الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: تبيين المراد بقوله تعالى {إنه لقول رسول كريم}
قول الله تعالى هذا جاءَ في موْضِعَيْن من كتابه:
الموضع الأوَّل: في سورة الحاقَّة [آية: 40].
والموضع الثاني: في سورة التكوير [آية: 19].
والمُرادُ بالرَّسولِ في آية الحاقَّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وفي آيةِ التَّكوير جِبريلُ عليه السلام، فأحدهُما الرَّسول البَشريُّ، والآخَرُ الرَّسولُ المَلَكيُّ.
قالَ تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] وقال سبحانه: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1]
وأمَّا الدليلُ على تَعيين المرادِ في الموضعِ الأولِ أنَّه محمَّد صلى الله عليه وسلم فمِنْ وجُوهٍ دلَّ عليها سياق الآياتِ.
قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} الآيات [الحاقة:40: 48].
فالوجه الأوَّل: دلَّ السّياقُ على أنَّ المرادَ تنزيهُ كونِ هذا القول الذي هو القرآنُ قولَ شاعرٍ أو كاهنٍ.
والذي وصفَه الكفَّارُ بالشّعر والكَهَانَةِ هو رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم، كمَا قال تعالى:{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5] وكما قالَ تعالى: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 36] فأبطَلَ الله تعالى وصفَهم إيَّاه بذلكَ بإثباتِ أنَّه قولُ رسولٍ كريم، اجتمعَتْ فيه مَعاني الكرَم، والتي منها طَهارتهُ ونزاهَتهُ وصِدْقهُ وأمانَتهُ، التي تمنَعهُ من التَّقوُّل والافتراءِ، والشِّعرِ والكَهانة، إذ أنَّها جَميعًا مَعاني باطلةٌ لا تَليقُ بمَقامهِ، لأنَّه الكريمُ في خُلُقِهِ وطَبْعهِ وأصْلِهِ.
والوجه الثاني: قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} أضْمَرَ الفاعلَ للعلمِ به، وهو المذكورآنفًا بوصْفِهِ الرَّسول الكَريم، وهذا ظاهرٌ، فلو لم يكن محمَّداً صلى الله عليه وسلم فمَنْ يكونُ إذًا؟
أجاب عن هذا بعضُ المُبتدعةِ فقالَ: هو جبريلُ عليه السلام، بقرينة آية التكوير.
قلنا: يردُّهُ ظاهرُ الخِطابِ، قالَ تعالى:{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} وهذا خِطابٌ لقُريشٍ، فلو كانَ جبريلُ عليه السلام هو المفترَض تقوُّلُهُ، فلا مَعنى إذًا لتَحدِّي قُرْيشٍ بقولِهِ:{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} لأنَّ حِمَايَتَهُمْ وَحِفْظَهُمْ لجبريلَ غيرُ مقدورٍ لهم، فلا فائدةَ
من تحدِّيهم فيهِ.
والوجه الثالث: أنَّ هذا قولُ عامَّة المفسِّرينَ، إلَاّ مَنْ شَذَّ لبدعةٍ أو عدَم أمانةٍ، كالكلبيّ ومُقاتلٍ (8).
والدَّليلُ على تَعيين المُرادِ في المَوضِع الثاني، وأنَّه جبريلُ عليه السلام، فمِنْ وُجوهٍ أيضًا:
الأول: وصفُه بقوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} كقولِهِ في النجم: {شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ} ومعلومٌ هناك أنَّه جبريلُ.
والثاني: قولُهُ: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} الهاء في قوله: {رَآهُ} عَائدةٌ على الرَّسولِ الكَريمِ، والذَي رآه صَاحبُنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بالأفُق المُبين إنَّما هو جبريلُ عليه السلام كما صرَّحَ به الخبرُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقَدْ سُقناهُ في الباب الأول (9).
والثالث: قولُهُ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} رَدٌّ على الكفَّارِ القائلينَ: إنَّما يأتي محمَّدًا شيطانٌ يعلِّمُهُ، وهو نظيرُ قولِهِ تعالى:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210 - 212]، وكانَ هذا بعدَ قولهِ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ
(8)"زاد المسير" 8/ 354.
والكلبي هو محمد بن السائب مفسّر مشهورٌ، وكان كذّابًا معروفًا بالكذب، ليس بثقَةٍ ولا مأمون، وكان صاحبَ ضلالةٍ، يؤمنُ برَجْعة عليّ، وأمَّا مقاتل فهو ابن سُليمان مفسّر مشهور أيضًا، ولم يكن ثقةً ولا مأمونًا واتُّهم بالكذب، وكانَ مجسّمًا مشبّهًا للرب تعالى بخلقهِ.
(9)
ص 104.
رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195]، وهذا ظاهرٌ في كونهِ جبريلَ عليه السلام.
والرابع: اتّفاقُ المفسّرينَ على أنَّه جبريلُ.
فهذه الوجوهُ التى سُقْتُها كافيةٌ للدَّلالةِ على تَعيين المُرادِ بالرَّسولِ في كِلا المَوْضعَيْن لمَنْ هَداهُ الله تعالى وبصَّرَهُ، مَعَ أنّي أرى الفرقَ بينهما ظاهرًا بأدنى تأمُّلٍ.
• معنى إضافة القول إلى جبريل ومحمد عليها الصلاة والسلام:
المُرادُ بالقوْلِ ظاهِرٌ في أنَّه القرآنُ المُنْزَلُ بهذا اللّسان العَربيّ المُبين، الذي هو تنزيلُ ربّ العالَمينَ، وإضافَتهُ إلى الرَّسولَيْنِ لأجْلِ أنَّ كُلاًّ منهما بَلَّغَهُ وأدَّاهُ، فهو قولهُ من هذهِ الجهَة، وليسَ قولَهُ بمعنى أنَّه أنَشأه وابتدَأهُ لامتناع ذلك، إذ أنَّه لو كانَ من إنشاءِ أحدِهما ونظْمهِ لمَا صحَّت إضافَتهُ إلى أحدِهما دونَ الآخر، لأنَّ كُلاًّ منهما يكونُ قَدْ أنشأه وقالَه، وهو باطلٌ.
وهو كلامُ الله بألفاظهِ ومَعانيه جَميعًا، ألقاهُ إلى جبريلَ عليه السلام، فبلَّغَهُ جبريلُ إلى محمَّد صلى الله عليه وسلم، فبلَّغهُ محمَّد صلى الله عليه وسلم إلى أمَّتهِ، وليس لجبريلَ عليه السلام ولا لمُحمَّد صلى الله عليه وسلم إلَاّ التبليغُ والأداءُ.
والدليل عليه من وُجوهٍ:
الأوَّل: أنَّه قال: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} ولم يَقُلْ: لَقْولُ مَلَكٍ، أو: نَبِيّ،
والرسولُ يقتَضي مُرْسِلاً وَمُرْسَلاً به، والمُرْسِل هو الله تعالى، والمرسَلُ به كلامُه ووحيُهُ، لا معنى للرسالةِ إلَاّ هذا.
قالَ ابن قُتيبة رحمه الله: "لم يُرِد أنَّه قولُ الرَّسولِ، وإنَّما أرادَ أنَّه قولُ رَسولٍ عن الله جَلَّ وَعَزَّ، وفي الرَّسولِ ما دلَّ على ذلك، فاكتفى به من أن يقولَ: عن الله"(10).
والثاني: أنَّه لَوْ كان الرَّسولُ قدْ أنشَأهُ لمَا كانَ أميناً على رِسالتهِ، لأنَّ المُرسِلَ ائتمَنَه على تبليغ كلامهِ على وَجْهِهِ بألفاظِهِ وَمَعانيه -لأنَّ الكلامَ لا يكونُ إلَاّ كذلكَ كما سبقَ تقريرُه في الباب الأوَّل- فأنشَأ له الرَّسول نَظْماً آخرَ، وهذا خِيانةٌ للأمانَةِ.
والثالث: أنَّه لو كانَ من إنشاءِ أحَدِ الرَّسولين لامتنعَ أن يكونَ من إنشاءِ الآخر -كما سَبَق قريبًا-
والرابع: أنَّ الله تعالى قالَ عقبَ إضافةِ القَوْلِ إلى الرَّسولِ الكَريم في سورة الحاقَّة، وبعدَ أنْ نزَّهَه أن يكونَ قولَ شاعرٍ أوكاهنٍ {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فجَعلَ ابتداءَهُ منه لا مِنْ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ولا من جبريلَ عليه السلام، يُجَلّيه ويوضِّحُهُ قولُهُ فى الشعراء:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} فَبيَّن أنَّ المنزَلَ بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ -واللّسانُ: اللُّغة- هَو الذي نزلَ به الرُّوحُ الأمينُ جبريلُ من عندِ رَبِّ العالَمين تعالى، فبانَ بهذا أنَّه قولُه تعالى وكلامُهُ ووحيُهُ.
(10)"تفسير غريب القرآن" ص: 484.
والخامس: أنَّه تعالى توعَّدَ بسَقَرَ مَن زَعَمَ أنّه قولُ البَشَر، كما قالَ عن الوَحيد:{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر 18 - 26].
ولا يَخفى أنَّه لا فَرْقَ بين أنْ يُدَّعى أنَّه قولُ البَشَر، أو أنَّهُ قَوْلُ مَلَكٍ، أو جِنّيٌّ.
والسادس: أنَّ الله تعالى خاطَبَ به العرَبَ بلسانِهم، وتحَدَّاهم أن يَأتوا بمثلهِ، أو بمِثْلِ عَشْر سُوَرٍ مثله، بل تَحَدَّاهم أن يأتوا بسوةٍ مثلهِ، كما قال:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] وقَالَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13 - 14] وقال {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]، ولم يكن ليتحدَّاهُم بغير مَقْدورٍ لهُمْ، فلمَّا أعجَزَهم الإِتيانُ بمثلهِ أو بِشَيْءٍ مِنْ مثلهِ دلَّ على أنَّه ليسَ ككلَام البشَر، ولا ككلام الجِنِّ، وإنَّما هوَ كلامُ ربّ الإِنسِ والجنِّ.
واستقصاءُ الوجوهِ لِما ذكَرْنا يَطولُ، وفيما ذكرنا كفايةُ لمن استهدى.
وقد سَبَقَ تقريرُ العقيدةِ السَّلَفية في أنَّ القرآنَ العربىَّ وغيرَه من كَلام الله، منَ الله بدأ وإليه يعودُ، وذكرتُ لذلكَ من الأدلَّة ما فيه الكفايةُ، وإنَّما
المقصودُ هُنا إزالة الاشتباهِ الذي أورَدَهُ بعضُ أهل البدعِ حولَ إضافةِ القَوْلِ إلى الرَّسولِ في سورتي الحاقَّة والتكوير، وأنَّ القرآنَ كلامُ الله تعالى ألفاظَه ومَعانِيَه، غيرُ مَخلوقٍ بألفاظهِ -التي هي حروفه العربية المنظومةُ- ومَعانيهِ.