المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة الكتاب الحمد لله؛ نحمدُهُ ونَسْتَعينُه ونَسْتغْفِرُهُ، ونعوذُ بالله من شرورِ - العقيدة السلفية فى كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية

[عبد الله الجديع]

فهرس الكتاب

- ‌مدخل

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌التنبيه على مسائل يحتاج إليها قبل الشروع في المقصود

- ‌ المسألة الأولى:

- ‌ المسألة الثانية:

- ‌ المسألة الثالثة:

- ‌ المسألة الرابعة:

- ‌ المسألة الخامسة:

- ‌مجمل خطة تأليف الكتاب

- ‌الباب الأول: العقيدة السلفية في كلام رب البرية

- ‌الفصل الأول: بيان حقيقة الكلام

- ‌المبحث الأول: حقيقة الكلام

- ‌المبحث الثاني: حقيقة المتكلم

- ‌المبحث الثالث: أنواع الكلام

- ‌ الأول: الخبر:

- ‌ والثاني: الإنشاء:

- ‌الفصل الثاني: عقيدة السلف في إثبات الصفات

- ‌قاعدة جلية في الاعتقاد

- ‌الفصل الثالث: شرح اعتقاد السلف فى كلام الله تعالى

- ‌المبحث الأول: جملة اعتقاد أهل السنة في كلام الله تعالى

- ‌المبحث الثاني: الأدلة المثبتة لصفة الكلام

- ‌المبحث الثالث: التكليم في الدنيا

- ‌المبحث الرابع: التكليم في الآخرة

- ‌المبحث الخامس: كلام الله تعالى غير مخلوق

- ‌المبحث السادس: الوقف في القرآن

- ‌المبحث السابع: كلام الله تعالى بحرف وصوت

- ‌المبحث الثامن: كلام الله تعالى بمشيئته واختياره

- ‌المبحث التاسع: تفاضل كلام الله تعالى

- ‌المبحث العاشر: كلام الله تعالى منزل منه ، منه بدأ وإليه يعود

- ‌الباب الثاني: توضيح مسألة اللفظ بالقرآن ورفع ما وقع بسببها من الاشكال

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأول: تفسير الألفاظ المجملة التي وقع بسببها الاشكال

- ‌المبحث الأول: بيان هل اللفظ هو الملفوظ؟ أم غيره

- ‌المبحث الثاني: تبيين المراد بقوله تعالى {إنه لقول رسول كريم}

- ‌الفصل الثاني: مسألة اللفظ وموقف أهل السنة

- ‌المبحث الأول: جملة اختلاف الناس في مسألة اللفظ

- ‌المبحث الثاني: اللفظية النافية جهمية

- ‌المبحث الثالث: إقامة الحجة على بطلان اعتقاد اللفظية النافية

- ‌المبحث الرابع: بيان غلط اللفظية النافية على الامامين أحمد والبخاري

- ‌المبحث الخامس: اللفظية المثبتة مبتدعة

- ‌الباب الثالثعقائد الطوائف المبتدعة في كلام الله تعالى وكشف أباطيلهاوفيه تمهيد وثلاثة

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولذكر جملة أقوال طوائف أهل البدع

- ‌ أولا: المتفلسفة وبعض غلاة الصوفية:

- ‌ ثانيا: الجهمية من المعتزلة وغيرهم:

- ‌ ثالثا: الكلابية:

- ‌ رابعا: الأشعرية:

- ‌ خامسا: السالمية ومن وافقهم من أهل الكلام والحديث:

- ‌ سادسا: الكرامية:

- ‌الفصل الثانيكشف تلبيس الجهمية المعتزلة في كلام الله تعالى وحكم السلف والأئمة فيهم

- ‌المبحث الأول: ذكر شبه المعتزلة ونقضها

- ‌المبحث الثاني: ذكر ما حرفت المعتزلة من معاني التنزيل لابطال صفة الكلام

- ‌المبحث الثالث: المعتزلة فى الميدان

- ‌الفصل الثالثكشف تلبيس الأشعريةفي إثبات صفة الكلام لله تعالى

- ‌المبحث الأول: تعريف الكلام عند الأشعرية

- ‌المبحث الثاني: إبطال كون كلام الله تعالى معنى مجرداً

- ‌المبحث الثالث: القرآن العربي عند الأشعرية

- ‌المبحث الرابع: أسماء الله تعالى عند الأشعرية

- ‌المبحث الخامس: وجه التوافق بين قولي المعتزلة والأشعرية في القرآن

- ‌المبحث السادس: الأشعرية وأهل السنة في مسألة القرآن

- ‌خاتمة

الفصل: ‌ ‌مقدمة الكتاب الحمد لله؛ نحمدُهُ ونَسْتَعينُه ونَسْتغْفِرُهُ، ونعوذُ بالله من شرورِ

‌مقدمة الكتاب

الحمد لله؛ نحمدُهُ ونَسْتَعينُه ونَسْتغْفِرُهُ، ونعوذُ بالله من شرورِ أنْفُسِنا وسيّئاتِ أعمالِنا، من يهدِهِ الله؛ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل؛ فلا هادِيَ له.

وأشهد أن لا إله إلَاّ الله وحدَه لا شريك لَه، وأشهدُ أنَّ محمّداً عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.

أمَّا بعد

فإنَّ الله عز وجل امتنَّ على عبادِهِ أعظمَ المنَّةِ، فأرسلَ إليهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتِهِ، ويبصِّرُهم بسُبُلِ مَرْضاتِهِ، ويَهديهم بهِ إلى صِراطٍ مُستقيم، ولم يكنْ للعبادِ غُنْيَةٌ عن هذه النِّعمةِ؛ لأنَّهم لولاها لَوُكِلوا إلى عُقولهم وأهوائهم، ولو كانَ ذلكَ كذلكَ؛ لضَلّوا السَّبيلَ، وما أمكنَ أحَداً من الخَلْقِ أن يَعْلَمَ التَّحريمَ من التَّحليلِ، ولا الغيبَ من الشَّهادَةِ، ولا عُرِفَ ثَوابٌ ولا عِقابٌ، ولا بَعْثٌ ولا حِسابٌ، ولا تَمَيَّز حقٌ من باطل، ولا كُفْرٌ من إيمانٍ، ولا مَن يَعْبُدُ إبليسَ مِمّن يعبُدُ الرَّحمن، فيكونُ خلقُ الخَلْق عَبثاً لا حكمةَ وراءَه، وهذا المعنى يتنزهُ عنهُ الحَكيمُ الخَبيرُ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى الله الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا

ص: 19

هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115 - 116]، {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27].

فكان الرسُلُ هم الحكّام على أقْوامِهم بما يُوحى إليهم من الشَّرائع؛ إذْ كانوا هم الوَسائطَ بين الرَّبِّ تعالى وبينَ سائرِ خَلْقهِ، يُبَلِّغون رِسالات ربّهم، ويقوّمون سلوكَ أقوامِهم.

فلَمْ يَدَع العليمُ الخَبيرُ تقويمَ السُّلوك لعَقْل الإِنسانِ المجرَّد، وإنَّما جعَلَهُ أداةً يَعْقِلُ بها مُرادَ ربِّه تعالى؛ فهو تَبَعٌ لوَحْي الله وتشريعهِ، ليس له حَقُّ الابتداءِ والإِنشاءِ للأحكام والتَّشريع.

وهذا المعنى أدركَه الرُّسلُ وأتباعُهم، فكانوا على الصِّراطِ المُسْتقيم، ورفَضَتْهُ طوائفُ من الخَلْق، فخرَجوا عن طريقةِ الرّسل، وحادُوا عن الحَقّ المُبين.

ولقَدْ علَّق ربُّنا تعالى النجاةَ والفلاحَ والفوزَ بطاعةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم واتّباعِهِ:

كما قال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52]

وكما قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

ص: 20

وكما قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13 - 14].

وكما قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71].

وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ أمَّتي يدخلون الجنَّةَ إلَّا مَنْ أبى". قالوا: يا رسولَ الله! ومَن يأبى؟ قال: "مَن أطاعَني دخلَ الجنَّةَ، وَمَن عَصاني فقَدْ أبى"(1).

وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مَثَلي وَمَثَلَ ما بعَثَنَي الله بهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أتى قَوْمَهُ، فقالَ: يا قَوْم! إنّي رأيتُ الجيشَ بِعَيْنَىَّ، وَإنّي أنا النَّذيرُ العُرْيانُ؛ فالنَّجاءَ! فأطاعَهُ طائفةٌ مِنْ قَوْمِهِ، فأدْلَجوا، فانطَلَقوا على مُهْلَتِهِمْ، وكذّبَتْ طائفةٌ منهم، فأصبحوا مكانَهم، فصبَّحَهم الجَيْشُ، فأهلكَهم واجْتاحَهم؛ فذلك مَثَلُ مَنْ أطَاعَني واتَّبَعَ ما جئتُ بهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصاني وَكَذَّبَ ما جِئْتُ بهِ مِنَ الحقّ"(2).

فهما طريقانِ: اتِّباعُ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم وطاعَتُهُ، أو اتِّباعُ الهَوى، وليسَ من

(1) حديث صحيح.

أخرجه أحمد 2/ 361 والبخاري 13/ 249 من طريق فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة مرفوعاً.

(2)

حديث صحيح.

أخرجه البخاري 11/ 316 و 13/ 250 ومسلم (2283) من طريق أبي أسامة عن بُرَيد عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم به.

ص: 21

سَبيلٍ إلى ثالثٍ، فمَن لم يتَّبعِ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم؛ فلا بُدَّ أنْ يَتَّبعَ الهَوى، وقدْ قال الله تعالى:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].

فاتِّباعُ مَحْضِ العُقولِ دونَ ما جاءَ به الرَّسولُ اتِّباعٌ للهَوى، وعُدُولٌ عنِ الصِّراط المُستقيم.

قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

فالصِّراطُ المستقيمُ واحدٌ، والحَيْدُ عنه يكونُ إلى سُبُلٍ متشعِّبةٍ، ولقَدْ صوَّر ذلكَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أحسَنَ تصويرٍ بأحْسَنِ عِبَارةٍ؛ فعن عبد الله بن مَسعودٍ رضي الله عنه قال: خَطَّ لَنا رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خطّاً، ثُمَّ قالَ:"هذا سبيلُ الله". ثمَّ خَطَّ خُطوطاً عن يَمينهِ وعن شِمالِه، ثمَّ قال:"هذه سُبُلٌ مُتفرِّقةً، على كلِّ سَبيلٍ منها شيطانٌ يَدْعو إليه". ثُمَّ قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (3).

(3) حديث صحيح.

أخرجه الطيالسي رقم (244) وأحمد رقم (4142، 4437) والنسائي في "الكبرى"- كما في "تحفة الأشراف" 7/ 49 - والدارمي رقم (208) وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (17) وابن نصر في "السنة" ص: 5 والبزار رقم (2210 - كشف الأستار) وابن حبان رقم (1741، 1742 - موارد) وابن وضاح في "البدع" ص: 31 والحاكم 2/ 318 وابن الطبري في "السنة"رقم (92 - 94) والبغوي في "شرح السنة" 1/ 196 من طرق عن عاصم بن أبي النُّجود عن أبي وائل عن عبد الله به.

وقال الحاكم "حديث صحيح الإسناد".

قلت: إسناده جيد.

ص: 22

ولقد كانتْ هذِهِ الأمَّةُ مرحومةً في أوَّلِ عَهدِها، جَمَعَها الله على الهُدى، وألَّفَ بين قُلوبِ أفرادِها، وحَماها من الهَوى، حيثُ استقامَت على طاعةِ الله ورسولِهِ صلى الله عليه وسلم، أولئكَ أصحابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لمْ يكونوا يَعْرِفُونَ غيرَ اتِّباعهِ وتَوْقيرهِ واتِّباع النُّور الَّذي أنْزلَ معَهُ، مُستسلمينَ لِما جاءَ به من الحقّ، لم يكنْ لهم قوْلٌ معَ قولِهِ، ولا اعتراضٌ على حكْمهِ.

وصَدَق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين قالَ: "إنَّ الله نَظَرَ في قلوبِ العِبادِ، فوجَدَ قلبَ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم خيرَ قلوبِ العبادِ، فاصْطَفاه لِنَفْسِهِ، فابتعثَهُ برسالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ في قُلوبِ العبادِ بَعد قَلْبِ محمّدٍ، فوَجَدَ قلوبَ أصحابِهِ خيرَ قلوبِ العبادِ، فجعَلهمَ وُزراءَ نبيِّهِ، يقاتِلَونَ على دينِهِ، فما رَأى

= وقد رواه أبو بكر بن عياش على هذا الوجه عن عاصم عند غير واحد ممَّن ذكرت، ورواه عن عاصم عن زر عن عبد الله، أخرجه النسائي في "الكبرى" - كما في "تحفة الأشراف" 7/ 25 - وابن نصر ص: 5 والحاكم 2/ 239.

وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وإني أحسبه خطأ من أبي بكر بن عياش، ففد تابَعَ عاصمًا عليه الأعمش فرواه عن أبي وائل عن عبد الله.

أخرجه البزار رقم (2211 - كشف الأستار) وسنده صحيح.

ورواه الربيع بن خثيم عن عبد الله، أخرجه البزار رقم (2212) بسند صحيح. وله شاهد من حديث جابر بن عبد الله.

أخرجه أحمد 3/ 397 وابن ماجة رقم (11) وابن أبي عاصم رقم (16) وابن نصر ص: 5، 6 وابن الطبري رقم (95) وإسماعيل بن الفضل الأصبهاني في "الحجة" ق 75/ أمن طريق مجالد عن الشعبي عن جابر به نحو مرفوعًا.

قلت: وإسناده لين، لضعف في مجالد.

قال الحكم: "وشاهده لفظًا واحدًا حديث الشعبي عن جابر من وجه غير متعمد".

ص: 23

المسلمون حَسَنًا؛ فهو عندَ الله حَسَنٌ، وما رَأوْا سيئًا؛ فهو عند الله سيّئٌ" (4).

فَخَلَفَ من بَعْدِهم خَلْفٌ لم يَقْنَعوا بوَحْي الله وتشريعِه، ورَأوْا هناكَ حاجةً إلى التَّصحيحِ والزِّياةِ والحَذْفِ، فأعْمَلوا العقولَ في الوَحي المَعصوم، واستدْرَكوا على أحكام الحيِّ القيّوم، ففرَّقوا دينَهم وكانوا شِيَعًا، فتشعَّبَتِ السُّبُلُ بالناس، ووقع ما كانَ يخشاهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على أمتهِ من أئمَّةِ الضَّلالةِ:

كما قالَ: "إنَّما أخافُ على أمَّتي الأئمةَ المُضِلِّين"(5).

(4) أثر جيد الإسناد.

أخرجه أحمد رقم (3600) والبزار رقم (130 - كشف الأستار والطبراني في "الكبير" 9/ 118 من طريق أبي بكر بن عياش حدثنا عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود به.

قلت؛ وهذا إسناد جيد، وعاصم هو ابن بهدلة.

ورواه الطيالسي رقم (246) والطبراني 9/ 118 عن المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله والأوَّل أصحّ، فإن المسعوديَّ اختلط، وروى عنه هذا الحديث الطَّيالِسيُّ وعاصم بن علي، وقد أخذا عنه بعدما اختلط.

للحديث إسناد آخر عن ابن مسعود.

أخرجه الطبراني 9/ 121 من طريق الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله، وإسناده حسن.

وإسناد ثالث عن عبد الله أيضًا.

أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" 1/ 167 من طريق الأعمش عن مالك ابن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله بآخره.

(5)

حديث صحيح.

ص: 24

وكَما قال: "إنَّ مِمَّا أخشى عليكم شهَواتِ الغَيِّ في بُطونِكم وفُروجِكم ومُضلَّاتِ الهوى"(6).

فوقَعَ الاختلافُ، وعظُمَ في الأمَّةِ، فأعْرَضَ أكثرُها عن الكتابِ، وضَرَبَ آخرونَ آياتِهِ ببعْضِها، وجادَلوا بالباطِل ليُدْحِضوا به الحقَّ، وزيَّنَ ذلكَ إبليسُ في أعيُنِهم فرَأوْه حَسَنًا، وحسِبوُه عَيْنَ العَقْلِ والاستقامةِ.

ولقَدْ أخبرَ المعصومُ صلى الله عليه وسلم عمَّا تؤولُ إليه حالُ الأمَّةِ من بعدِه، ودلَّ على ما فيهِ النَّجاةُ والسَّلامةُ:

فعَن العرباض بن ساريةَ رضي الله عنه؛ قال: صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصُّبحَ ذاتَ يوم، ثمَّ أقبلَ علينا، فوعَظَنا مَوْعظةً بليغة؛ ذَرَفَتْ منها العُيونُ، وَوَجِلَتْ منها القُلوبُ، فقال قائلٌ: يا رَسولَ الله! كأنَّ هذه مَوْعظةُ مُوَدِّعٍ؛ فماذا تعهَد إلينا؟ فقال: "أوصيكُمْ بِتَقْوى الله، والسَّمْعِ والطَّاعةِ،

= أخرجه أحمد 5/ 278، 284 وأبو داود رقم (4252) والترمذي رقم (2229) والدارمي رقم (215، 2755) من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قِلابة عن أبي أسماء عن ثوبان به مرفوعًا، وبعضهم يذكره ضمن حديث.

قلت: وإسناده صحيح، وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح".

وله شواهد صالحة الأسانيد من حديث شداد بن أوس وعمر بن الخطاب وأبي ذر وأبي الدرداء

(6)

حديث صحيح.

أخرجه أحمد 4/ 420، 423 والبزار رقم (132 - كشف الأستار) وابن أبي عاصم رقم (14) والطبراني في "الصغير" رقم (511) وغيرهم من طريق أبي الأشهب عن أبي الحكم البُناني عن أبي بَرْزة الأسلمي مرفوعًا به.

قلت: وسنده صحيح.

ص: 25

وإن كانَ عبدًا حَبَشيًّا؛ فإنَّهُ مَن يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي؛ فسَيرَى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكمْ بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشدينَ المَهْديِّين؛ فتمسَّكوا بها، وعضّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكُمْ ومُحْدَثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كلَّ مُحْدَثةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالةٌ" (7).

فأنبأ أنَّ أمَّتَهُ ستختلفُ من بعدهِ اختلافًا عَظيمًا، وما ذلك الاختلافُ إلَاّ بسَبَبِ ما يَدْخل علَيْها من البِدَع والأهواءِ.

وأنْبأ أنَّ المَخْرَجَ من ذلكَ الاعتصامُ بِسُنَّتهِ وسُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدينَ من بعدِه، ذلك لأنَّهم على الهُدى المُستقيم.

وحذَّرَ من سَبيلِ المُتفرِّقين المختلِفين أهْلِ الأهواءِ والبِدَع.

ولو كان هناكَ سبيلُ سَلامةٍ يُصارُ إليه غيرُ هذا الذي ذكَرَ؛ لدَلَّ عليه أمَّته، ولأرشَدَهم إليه؛ لِما وصفه الله تعالى به حيث قال:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، فكان في هذا حُجَّةٌ على أنَّ السَّلامةَ لا تكونُ إلَاّ باتِّباعِ السُّنَّة وسَبيلِ السَّلَف، وتَرْكِ البدَع وسُبُلِ الخَلَف.

وَلَقَدْ أنْبأنَا عن تَفَرُّق هذه الأمَّةِ من بعْدهِ، ودلَّ على طائفةِ أهْلِ الحَقِّ ليُحْتذى مِثالُها، فقالَ: "ألَا إنَّ مَنْ قبلَكُمْ من أهْلِ الكتابِ افْتَرقوا على ثنتين وسَبعين مِلَّة، وإنَّ هذهِ المِلَّةَ ستفترقُ على ثَلاثٍ وسَبعين، ثنتانِ وسبعونَ في النَّارِ، وواحدةٌ في الجَنًةِ، وهي الجَماعةُ، وإنّه سَيخرجُ مِنْ

(7) حديث صحيح جليل، أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلَاّ النسائي، ولتفصيل تحقيقه موضع آخر.

ص: 26

أمَّتي أقْوامٌ تَجارى بهمْ تِلكَ الأهواءُ كما يَتجارى الكَلَبُ لصاحبهِ (أو: بصاحبهِ) لا يَبْقى منه عِرْقٌ ولا مَفْصِلٌ إلَاّ دَخَلَه" (8).

وإنَّمَا عَظُمَ شَرُّ هذه الطوائفِ بِسَبَبِ ما خرَجوا به عن الشَّريعةِ، من الخَوْضِ في آياتِ الله بغيْرِ الحقّ، والقَوْلِ على الله بِغيْرِ علْمٍ، وتحريفِ الكَلِم عن مَواضِعِه، ففارَقوا بذلكَ الكتابَ والسُّنَّة، وارْتَضَوا لأنفُسِهم مناهِجَ مِن وضْع عُقولِهم وإمْلاءِ أهْوائِهم، وعصَمَ الله طائفةَ أهلِ الحقِّ باتِّباع الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم وما جاءَ به وما كانَ عليه الجَماعَةُ أصحابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّهُمْ رَأوا ضَلَالَ سائِر الطَّوائفِ وخُروجَها عن مَنْهَجِ الصَّحابَةِ الكِرام الذين كانوا أعْلَمَ الأمَّةِ بما جاءَ به الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم، وأبعدَها عن مُحْدَثاتِ الأمورِ، فرفَعَ الله بهذِهِ الطائفة لِواءَ أهْل السُّنَّةِ والجَماعةِ، وَقَمَعَ بهم أهْلَ البِدَع، فأظْهروا دلائلَ الوَحْي الشَّريفِ، وأبانوا عنها بالفَهْمِ السَّديدِ، وصَوَّبوها سِهامًا على المُبْتَدِعَةِ في الأصولِ والفُروعِ، ولم يكن لهم أسوةٌ يأتَسون به إلَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا طائفةٌ ينْتَمونَ إليها إلَاّ أهْل السُّنَّة والجَماعةِ، ولا خُطَّةٌ يَنْتَهِجونها إلَاّ خُطَّة سَلَفِهم أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، والتابعينَ لهم بإحسانٍ، فكانوا بهذا أقْوَمَ النَّاسِ سبيلًا، وأحْسَنَهم طَريقًا.

ولقدْ كانَ من أعْظَم ما حصَلَ فيه الاختلافُ ما أحْدثَتْهُ المُبْتَدعةُ من

(8) حديث صحيح.

أخرجه أحمد 4/ 102 وأبو داود رقم (4597) من حديث معاوية بن أبي سفيان مرفوعًا به، وسنده جيد.

وله شواهد عن عوف بن مالك وأبي هريرة وأنس وغيرهم، يصح بها الحديث.

وقوله "الكَلَب": داء يقع للإنسان يشبه الجنون، يكون بسبب عضّ الكَلْب الكَلِب.

ص: 27

الخَوْضِ في ذاتِ الله تعالى وأسْمائِهِ وَصِفاتِهِ، بل كانَ هذا أعْظَمَ ما وقَعَ من الفِتَنِ التي ابتُليت بها هذهِ الأمَّةُ، فحصَلَ إلحادُ طوائفَ في أسماءِ الله وصفاتهِ، وتكذيبٌ لِما جاءَ به الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم، ورَدٌّ للمَقطوع به من شَرائعِ المُرْسَلينَ، مما وقَعَ به شرٌّ عَظيمٌ، وفَسادٌ كبيرٌ.

وكانَ من أخَصّ تلكَ القضايا التي طارَ في الأمَّة شَرَرُها، وعَظُمَ في النَّاس خَطَرُها، ما أحْدَثَتْهُ الجَهميةُ -أضلّ الطوائفِ الخارجةِ عن أهْلِ الحق- من وصْفِ الباري تعالى بالنقائِص، وتعْطيلِ صفاتِ الكَمال التي أثْبَتَها لنفسهِ، وأثبَتَها له رسولُه صلى الله عليه وسلم، أشدّ ممَّا وقَعَ من اليهودِ والنَّصارى.

ومِن أبْرَزِ ذلكَ اعتقادُهم أن لا كلامَ لله على الحَقيقة، فسَوَّوْهُ بالأصنام التي لا تَرْجِعُ لعابِديها قَوْلًا، ولا تَمْلِكُ لهم ضَرًّا ولا نَفْعًا.

وأرادوا بذلك إبطالَ الرِّسالةِ؛ فإنَّ الرُّسُلَ إنَّما بُعثوا ليبلّغوا رسالاتِ الله؛ فحين ينتفي أن يكونَ لله كلامٌ؛ فقد انتفى أنْ يكونَ لَه وَحْيٌ؛ لأنَّ الذي يُوحى إنَّما هو كلامُه وتشريعُه، وإذا انتفى أنْ يكونَ لَه وَحْيٌ؛ فالرَّسول رسولُ مَن؟ وما يوحى إليه وحْيُ مَن؟

فلِعِظَم الخُطورةِ بسبَب هذه القضيَّة، خاصَّةً وأنَّ البدعَ فيها تشعَّبت وكَثُرت، ودينُ الإِسلام يقومُ على صِحَّة الاعتقادِ فيها، رأيتُ لذلكَ تناوُلَها بالخُصوصِ من بين سائر مَسائل الاعتقاد في هذا الكتاب.

وأكَّدَ ذلك عندِي ما دَخَلَ الأمَّة -بسبَب تلبيس أهل البِدَع- من تَهوين شأْن لهذه القضيَّةِ الخطيرة، بل وإهمالِها، مَعَ أنَّ للبدْعَة رؤوسًا لا زِلْنا نَراهم يُشيعون ما يُضادُّ الاعتقادَ الصَّحيحَ وينشرونَه، ويَدْعونَ إليه في أكثرِ بلادِ المُسلمينَ، ونَرى أكثرَ إخوانِنا الدُّعاةِ في العالَم الإِسلامِيّ لم

ص: 28

يستوعِبوا خُطورةَ هذا الأمْرِ، فَهُمْ يُهوِّنونَ من شأْنِ أهل البدَع، وربَّما اعتذَروا عنهم، وربَّما حَسِبَ بعضُهم هذه القَضايا ثانويةً، بل ربَّما حَسِبَ آخرونَ أنَّها ليستْ من أساسياتِ الدِّين، وآخرون ظنُّوا أنَّ هذه القضيَّة، بل عُموم ما يتعلَّق بأسماءِ الله وصفاتِهِ لم تَعُدْ من المَسائل ذاتِ الخُطورة، وفي الواقع هناك مسائل أولى بالاعتناء بها منها، ورُبَّما قالَ البعضُ: لقد ذهبَ عهدُ المعتزلةِ والفتنةِ التي لَقِيَها الإِمامُ أحمد، والمُسلمونَ الآن يتعرَّضونَ لأنْواع أخْرى من الفِتَن

إلى غير ذلك مما يُشْبِهُ هذا من التلبيسات التي يُلْقِيها الشَّيْطانُ على ألْسنةِ هؤلاء.

وغفلوا عن كونِ مَعْرِفَةِ ما يتعلَّقُ بأسْماءِ الله تعالى وصفاتهِ من الأصولِ التي بعثَ الله بها رسُلَه، وأنْزَلَ بها كُتُبَه، والفِتَنُ التي حَصَلَتْ بسَبب أهْل البِدَع لم تُحْدِثْ هذا النَّوْعَ من الاعتقادِ، وإنَّما نبَّهتْ أهْلَ الحَقِّ واستنْفَرَتْهُمْ لمُواجَهةِ الباطل، فقابَلوهم بحُجَج الكتاب والسُّنَّةِ، لا بالآراء المُحْدَثَةِ، والمَعقولاتِ الفاسدةِ؛ فإنَّ الأدلَّةَ على اعتقادِهم من كتابِ الله وسُنَّةِ نَبِيّه صلى الله عليه وسلم كانت موجودةً قبلَ وجودهم لإِثباتِ اعتقادِهم، ولَمْ يكن لأهلِ السُّنَّةِ أَتْباعِ السَّلَفِ أنْ يَبْتدعوا أصولًا لم يَرِدْ بها كتابٌ ولا سُنَّةٌ، ولو كانوا كذلك، فبأيِّ شَيْءٍ إذاً فارقوا مَنْ سِواهم من الطوائِف؟

وإني قائلٌ لهؤلاء: أيّ شَيْءٍ يكون هذا الَّذي رأيتُم تقديمَ الاشتغالِ به على اشتغالِكم بمَعْرِفةِ أصْل الأصول، وهو معرفةُ الربّ تعالى، الأساسُ الَّذي يرتبط به قبولُ كل عمَل، وعليه تنبني سَلامةُ الدّين؟ صَحَّحوا الأصولَ ثم انتقلوا إلى الفروع.

واعلَمْ أنَّ السَّبَبَ الأعظمَ في وقوعِ مثلِ ذلك هو الجهلُ باعتقاد

ص: 29

السَّلَف، وأن لهؤلاء -أو كثيرًا منهم- لَمَّا رأوا كتب الأشعريةِ والماتُريدية ومِن قبلهم المعتزلة، وما طَفَحَت به من الطرقِ الكلاميةِ والمناهجِ الفلسفيةِ لِإثبات اعتقاداتهم؛ ظنُّوا هذا اعتقادَ أهل السُّنَّة، وأكَّدَ ذلك أنَّهم يرَوْنَ هذه الطَّوائفَ ينتسبُ أصحابُها إلى السُّنَّة، خاصَّةً الأشعرية والماتُريدية، ويذكرونَ اعتقاداتِهم على أنَّها إعتقاداتُ أهل السُّنَّة، وكذا حينَ رأوا وقوعَ طائفةٍ من الفُضلاءِ في مُوافقةِ تلكَ الاعتقاداتِ؛ قالوا: كيفَ يُمكنُ أنْ تكونَ هذه العقائدُ مُبتَدَعةً وهي عقائدُ هؤلاءِ الجِلَّةِ؟! غافلينَ عن الأصْلِ في ذلك: (الحقُّ لا يُعرَفُ بالرِّجالِ، اعْرِف الحقَّ تعرِفْ أهلَه).

فلهؤلاء نقولُ: ليسَ اعتقادُ السَّلَفِ والأئمَّةِ على ما ظننتُم، وليس لهؤلاء الذين ظننتُم هم أهلَ السُّنَّة أتباع السَّلف، وما في كُتبهم من الكَلام والجَدَلِ؛ فليس هو من طريقة السَّلف؛ فاحْذَروا أن تنقلبَ عليكم الحقائقُ فتظنُّوا الباطلَ حقًّا، والعلمُ اللازمُ للخلقِ مبسوطٌ في الكتابِ والسُّنَّة وكلام السَّلَفِ أحسنَ بَسْطٍ وأيْسَرَهُ، ولو أنَّكم تبيَّنتُم ذلكَ؛ وجدتموهُ؛ فليسَ من يقولُ:"نعتقدُ كذا ونُثبتُ كذا وننفي كذا لقولِ اللهِ ولقولِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم"؛ كمَن يقول: "نعتقدُ كذا على اعتقادِ أبي الحَسَنِ الأشعري وأبي منصورٍ الماتُريدي"، أو فُلانٍ وفُلانٍ، فيفهَمُ الناسُ أنَّ اعتقادَهم هو الحقُّ، ومن ثَمَّ يُسمَّى أتباعُهم (أهل الحق) و (أهل السُّنَّة) وغير ذلك من الألقابِ والأوصافِ، فيكونُ الحقُّ عند العامَّةِ ما صَدَرَ عن طريقهم، وما عَداه فهو الباطلُ.

ولسنا نُطالبُكم إلّا بعَرْضِ عقائِدِ الطوائفِ على الكتاب والسُّنَّة والآثار الصَّحيحةِ عن السَّلَفِ، ومثلما تبيَّنتُم اعتقاداتِ الرافضةِ والخوارج

ص: 30

ونحوهم، فتبيَّنوا جميعَ الاعتقاداتِ التي تُنْسَبُ إلى أشْخاص أو طوائف، حتى يحكمَ فيها الكتابُ والسُّنَّة على طريقةِ السَّلفِ من الصحابة وأتباعهم.

واعلَموا أنَّ كُلَّ لَقَبٍ أو وَصْفٍ لطائفةٍ أو جَماعةٍ لا يصحُّ أن يُقضى به على غيرِها حتى تَرِدَ به الشريعة، وإن كانَ التقليدُ مذمومًا في فروعِ المسائِل؛ فأحْرَى أنْ يُذَمَّ في أصولِها.

ولعلَّكَ بهذا تُدركُ ضَرورةَ الاجتهاد لمعرفةِ حقيقةِ المُعْتقد السَّلَفي، للتفريق بينه وبين اعتقاداتِ أصحابِ البِدَع.

ولعلَّه يحدو بكَ أكثر إلى طلب معرفة الاعتقادِ الصَّحيح ما يَشيعُ ويَنْتشرُ في بلادِ المسلمينَ مِنْ عَقائِد أهلِ الزّيغِ، الذين يتظاهَرون زورًا أو غفلةً بالانتسابِ إلى أهل السُّنَّةِ، وتُقَرِّرُ كتبهم لتُدَرَّسَ في مَعاهِد المُسلمين وجامعاتِهم على أنَّ ما فيها هو اعتقاد أهل السُّنَّة، كَما قد رأيْناه وجرَّبناهُ، فقَدْ كان مُقرَّرًا علينا في أوَّل أيام الطلب ونحنُ في مقتَبل العُمُر أنْ نَدْرُسَ "شرح العقائد النسفية" للسَّعْد التفتازاني، ولم نكن حينَها قد عرَفْنا عقيدةَ السَّلَف، ولكن الله تعالى مَنَّ علينا بشيخ فاضل هو شيخُنا أبو عُمَر عادل ابن كايد البصري رحمه الله (9)، فشرحَ لنا اعتقادَ السَّلَف، ونَبَّهَنا لِما كُنَّا

(9) كان رحمه الله تعالى أفضل شيوخنا، لَمْ أرَ فيهم مثله، سلفيًّا في الاعتقاد، نابذًا للتقليد، معظِّمًا لأئمة السُّنَّة، يقفو أثرَ شيخ الإِسلام ابن تيمية، وكان علاّمةً في الحديث والتفسير واللّغة، وعنه تلقّيْنا عِلمَ الحديث والعقيدة، وهو الذي حبّبَ الله إلينا علمَ السُّنَّة والحديث بسَببه، وقد نَفَعنا الله به كثيرًا، وكانت فيه بذاذةٌ وزهادةٌ، وصبرٌ على الشرح والإيضاح، توفي سنة (1405 هـ) رحمه الله، وأدخله الجنة ووقاه من النار بمنّه وكرمه.

ص: 31

نواجههُ من عقائدِ الماتُريديَّة المُخالفة لاعتقادِ أهل السُّنَّةِ؛ فكيفَ يظنُّ أنْ يَنْشَأ الطَّلبةُ في جامعةٍ أو معهدٍ يَتَلقَّوْنَ الاعتقادَ فيه عن مبتدعٍ؟! فالله المستعانُ ولا حولَ ولا قوَّة إلَاّ بالله.

وكتابي هذا الذي بين يَدَيْكَ للتَّنبيه على خُطورَةِ البِدَع وأهلِها، والتَّبْصِير بالاعتقادِ السَّلفيّ الصَّحيح، على ما سَتراه مبسوطًا، إن شاء الله.

ومن أعْظَم ما حَدا بي لتأْليفهِ ما رأيتُه من كثيرٍ من إخْوانِنا من الحَيْرَة في شَأْنِ أهل البدع، خاصَّةً الأشعريةَ الذين ابتُلينا بهم في لهذا الزَّمان، يأْتي الواحدُ منهم في الجامعاتِ الإِسلاميةِ أو غيرِها متستِّرًا ببدعتهِ وضَلالَتهِ، فيُمَوِّهُ على الطلَبَة المتعلِّمينَ، بَلْ وعلى عامَّةِ المسلمينَ، ورُبَّما صَنَّفوا المصنَّفات، ونشروا الكتُبَ، وفي ثَناياها سُمومُهم التي تَفْتِك بالعقيدة السَّلَفيَّة فَتْكًا، وإخوانُنا في حَيْرَة: الأشعريةُ من أهْلِ السُّنَّة؟ أمْ من أهْلِ البِدْعَة؟ مغترِّينَ بما يُشوّشُ عليهم به كثيرٌ من الناسِ بأن في الأشعريةِ أئمَّةً؛ كفُلانٍ وفلانٍ، فكيفَ يصحُّ وصْفُهم بالبدعةِ؟!

سُبْحان الله! لقد كانَ الحارثُ المُحاسبيُّ مذكورًا بالعلْم والزُّهْدِ والعِبادة، ومعَ ذلك فقد تكلّمَ فيه إمامُ أهل السُّنَّة أحمد بن حنبل، ونفّرَ عنه، وحذَّرَ منه لبدعتهِ، وقد كشَفنا في كتابنا هذا عن عدّة أعيان كأبي بكر الباقلاني وغيره، صرَّحوا بما يُخْرِجُهم عن جُمْلَة أهل السُّنَّة، معَ ما عُرفوا به من العلْم والدّيانة، ولم يَزَلْ هَدْيُ سَلَفِنا في ذلك مشهورًا، وكلامُهم فيه مذكورًا، في التحذير من البِدَع وأهلها؛ صيانةً للعقيدة والشريعة.

ولقَدْ فرضَ الله تعالى العَدْلَ والإِنْصافَ، ومِنْ أعْظَم ذلك التفريقُ

ص: 32

بين أهْلِ البدْعةِ وأهْلِ السُّنَّة، لتُعْلَمَ طائفةُ أهْلِ الحقِّ فتتّبعَ، وتُحْذَرَ طوئفُ أهل اَلبدع فَتُجْتَنَب، والحقُّ لا مُحاباةَ فيه ولا مُجاراةَ لأحَدٍ أيًّا كانَ، وجَنابُ العَقيدة أغلى من كل جَناب؛ إذْ هو الذي بصَلاحهِ صَلاحُ الدُّنيا والآخِرَة.

ص: 33