الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: الوقف في القرآن
المُراد بهذه المَسْألة السُّكوتُ عن القولِ: القرآنُ مَخلوقٌ، أو غيرُ مَخلوقٍ، والاكتفاء بالقول: إنَّه كلامُ الله.
وقد ذَكَرْنا فيما مضى أنَّ الناسَ في صَدْرِ الإِسلام كانوا في غِنًى عن الزِّيادةِ على القول: (القرآنُ كلامُ الله) لأنَّهم لم يكونوا يفقَهون مِنْ هذهِ الإِضافةِ إلَاّ أنَّها صفةُ الله، وهم أجَلُّ مِن أنْ يجْهَلوا أنَّ صفاتِهِ تعالى تابعةٌ لذاتهِ، غيرُ مَخلوقةٍ.
فلمَّا ظهرَت بدعةُ القَول بخَلْقِ القرآن عَقَلَ أئمَّةُ السُّنَّة خَطَرَها، فردُّوها وأبطَلوها، وليسَ بعدَ ذلكَ من سَبيل إلَاّ القولُ:(القرآن كلام الله غيرُ مخلوق) لإِبطالِ دين أهل الضّلالةِ، وإحقاقِ دينِ أهل السُّنَّةِ.
وقدْ أقَمْنا الحُجَجَ على صحَّة هذا الاعتقادِ، وموافقتهِ للكتاب والسُّنَّة.
ولكنَّ طائفةً من المُنْتَسبينَ إلى العِلْمِ لم يفقَهوا حقيقةَ هذه البِدْعَةِ، ولم يفْهَموا مُرادَ أهلِها جَهلاً منهم، فتعسَّروا القولَ: القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوق، كما تعسَّروا القولَ: كلامُ الله مخلوق، خَوْفاً من البدعَةِ، فوقَفوا
عن وَرَعٍ مبنيٌ على جَهْلٍ، وإنَّما أكَّدَ ذلكَ أنَّها كانت مسألةً حديثةَ الوُرود على أذهانِهم، لم يكن لهم بها سابقُ عِلْمٍ.
ولكن الناسَ حين وقَعوا في ذلك، وعَظُمَت بسَبَبهِ البليّةُ، وجَبَ إظهارُ الحقّ والإِبانةُ عنه، وذلك ما كان من الأئمَّةِ، وأعلامِ الأمَّة، الذين هم قُدْوةُ الناس -كما حكيناه عنهم فيما مضى
…
ولقد سُئِلَ الإِمامُ أحمدُ رحمه الله: هَلْ لهم رُخْصَةً أنْ يقولَ الرجلُ: القرآن كلام الله تعالى ثمَّ يَسْكت؟ فقالَ: "ولِمَ يسكُت؟ لولا ما وقَعَ فيه الناس كان يسَعُهُ السُّكوتُ، ولكن حيثُ تكلَّموا فيما تكلَّموا لأيِّ شيءٍ لا يتكلَّمون؟ "(1).
قال الحافظ أبو بكر الآجُريُّ:"معنى قول أحمدَ بن حنبل في هذا المعنى، يقول: لم يختلفْ أهلُ الإِيمان أنَّ القرآنَ كلامُ الله عز وجل، فلمَّا جاءَ جَهْمٌ فأحْدَثَ الكُفْرَ بقولِهِ: إنَّ القرآن مخلوقٌ، لم يسَع العلماءَ إلَاّ الرَّدُّ عليه بأنَّ القرآنَ كلامُ الله عز وجل غيرُ مخلوقٍ بلا شكٍّ ولا تَوقُّفٍ فيهِ، فمَنْ لم يَقُلْ: غيرُ مخلوقٍ، سُمّيَ واقفيّاً شاكاً في دينه"(2).
وقال أحمدُ أيضاً: "كنا نرى السُّكوتَ عن هذا قبلَ أن يخوضَ فيه هؤلاء، فلمَّا أظهروهُ لم نَجِدْ بُدّاً من مُخالفتهم والرَّدِّ عليهم"(3).
والأئمةُ جميعاً على إنكارِ مَسْلَكِ هؤلاءِ، والتَّشديد عليهم،
(1) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 263 - 264ومن طريقه: الآجري ص: 87 وإسماعيل بن الفضل ق 114/أ.
(2)
"الشريعة" للآجري ص: 87.
(3)
ذكره عنه عثمان الدارمي في "النقض على المريسي" ص: 110.
وتَبْدِيعهم، وأبو عبد الله أحمد بن حنبل أشدُّهم إنكاراً.
قال أبو داود السِّجِستانيُّ: سمعتُ أحمدَ ذَكَرَ رَجُلينِ كانا وَقَفا في القرآنِ، ودَعَوَا إليه، فجعَلَ يَدعو علَيْهما، وقالَ لي: هذا لأحدِهما فِتْنةٌ، وجعَلَ يذكرهما بالمَكْروهِ (4).
وقالَ: رأيتُ أحمدَ سلَّمَ عليه رجلُ من أهْلِ بغداد ممَّن وقَفَ -فيما بلَغني- فقال: "اغْرُبْ، لا أرَينَّكَ تَجِيءُ إلى بابي -في كلام غَليظ-" ولَمْ يرُدَّ عليه السلام، وقالَ لَهُ:
"ما أحوَجَكَ إلى أنْ يُصْنَعَ بك ما صنَعَ عُمَرُ بصَبِيغٍ".
قال أبو داودَ: فهَّمَني بصَبيغ بعضُ ولَد أحمدَ -[فدخَلَ بيتَه وردَّ البابَ](5).
وقالَ أبو طالب: سألتُ أبا عبد الله عمَّن أمسكَ، فقال: لا أقولُ ليسَ هو مخلوقاً، إذا لَقِيَني بالطريقِ وسلَّمَ عليَّ، أسَلِّمُ عليه؟
قال: "لا تُسَلِّمْ عليه، ولا تكلِّمْهُ، كيفَ يعرفُه الناسُ إذا سلَّمتَ عليْهِ؟ وكيفَ يعرفُ هو أنَّك مُنكرٌ عليه، فإذا لَمْ تُسَلِّم عليه عَرَفَ الذّلَّ، وعرفَ أنك أنكرتَ عليه، وعرفهُ النَّاسُ"(6).
(4) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 264 ومن طريقه الآجري ص: 87.
(5)
رواه أبو داود في "المسائل" ص: 264ومن طريقه: الآجري ص: 87. وصَبيغ هذا بصريٌّ قَدِم على عُمَر فكان يجادل في متشابه القرآن، فجلَده عمر رضي الله عنه لذلك، وقصته صحيحة مشهورة، رويت موصولةً بسند صحيح عند ابن عساكر 8/ 117/أوغيره، ورويت مرسلةً من وجوه متعددة.
(6)
رواه الآجري ص: 88 بسند صحيح.
وقال أبو داودَ: سمعتُ أحمدَ وقيلَ له: ما تَرى في الصَّلاةِ خَلْفَ من يقولُ في القرآنِ: كلامُ الله، ويَقِفُ؟ قال:"يُعْجِبُني أنْ يُجْفَوا"(7).
وسيأتي عنه البيانُ أنَّ الجاهلَ من هؤلاءِ يَسألُ ويتعلَّمُ.
وسيأتي عن الإِمامين أبي حاتِمٍ وأبي زُرْعَةَ الرازيَّيَّنِ أنَّه مبتدعٌ ولا يُكَفَّر، لأنَّه وقفَ عن جَهْلٍ وضَعْفِ بَصيرةٍ.
وبعدَ انكشافِ المِحْنَة عن الناس في عَهْد المتوكِّل، وقُوَّةِ شَوْكةِ أهل السُّنَّةِ حينئذ، وإخمادِ نارِ الفتنةِ وخُذلان أهْلِها، لجَأتْ طائفةٌ من الجَهميةِ إلى استعمال التَقِيَّة خَوْفاً من سَيْفِ أهْلِ السُّنَّةِ، فقالوا: نحن نقولُ: القرآنُ كلامُ الله، ولا نَزيدُ، فلا نقولُ: مخلوقٌ، ولا غيرُ مخلوقٍ.
وتابعهم علي ذلك بعضُ مَنْ لا يَفْهَم.
ووجَدوا في وَقْفِ من كانَ يقِفُ تورّعاً مِنْ بعضِ من خَفِيَه الحقُّ من المنتسبين إلى الحَديث مِمَّنْ أشَرْنا إليهم آنفاً، حِيلةً يَتَشَبثون بها، ويحتجّون بها على صحَّةِ مذهَبِهم، وهم يُبْطنونَ الحقيقةَ الفاسدةَ.
ولكنَّ الأئمَّةَ كانوا حَديثي عَهْدٍ بالفتنةِ، وقَدْ عالَجوها وخَبرُوها، فلم يغترّوا بهذه المَقالةِ، فأنكَروها وشدَّدوا على مُعْتَقِدِها وقالوا: هو شاكٌّ، وهذا أدنى أحوالِهم عندَهم.
فألحقوهم بالجَهميَّةِ الأوائِلِ، ولذا يقولُ الإِمامُ أحمدُ رحمه الله:
"افترقَت الجَهميَّةُ على ثَلَاثِ فِرَق: فِرْقَةٍ قالوا: القرآنُ مخلوقٌ، وفرقةٍ
(7) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 264.
قالوا: كلامُ الله وتسْكُتُ، وفرقةٍ قالوا: لفظُنا بالقرآنِ مخلوقٌ" (8).
ومقالاتُ الإِمام أحمدَ فيهم كثيرةٌ مُستفيضةٌ، وكذا عن غيرِه من أئمَّةِ السُّنَّة، فمِنْ ذلك:
1 -
قال مُهَنّا أبو عبد الله السُّلَميّ (وكان من خيار أصحاب أحمد):
سألتُ أحمدَ بن حنبل بعدَ ما أخْرجَ من السِّجنِ بسنتين: ما تقول في القرآنِ؟ فقَالَ: "كلامُ الله غيرُ مخلوق" وقال: "مَن رَوى عنّي غيرَ هذا القولَ فهو مُبْطِل" قلتُ له: إنَّ بعضَ مَن ذكَرَ عنك أنَّك قلتَ له: هو كلام الله، لا مَخلوق ولا غيرُ مخلوق، ولكن هو كلام الله، فقال أحمد:"أبْطَلَ، ما قلتُ هذا، ولكنَّه هو كلامُ الله غير مخلوقٍ"(9).
2 -
وقالَ سلَمةُ بن شَبيب: دخلتُ على أحمد بن حنبل فقلتُ: ما تقول فيمن يقول: القرآن كلامُ الله؟ فقال أحمد: "مَنْ لم يَقُلْ: القرآن كلامُ الله غيرُ مخلوق فهو كافرٌ".
ثمَّ قالَ: "لا تَشُكَّنَّ في كُفْرِهم، فإنَّ مَن لم يَقُلِ: القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوق فهو يقول: مخلوقٌ، ومَن قال: هو مخلوقٌ، فهو كافر بالله عز وجل".
قال سلمَةُ: وقلتُ لأحمدَ: الواقفة كفّارٌ؟ فقال:"كفّارٌ"(10).
3 -
وقال عبد الله بن أحمدَ: سمعتُ أبي -وسُئلَ عن الواقفة- فقال
(8) رواه صالح في "المحنة" ص 72 عن أبيه به.
(9)
رواه عبد الله في "السنة" رقم (529) عن مهنّا عن أحمد.
(10)
رواه ابن الجوزي في "مناقب الإِمام أحمد" ص: 157 بسند جيد.
أبي:
"مَن كانَ يُخاصِمُ ويُعرَفُ بالكلام فهو جَهْميٌّ، ومن لم يُعرَف بالكلام يُجانَب حتى يَرْجِعَ، ومَن لم يكن له عِلمٌ يَسأل"(11).
وقالَ مرَّةً في الواقِفَةِ:"هُمْ شَرٌّ مِن الجهميَّةِ"(12).
قلتُ: لخَفاءِ أمرِهم.
4 -
وقال إسحاقُ بن راهُوَيْهِ (الِإمامُ الفقيةُ الحافِظُ):
"مَنْ قالَ: لا أقولُ: القرآنُ مخلوقٌ، ولا غيرُ مخلوقٍ، فهو جَهميُّ"(13).
5 -
وقال قُتَيبةُ بن سعيد (وهو ثِقَةٌ ثَبْتُ حافِظٌ):
"هؤلاءِ -يعني الواقفة- شَرٌّ مِنْهم، ممَّن قالَ: القرآنُ مخلوقٌ"(14).
6 -
وقال الحافظُ الإِمامُ أبو الوليد الطَّيالِسيُّ:
"مَن لم يَعْقِدْ قلبَه على أنَّ القرآنَ ليسَ بمخلوقٍ فهو خارجٌ من الإِسلام"(15).
7 -
وقال عثمانُ بن أبي شيبة (ثِقَةٌ حافِظٌ):
(11) رواه عبد الله بن أحمد في "السنة" رقم (223).
(12)
رواه عبد الله بن أحمد في "السنة" رقم (225).
(13)
رواه أبو داود في "المسائل" ص: 270 ومن طريقه الآجري في "الشريعة" ص: 88.
(14)
رواه أبو داود في "المسائل" ص:270 ومن طريقه الآجري ص: 88.
(15)
رواه أبو داود في "المسائل" ص: 266 بسند صحيح.
"هؤلاء الذين يقولونَ: كلامُ الله ويسكُتونَ، شَرٌّ من هؤلاء -يعني ممن قالَ: القرآنُ مخلوقٌ"(16).
8 -
وقال أبو داودَ: سألتُ أحمدَ بن صالح المِصْريَّ (الحافظ الِإمام) عمَّن يقول: القرآن كلامُ الله، ولا يقول: مخلوقٌ، ولا غيرُ مخلوقٍ؟ قال:"لهذا شاّكٌّ"(17).
9 -
وقال أبو خَيْثَمة (ثِقَةٌ حافِظٌ) -وسأل يَحيى بن مَعِين- فقال:
إنَّهم يقولون: إنّكَ تقولُ: القرآنُ كلامُ الله، وتَسْكُت، ولا تقولُ: مخلوقٌ، ولا غيرُ مَخلوقٍ، قال:"لا" فعاوَدتهٌ، فقال:"مَعاذَ الله، القرآنُ كلامُ الله غيرُ مَخْلوقٍ، ومَن قالَ غير لهذا فعليه لعنةُ الله"(18).
10 -
وقالَ أبو حاتِمٍ وأبو زُرْعةَ الرّازيان الحافظان:
"ومَن شَكَّ في كلام الله عز وجل، فوقَفَ شاكّاً فيه، يقولُ: لا أدْري، مَخْلوقٌ أو غير مَخلوقٍ، فهو جَهميّ، ومَن وقَفَ جاهلاً عُلِّمَ، ويُدّعَ ولَم يُكَفَّر"(19).
وكذا ذكَر الإِمامُ هِبَةُ الله ابنُ الطَّبريّ نحوَ ما ذُكِرَ من الإِنكار عن نَحْوِ مِئَةٍ من المحدِّثينَ والفُقَهاء (20).
(16) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 271 ومن طريقه الآجري ص: 88.
(17)
رواه أبو داود ص: 271 وعنه الآجري ص: 88.
(18)
رواه ابن الطبري في "السنة" رقم (456) بسند صحيح.
(19)
رواه ابن الطبري 1/ 178 بسند صحيح.
(20)
كتاب "السنة" 2/ 323 - 329.
قلت: وإنَّما شدَّدَ الأئمةُ كلَّ هذا التَّشديدِ على هؤلاءِ الواقفةِ لأجلِ أنَّ الحقَّ في كَلام الله قَدْ بانَ وظَهَرَ، وقامَتْ عليه دلائِلُ الشَّرْعِ القاطعةُ، فلِمَ يبقى عندَ هؤلاءِ تردُّدٌ اعتقادِهِ والقولِ به؟
أمّا دَعْواهم أنَّ القولَ: (القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ) لم يتكلَّمْ به المتقدِّمون، فهو مُكابَرةٌ منهم لإِحقاق باطِلِهم، وإلَاّ فكيفَ يتكلَّمُ المتقدِّمون بما لَمْ يَقَعْ ولم يَشْهَدوه؟ أو بما لا يَدْرون إنْ وَقَعَ كيفَ يكونُ؟
وقد شرَحْنا من الدَّلالةِ ما يَكفي لصِحَّةِ اعتقادِ أهْل السُّنَّة، وبَيَّنَّا أنَّه الذي مَضى عليه سَلَفُ الأمَّةِ حتى قبلَ ظُهور هذهِ البِدْعَة من جِهَةِ اتّفاقهم على أنَّها صِفَةُ الله، والخالقُ بصفاتِهِ غيرُ المَخْلوق بصفاتِهِ.
فما أشبَه القومَ به، ومن قالَ: إنَّه قولُ الجنّ، أو المَلائكة، أو غير ذلك من خَلْق الله فهو مع الوَحيدِ في القَوْل سَواء، إلّا أنَّ القومَ يتستَّرونَ بالإسلام.
وقد أبَنّا لكَ فيما مَضى أنَّ الله تعالى لا يوصَفُ بشَيْءٍ مَخْلوقٍ، وفيما ذكرنا كفايةٌ ومقنعٌ لمَن أرادَ الحقَّ وقصَدَهُ.