعيينُ المُرادِ إنَّما يكون بالدليل، فتأمَّلْنا حالَ اللفظيةِ النافيةِ هل هم المُرادونَ بذلك أم لا؟ فوجدناهم غيرَ مُرادِينَ لِما يأتي:
1 -
أنَّ وصفَهُم بالجهميةِ مُتواتر عن الإِمام أحمد -كما سبقَتْ حكايته-.
2 -
أنَّ أصحابَ أحمدَ ليسَ فيهم من كان يقولُ: (لفظي بالقرآن مخلوق) وإنَّما فيهم مَن قال: (لفظي بالقرآن غير مخلوق) -كما سيأتي في المبحث الآتي في حكايته قصَّةِ أبي طالبٍ وابن شدَّادٍ- وقد أنكرَها أحمدُ رحمه الله، وبدَّعَ أصحابَها، ولم يُجَهَّمْهم.
3 -
قال في الرواية: "القرآن كيفَ تصرَّفَ في أقوالهِ وأفعالِهِ فغير مخلوق، فأمَّا أفعالُنا فمخلوقة" واللُّفظيةُ النافيةُ عندهم القرآن غير المخلوقِ لا يتصرَّف في أقوالِه وأفعالِهِ، وإنَّما هو معنى واحدٌ قائمٌ بذاتِ الله، وأما القرآن الذي يتصرَّفُ في أقواله وأفعاله فهو مخلوقٌ عندهم.
فبانَ بهذا أنَّه يعني اللفظيةَ المثبِتَةَ القائلينَ: (لفظي بالقرآن غير مخلوق) فإنَّهم مع بدعتهم ليسوا جهميةً.
• بيان غلطهم على الإِمام البخاري رحمه الله:
البخاريُّ ذاكَ الإِمام الذي لا يُجْهَل فضلُهُ وقَدْرُهُ، أبو عبد الله محمد ابن إسماعيل صاحب "الصحيح" أعظم كتابٍ على الإِطلاقِ في سنَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، تَلَقَّتْه الأمَّةُ من بعدِهِ بالقَبول، وعوَّلَت عليه قبلَ سِواه لمعرفةِ ما جاءَ به الرَّسول، رفَعَ الله تعالى به للبُّخاريّ المنزلةَ العاليةَ، فلا تكاد ترى مسلماً يفهَم لا يَعلمُ فضْلَ محمَّد بن إسماعيل بفضْل "صحيحه" وكذلك هو الإِمامُ المعتمَدُ في الجرْح والتَّعديل، ومَعْرفة الرجالِ والعِلَل، وكيفَ لا يكون كذلك وبأحمدَ وابن المَديني وإسحاقَ تخرَّجَ؟
ولقد كانَ رحمه الله إمامَ أهلِ السُّنَّة ورأسَ أهل الحديث بعدَ أحمد ابن حنبل، فإنَّه كانَ على أثرهِ وطريقتهِ، ما حادَ عنه ولا زادَ، ومَن تأمَّل كتابَ "التوحيد" من "الصحيح" و "خلق أفعال العباد" قامَت له الحُجَّةُ على صحَّة ما قُلْنا.
ولكنه رحمه الله لمَّا آتاه الله تعالى من سَعَةِ العلمِ والمعرفةِ ما آتاه مِمَّا فاقَ بهِ الأقرانَ، وصارَ المشارَ إليه بالبنانِ، حَمَل عليه بعضُ أقرانِه بسبَب الحسَدِ المَمْقوتِ، فحمَّلوا كلامَه ما لا يَحْتَمِلُ، وادَّعوا عليه إطلاق الفولِ:(ألفاظنا بالقرآن مخلوقة) وأشاعوا ذلك وأذاعوهُ في نَيْسابور وغيرِها، لِيُنَفَّرَ عنه وعن الانتفاعِ به.
وكانَ حامِلُ رايةِ المُنفِّرينَ عنه الإِمامَ الحافظَ محمَّدَ بن يحيى الذُّهْليَّ، وكانَ مِنْ ثقاتِ المحدِّثين وحُفَّاظِهم، أثنى عليه الأئمَّةُ وعدّلوه وارتضَوْه، وكانَ صاحِبَ سُنَّةٍ مُتَّبِعاً، رحمه الله، إلَاّ أنَّه وقَعَ في نفسهِ على البخاري، وزُوَّرَتْ إليه المَقالةُ عَليه في مسألة اللَّفظ، فشدَّدَ على البخاري بسَبَبِها، مع أنَّه ارتضاه أوَّلَ الأمر.
قالَ الحافظ أبو حامد الأعمَشيُّ (وكان ثِقَةً ثَبْتاً): رأيتُ محمَّدَ بن إسماعيل البُخاريَّ في جنازةِ أبي عثمان سعيد بن مَرْوان، ومحمَّدُ بن يحيى يسألُهُ عن الأسامِي والكُنى وعلل الحديثِ، ويَمُرُّ فيه محمدُ بن إسماعيل مثلَ السَّهْم كأنَّه يقرأ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فما أتى على هذا شهرٌ حتى قال محمد بن يحيى: ألا مَنْ يختلفُ إلى مجلسهِ لا يختلف إلينا، فإنَّهم كتبوا إلينا من بغدادَ: أنَّه تكلَّمَ في اللَّفظ، ونَهَيْناهُ فلم ينتَهِ. فلا تقرَبوهُ، ومَن يَقْرَبْهُ؛ فلا يَقْرَبنا. فأقامَ محمد بن إسماعيلَ ها هنا مدَّةً، وخرَج إلى
بُخارى (69).
قلتُ: كانَ البخاريُّ رحمه الله يَرى أنَّ هذا ممَّا أوقعَ فيه محمدَ بن يحيى الحَسدُ في العِلْم، وذلك أنَّ الله فتحَ عليه وآتاه ما لَمْ يؤتَ الذُّهْليّ.
قال محمد بن شادل -وكان مُحدِّثاً ثَبْتاً-: لَمَّا وقَع بين محمد بن يحيى والبُخاريّ دخَلْتُ على البَّخاري فقلتُ: يا أبا عبد الله، أيْشٍ الحيلة لَنا فيما بينكَ وبين محمَّد بن يحيى، كلُّ من يَخْتَلِفُ إليك يُطرَد؟
فقال: "كم يَعْتري محمَّد بن يحيى الحسَدُ في العِلْم، والعِلْمُ رزقٌ الله يُعطيه مَن يَشاءُ" فقلتُ: هذه المَسْألة التي تُحكى عنك؟ قال: "يا بنيّ، هذه مسألةٌ مشؤومةٌ، رأيتُ أحمد بن حنبل وما نالَه في هذه المسألة، وجعلتُ على نَفْسي أن لا أتكلَّمَ فيها"(70)
قُلتُ: البخاريُّ رحمه الله نزيهُ اللسان، لا يَرْمي قرينَهُ بداءِ الحسَدِ بمُجَرَّد الظنّ من غير أن تحفَّهُ القرائنُ، ولكنّي أرى مع ذلك أن يكونَ النقلُ الذي بلغَ الذُّهْليّ عن البُخاريّ هو السَّببَ الدَّاعيَ للتنفير منه، وكانَ الأجدرَ بالإِمام الذُّهْليّ أن يَسْتثْبِتَ من البخاري نفسِه، ولكن أبى الله أن يكون إلَاّ ما أراد.
والتَّحقيقُ الذي يرتَضيه كلُّ مُنصفٍ هوأنَّ البخاريَّ رحمه الله لم يقل بقولِ اللفظيةِ، ولم ينْطِق بذلك لسانُهُ، وإنَّما كانَ يقول ألفاظاً يَرِدُ بسَببها
(69) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" 2/ 31 بسند صحيح.
(70)
أخرجه الحاكم -كما في "سير أعلام النبلاء" 12/ 456 - 457 - وسنده جيد.
بعضُ الإِيهام واللَّبْس، ولكن من تأمَّلها ثَبَتَ له صحَّةُ ما قُلنا، فالمآخِذُ عليه في هذه القضية أربعةٌ:
الأوَّل: وقفُهُ عن التَّصريحِ بتَجْهيم أو تبديع اللَّفظيَّةِ القائلين:
(لفظي بالقرآن مخلوق).
والثاني: جاء عنه قولُهُ -وقد سُئِلَ عن اللَّفظ بالقرآن؟ -: "أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا" ففَهِمَ بعضُ مَن حضَرَ مَجْلِسَه أنَّه يقول: "لفظي بالقرآن مخلوق" وأبى ذلك آخرون (71).
والثالث: ما أشاعَه عنه الذُّهْليُّ من القوْل: "ألفاظنا بالقرآن مخلوقة".
والرابع: إطلاقُهُ الفَرْقَ بين التّلاوةِ والمتْلوّ، والقراءةِ والمَقروء.
فاستغلَّ القائلونَ: (ألفاظنا بالقرآن مخلوقة) ممَّن جاء بعدَه من الأشعرية وغيرِهم هذه الأمورَ فقالوا: قولٌ البُخاري هو قولُنا، فإنَّا نفرّق ببن التلاوةِ والمَتلوِّ، فالتلاوةُ هذه الألفاظ العربيةُ، والمتلوُّ ما دلّتْ عليه التلاوةُ، وهو عندَهم كلامُ الله القائمُ بذاتهِ الذي هو معنى مجرَّدٌ.
وهذا من الزُّور والبُهْتان الذي لم يقل البخارىُّ بشيءٍ منه، وهوبريء منه بحَمْدِ الله، وإني ناقضٌ بحَوْل الله تعالَى وقوّته ما حرَّفوهُ من المعاني يسَبب ما ذكرنا من المآخذ على البخاريٌ.
* أما المأخذُ الأوَّل فهو غيرُ قائم، لأنَّ وقفَه حين وقفَ لَمْ يكن عن شكٍّ في بِدْعَتِهم، أو تردُّدٍ في بُطلان مذْهَبِهم، وإنَّما كانَ ذلك اتقاءً لِما
(71)"سير أعلام النبلاء" 12/ 458 و"هدي الساري" ص: 490.
يُحْتَمل وقوعهُ من الفتنة بسَبَبِها، ألَا تراهُ احتجَّ بأحمدَ رحمه الله؟ قال:"هذه مسألةٌ مشؤومةٌ، رأيتُ أحمدَ بن حنبل وما نالَهُ في هذه المسألة، وجعلتُ على نَفْسي أن لا أتكلَّمَ فيها".
واكتفى ببيان الفَرْق بين أفعالِ العباد وكلامِ الله تعالى، وقال: إنَّ أفعال العباد مخلوقةٌ، وكلامَ الله القرآن وغيرَه غيرُ مَخلوقٍ، وأبانَ عن هذا أحسنَ الإبانة في كتابه "خلق أفعال العباد".
* وأمَّا المأخذ الثاني فإنَّه إيرادٌ مُشْتَبَهٌ، ونحنُ قَدْ شَرَحْنا فيما سبقَ أنَّ (اللفظ) مُطْلقاً، قد يُرادُ به فعلُ العَبْدِ الذي هو حركتهُ وصوتهُ بالقرآن فهو حينئذ مخلوقٌ، وقد يُرادُ به كلامُ الله تعالى المسطورُ المقروءُ الذي هو الحروفُ العربيةُ فهو حينئذ غيرُ مخلوقٍ.
والأئمَّةُ مَنَعوا إطلاقَ اللفظ: (لفظي بالقرآن مخلوق) من غير تبيين المُرادِ، لأنَّ الجهميةَ ابتدَعوا ذلك ليُموّهوا على الناس، ولم تكن حينئذٍ قد ظَهَرتْ بدعةُ القائلينَ:(لفظي بالقرآن مخلوق) وهم يُريدونَ خَلْقَ القرآنِ العربيّ المؤلَّفِ من الحُروفِ العربيَّةِ، من الأشعرية وغيرهم.
فالبخاريُّ رحمه الله في هذه المَقالة أبانَ عن حقيقةِ قولهِ، بقوله:"أفعالُنا مخلوقةٌ، وألفاظُنا من أفعالنا" عن مفارقتهِ لاعتقاد الجَهمية الباطلِ، وموافقتهِ لأهل السُّنَّةِ، فإنَّه فَسَّرَ ههُنا مرادَهُ باللفظ وأنَّه إنَّما أرادَ فعلَ العبدِ، وهو مخلوقٌ قَطْعاً، وقد سبقَتْ حكايتُنا قولَ الِإمام أحمد:"مَن قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، يريدُ به القرآنَ، فهو كافرٌ" والبخاريّ رحمه الله لَم يُرِدْ باللفظِ القرآنَ، وإنَّما أرادَ فِعل العَبْدِ، فَغَلِطَ أناسٌ في فَهْم مُرادهِ فافتَروا عليه.
معَ أنَّ الأوْلى والأحْرى بالبخاريّ رحمه الله تركُ هذه اللَّفظة جملةً، لأنَّها مما تركَ السَّلفُ الكلامَ فيها، واكتَفَوا بالبيان:"أنَّ أفعالَ العباد مخلوقة، والقرآن كلامُ الله غيرُ مخلوق حيث تصرَّف".
ولكنَّ المقصودَ هنا بيانُ أنَّ البخاريَّ رحمه الله لم يكن اعتقادُه في اللَّفظِ هو اعتقادَ اللفظيَّة الذين يعتقدونَ أنَّ جبريلَ عليه السلام إنَّما جاء بكلامٍ مخلوقٍ، وهو هذا القرآن المؤلَّف من الحُروف العربيةِ، وأنَّ الله تعالى لم يتكلَّم بالحُروف.
* وأمَّا المأخذ الثالث فهو مبنيٌّ على خَطأ على البخاريّ، عضَّدَهُ ما وقعَ في النُّفوسِ من الحسَد في العلم -كما بيّنا-.
* وأمَّا المأخذ الرابع فإنَّ البخاريَّ حين فرَّقَ بين التّلاوةِ والمَتْلوّ، يعتقدُ أنَّ التلاوةَ فِعْلُ العبد فقط، ولا يُدْخِلُ فيها الكلامَ المؤلَّفَ من الحروفِ، والمتلوَّ هو هذا القرآنُ العربيُّ المُبينُ الذي نزلَ به جبريلُ عليه السلام على محمَّد صلى الله عليه وسلم، خِلافاً لِما يعتقدُهُ اللَّفظيةُ الذين اعتصَموا بقولِهِ -من الأشعرية وغيرهم- فإنَّ هؤلاء يُدْخِلونَ القرآنَ العربيَّ المفتَتَحَ بالفاتحة، والمُخْتَتَمَ بالنَّاس في التِّلاوة، والمَتْلُوُّ عندَهم هو المعنى الذي وصَفو بالنَّفسي، القائمِ بذاتِ الله تعالى، وشتَّانَ ما بينَ المَعْنيين.
هذا مع أنَّنا قد شَرَحْنا فيما سَلَفَ أوَّلَ هذا البابِ عدمَ صحَّةِ إطلاقِ الفَرْق بين التَّلاوةِ والمَتلوّ، أو التَّسْويةِ بينَهما، لأنَّ كُلًّا من الإِطلاقين يَجُرُّ إلى مَحاذيرَ مَرفوضةٍ شَرْعاً، وبيّنا أن تمييزَ القولِ في هذه القضيةِ هو الجوابُ عن جَميع ما أورِدَ عليها من الإِشكالِ.
فتبيَّن إذاً بهذا البيانِ بَرَاءَةُ البُخاري رحمه الله مِمَّا نَسَبَتْ إليه اللفظيةُ النافيةُ من الاعتقادِ الباطِلِ، وإنِّي أورِدُ عليهم قولَ البُخاري نفسِه في ذلك ليمْحَقَ باطلَهم، قال رحمه الله بعدَ أن أسْنَدَ عن يحيى بن سعيد قولَه:"ما زِلْتُ أسمَعُ من أصحابِنا يقولون: إنَّ أفعالَ العبادِ مخلوقة" قال البخاريُّ: "حرَكاتُهم، وأصواتُهم، واكْتِسابُهم، وكتابَتهُم، مخلوقةٌ، فأمَّا القرآنُ المَتْلوُّ المُبينُ، المُثْبَتُ في المُصْحَف، المَسطورُ، المكتوبُ، المُوعى في القلوبِ، فهو كلامُ الله، ليسَ بخَلْقٍ"(72).
وقال رحمه الله: "وقال الله عز وجل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ولكنَّه كَلامُ الله تَلْفِظُ به العبادُ والملائكةُ"(73).
قلتُ: ولا يَجْهَلُ مسلمٌ يفهَمُ أنَّ المرادَ بالقرآنِ في هذه الآيةِ هو القرآنُ العربيُّ المُعْجِزُ الذي أعجَزَ الإِنسَ والجنَّ عن الإِتيانِ بمثلِهِ، وهو نفسُهُ الذي وصَفَهُ البُخاري بأنَّه كلامُ الله، وهو نفسُهُ الذي يتلفَّظُ به العبادُ، والمَلائكةُ، فما أثْبَتَ للعبادِ والملائكةِ -وهم عامَّةُ من يَعْقِلُ من خَلْقِ الله- إلَّا تَلَفُّظَهم به الذي هو فِعْلُهُمْ: نُطْقُ ألسِنَتِهم، وحرَكةُ شِفاهِهم، أمَّا القرآنُ المُعْجزُ فغير مَقدورٍ لهم أن يأتوا بمثلهِ، وهذا كلّه خِلافُ دين اللَّفْظية النافيةِ، فإنَّ هذا القرآنَ العربيُّ المُعجزَ في نَظْمِهِ مخلوقُ النَّظْمِ عندَهم.
وقد أثبتَ البخاري رحمه الله في كتابِهِ "خلق أفعال العباد" أنَّ القرآنَ
(72)"خلق أفعال العباد" ص: 42.
(73)
"خلق أفعال العباد" ص: 87.
منزَلٌ غيرُ مخلوق، وأنَّه مِنَ الله بدأ وإليه يعودُ، وأنَّ الله تعالى يتكلَّمُ بصَوْتٍ، إلى غير ذلك مِمَّا هو مُعْتَقد أهلِ الحقِّ الذي فصَّلْناه في الباب الأوَّل، ممَّا تُرْغَمُ به أنوفُ اللفظيةِ الأشعريةِ وغيرهم الذين يقولُ قائلهُم من غير حَياءٍ ولا وَرَعٍ:"كانَ البخاريُّ مِمَّن قال: لفظي بالقرآن مخلوق".
وممَّا يجْدُرُ التنبيهُ عليه أنَّه رُوي عن البخاري رحمه الله أنَّه قال للحافظ أبي عَمْرو أحمد بن نَصْرٍ الخفّاف: "يا أبا عَمْرو، احفَظْ ما أقول لك: مَن زعَمَ من أهل نَيْسابورَ، وقُومَسَ، والرَّيِّ، وهَمَذانَ، وحُلوانَ، وبغدادَ، والكوفةِ، والمدينةِ، ومكَّةَ، والبَصْرةِ، أني قلتُ: لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو كذَّابٌ، فإنِّي لم أقُلْ هذه المقالةَ، إلَّا أني قلتُ: أفعالُ العباد مخلوقة"(74).
قلتُ: لكنَّني أعرضتُ عن الاحتجاج بها صَفْحاً لعَدَم ثُبوتِ إسنادها، وإن كانت قد احتجَّ بها جَماعةٌ من الأئمَّةِ، وفيما حَقَّقْناه كفايةٌ لمَنْ رزقَه الله التجرّدَ للحقّ.
• • • • •
(74) رواه ابن الطبري في "السنَّة" 2/ 358 والخطيب "التاريخ" 2/ 32 وابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة" 1/ 277 وهي قصة ضعيفة الإِسناد جداً من أجل أبي صالح خلف بن محمد بن إسماعيل وهو الخيام البخاري، ضعيف جدّاً.