المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثامن: كلام الله تعالى بمشيئته واختياره - العقيدة السلفية فى كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية

[عبد الله الجديع]

فهرس الكتاب

- ‌مدخل

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌التنبيه على مسائل يحتاج إليها قبل الشروع في المقصود

- ‌ المسألة الأولى:

- ‌ المسألة الثانية:

- ‌ المسألة الثالثة:

- ‌ المسألة الرابعة:

- ‌ المسألة الخامسة:

- ‌مجمل خطة تأليف الكتاب

- ‌الباب الأول: العقيدة السلفية في كلام رب البرية

- ‌الفصل الأول: بيان حقيقة الكلام

- ‌المبحث الأول: حقيقة الكلام

- ‌المبحث الثاني: حقيقة المتكلم

- ‌المبحث الثالث: أنواع الكلام

- ‌ الأول: الخبر:

- ‌ والثاني: الإنشاء:

- ‌الفصل الثاني: عقيدة السلف في إثبات الصفات

- ‌قاعدة جلية في الاعتقاد

- ‌الفصل الثالث: شرح اعتقاد السلف فى كلام الله تعالى

- ‌المبحث الأول: جملة اعتقاد أهل السنة في كلام الله تعالى

- ‌المبحث الثاني: الأدلة المثبتة لصفة الكلام

- ‌المبحث الثالث: التكليم في الدنيا

- ‌المبحث الرابع: التكليم في الآخرة

- ‌المبحث الخامس: كلام الله تعالى غير مخلوق

- ‌المبحث السادس: الوقف في القرآن

- ‌المبحث السابع: كلام الله تعالى بحرف وصوت

- ‌المبحث الثامن: كلام الله تعالى بمشيئته واختياره

- ‌المبحث التاسع: تفاضل كلام الله تعالى

- ‌المبحث العاشر: كلام الله تعالى منزل منه ، منه بدأ وإليه يعود

- ‌الباب الثاني: توضيح مسألة اللفظ بالقرآن ورفع ما وقع بسببها من الاشكال

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأول: تفسير الألفاظ المجملة التي وقع بسببها الاشكال

- ‌المبحث الأول: بيان هل اللفظ هو الملفوظ؟ أم غيره

- ‌المبحث الثاني: تبيين المراد بقوله تعالى {إنه لقول رسول كريم}

- ‌الفصل الثاني: مسألة اللفظ وموقف أهل السنة

- ‌المبحث الأول: جملة اختلاف الناس في مسألة اللفظ

- ‌المبحث الثاني: اللفظية النافية جهمية

- ‌المبحث الثالث: إقامة الحجة على بطلان اعتقاد اللفظية النافية

- ‌المبحث الرابع: بيان غلط اللفظية النافية على الامامين أحمد والبخاري

- ‌المبحث الخامس: اللفظية المثبتة مبتدعة

- ‌الباب الثالثعقائد الطوائف المبتدعة في كلام الله تعالى وكشف أباطيلهاوفيه تمهيد وثلاثة

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولذكر جملة أقوال طوائف أهل البدع

- ‌ أولا: المتفلسفة وبعض غلاة الصوفية:

- ‌ ثانيا: الجهمية من المعتزلة وغيرهم:

- ‌ ثالثا: الكلابية:

- ‌ رابعا: الأشعرية:

- ‌ خامسا: السالمية ومن وافقهم من أهل الكلام والحديث:

- ‌ سادسا: الكرامية:

- ‌الفصل الثانيكشف تلبيس الجهمية المعتزلة في كلام الله تعالى وحكم السلف والأئمة فيهم

- ‌المبحث الأول: ذكر شبه المعتزلة ونقضها

- ‌المبحث الثاني: ذكر ما حرفت المعتزلة من معاني التنزيل لابطال صفة الكلام

- ‌المبحث الثالث: المعتزلة فى الميدان

- ‌الفصل الثالثكشف تلبيس الأشعريةفي إثبات صفة الكلام لله تعالى

- ‌المبحث الأول: تعريف الكلام عند الأشعرية

- ‌المبحث الثاني: إبطال كون كلام الله تعالى معنى مجرداً

- ‌المبحث الثالث: القرآن العربي عند الأشعرية

- ‌المبحث الرابع: أسماء الله تعالى عند الأشعرية

- ‌المبحث الخامس: وجه التوافق بين قولي المعتزلة والأشعرية في القرآن

- ‌المبحث السادس: الأشعرية وأهل السنة في مسألة القرآن

- ‌خاتمة

الفصل: ‌المبحث الثامن: كلام الله تعالى بمشيئته واختياره

‌المبحث الثامن: كلام الله تعالى بمشيئته واختياره

يَعْتَقِدُ السَّلَفُ أنَّ الله تعالى يتَّصفُ بالصِّفاتِ الاختياريَّةِ، كَالكَلامِ، والنَّداءِ، والرَّضا، والغَضَبِ، والحُبَّ، والبُغْضِ، والرَّحْمَةِ، والرَّأفَةِ، والانْتقامِ، والإِتيانِ، والنُّزَولِ، والاسْتِواءِ على العَرْشِ، والخَلْقِ، والرَّزْقِ، وغَيْرِ ذلكَ من صفاتِهِ العَليَّةِ التي تقومُ بمَشيئتهِ واختيارهِ، ومعنى تعلُّقِها بمشيئتهِ واختياره أنَّه تعالى لا يَزالُ متكلِّماً إذا شاءَ، ولا يَزالُ رَحيماً إذا شاءَ، ولا يزالُ خالقاً إذا شاءَ، وهكذا، فالصِّفَةُ ثابتةٌ له تعالى في الأزَلِ، وهي متعلِّقةٌ بمشيئتِهِ، فإنْ شاءَ تكلَّمَ وإن شاءَ سَكَتَ (49) وإن شاءَ

(49) وصفُه تعالى بالسكوت جاءت به السُّنَّة، وجَرى ذكرُهُ في كلام الأئمة، ولا تَعارُضَ بين إثباته وإثبات الكلام، لأنَّ كلامه تعالى متعلقٌ بمشيئته، فإن شاءَ تكلم، وإن شاءَ لم يتكلم، وهذا ينقضُ اعتقادَ أهل البدع نَقْضاً في كلامه تعالى، وذلك واضحٌ لمن تأمَّله.

وأمَّا الاستدلال لثبوت هذه الصفة من السنة والأثر:

1 -

فحديث أبي الدرداء رضي الله عنه رفعَ الحديثَ قال:

"ما أحلَّ الله في كتابه فهو حَلالٌ، وما حرَّم فهو حرامٌ، وما سكت عنه فهو عافيةٌ، فاقبلوا من الله عافيَتَه، فإنَّ الله لم يكن نسيّاً" ثمَّ تَلَا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ =

ص: 177

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= نَسِيًّا} [مريم: 64].

حديث صحيح.

أخرجه البزار رقم (2231 - كشف الأستار) وابن أبي حاتم -كما في "تفسير ابن كثير" 4/ 474 - والدارقطني 2/ 137 والحاكم 2/ 375 والبيهقي 10/ 12 من طريق عاصم بن رجاء بن حَيْوَة عن أبيه عن أبي الدرداء به.

قال البزار: "إسناده صالح".

وقال الحاكم: "صحيح الإِسناد" وأقَرَّه الذهبي.

قلت: إسناده جيد، عاصم بن رجاء صدوق جيد الحديث، وأبوه ثقة مشهور روى عن أبي الدرداء.

وللحديث شاهد من حديث أبي ثعلبة الخُشَني وغيره يرتقي به إلى الصحة.

2 -

وحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:

كان أهل الجاهلية يأكلونَ أشياء، ويتركون أشياءَ تقذّراً، فبعثَ الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وأنزلَ كتابه، وأحلَّ حلالَه، وحرَّم حرامه، فما أحلَّ فهو حَلالٌ، وما حرَّمَ فهو حرامٌ، وما سَكَتَ عنه فهو عفوٌ، وتلا: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا

} إلى آخر الآية [الأنعام: 145].

حديث صحيح.

أخرجه أبو داود رقم (3800) والحاكم 4/ 115 من طريق محمد بن شَريك المكي عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس به.

قلت: وهذا سند صحيح، وقد صحَّحه الحاكم وأقرَّه الذهبي.

والأئمة والفقهاء منذ القرون الأولى يقولون: هذا تكلّم به الشارع، وهذا سكت عنه الشارع، ويقولون: دلالة المنطوق، ودلالة المسكوت، والشارع هو الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قال شيخ الإِسلام: "فثبت بالسنَّة والإِجماع أنَّ الله يوصف بالسكوت""مجموع الفتاوى" 6/ 179.

ص: 178

خلَقَ، وإن شاءَ لم يَخْلُقْ، وإنْ شاءَ غَضِبَ، وإنْ شاءَ رَضِيَ.

ومن الأدلَّة الموضِّحةِ لذلك:

1 -

قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا

} [الأعراف: 11].

تضمَّنت الآيَةُ ثلاثَ صفاتٍ: الخَلْقَ، التَّصويرَ، الأمْرَ، وقد وصف الله بها نفسَه، وهي صفاتُه قبل خَلْق الخَلْق، متعلَّقةٌ بمشيئتهِ، فشاءَ أن يخلقَ فخلقَ، وبعدَ الخَلْق صَوَّرَ، وبعدَ التَّصوير أمرَ الملائكةَ بالسُّجود، فهيَ أفعالٌ متعاقبةٌ، لم يقعْ تصويرٌ لآدم قبلَ خلقِهِ، ولا أمرٌ بالسُّجودِ للملائكةِ قبلَ خلقهِ وتصويرهِ، وإنَّما كان ذلك بعدَ الخَلْق والتَّصوير، ولا يزال الله تعالى خالقاً، مصوِّراً، آمِراً، إذا شاءَ.

2 -

وقوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 55].

فقوم فرعونَ لَمَّا أغضَبوا ربَّهم تعالى انتقمَ منهم، لم يقَعِ انتقامُهُ منهم قبل ذلك، مَعَ أنَّه لا زالَ متَّصفاً بالانتقام من أعدائِه، كما قالَ:{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22].

3 -

وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28].

فإحباطُ أعمالِهم لم يكنْ قبلَ اتِّباعِهم ما أسخَطَ الله وكراهِيَّتِهم رضوانَه، فدلَّ ذلك على أنَّ فعلَ الإِحباط الذي هو صفةُ الرَّبّ تعالى إنَّما أوقَعَه الله بعدَ استحقاقِ العبدِ ذلك.

ص: 179

وأمثلة هذا لا تدخلُ تحتَ الحَصْر، وهو أمرٌ أبْيَنُ مِنْ أنْ يُستدلَّ له، ولكنَّ أهلَ البدعِ أبَوْا إلَاّ إنكارَ الحقائقِ.

وهذا الذي بَيَّناهُ هو قولُ السَّلَفِ.

قال البخاري رحمه الله: "وقالَ أهل العلم: التَّخليقُ فعلُ الله، وأفاعيلُنا مخلوقةٌ، لقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ

} [الملك: 13، 14] يعني: السرّ والجهر من القول، ففعلُ الله صفةُ الله، والمفعولُ غيرُه من الخَلْق" (50).

قلتُ: ويَجْري هذا في سائر أفعاله تعالى، فكلّ أفعاله تعالى صفاتٌ له، والمخلوقُ إنَّما هو مفعولُهُ.

قالَ شيخ الإِسلام: "هو المأثورُ عن السَّلَف، وهو الذي ذكرَه البخاريُّ في خلق أفعال العباد عن العلماءِ مُطلقاً، ولم يذكُرْ فيه نِزاعاً، وكذلك ذكَره البغويُّ وغيره عن مذهب أهل السُّنَّة".

وقال: "وهو قولُ السَّلَف قاطبةً، وجمهورِ الطوائف

" (51).

وكلامُ الله تعالى ونداؤه كذلكَ، فهو تعالى موصوفٌ بالكلام والنَّداء وصْفاً أزليّاً، متعلّقاً بمشيئتهِ واختيارهِ، يتكلَّم إذا شاء متى شاء، ويُنادي إذا شاءَ متى شاء، يتكلَّم كلاماً بعدَ كلام، ويُنادي نِداء بعدَ نداء، وكلّ ذلك غيرُ مخلوقٍ لأنَّه صفتُهُ.

(50)"خلق أفعال العباد" ص: 188.

(51)

"شرح حديث النزول" ص: 152.

ص: 180

والأدَّلةُ على ذلك كثيرةٌ جداً في الكتابِ والسُّنَّةِ والمعقولِ الموافِقِ لهما.

فمن ذلك:

1 -

قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].

فهو تعالى يقول لكلِّ ما يُريدُ خلقَه وتكوينَه: {كُنْ} ليكونَ، وقولُه:{كُنْ} كلامُهُ وصفتُه، جعلَه متعلقاً بإرادتِهِ، فمتى يريد تكوينَ شيء قال:{كُنْ} فيكون، فقوله تعالى:{وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} [الأنعام: 73] هو يَوْمُ القيامةِ، ويومُ القيامةِ لم يكنْ بعد، والله تعالى لم يقل له بعدُ:{كُنْ} وإنَّما يقولُ ذلك حين يشاءُ ذلك.

وهذا من أظهر الأدلَّة على تعلُّق كلامهِ تعالى بمشيئتهِ.

والأشعريَّةُ وأشباهُهم يحتجُّون بهذه الآية وأمثالِها على أنَّ القرآنَ غيرُ مخلوق ويَردّون بذلك على المُعتزلةِ الجهميَّةِ، وأغفَلوا دلالةَ الآيةِ نَفسها على تعلُّق قولِه تعالى بمشيئتِهِ، وهو من حَيْدَتِهم عن الحَقَّ والصَّراط المُستقيم كما سيأتي شرحه في الباب الثالث.

2 -

أخبرَ تعالى عن تكليمهِ لموسى ونِدائهِ له في مواضِعَ عدّةٍ من كتابِهِ، وإنَّما وقعَ ذلك بعد خَلْق موسى، لم يكلِّم موسى ولم ينادهِ قبل أن يخلقه، بل لم ينادِهِ ولم يكلِّمْه قبل أن يأتِيَ الشَّجرة، كما قال تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} فلم ينادِه قبل إتيانِهِ، خِلافاً لأهل البدع، وهذا مقتضى اللُّغَة التي نزلَ بها القرآنُ، والله تعالى إنَّما خاطب العبادَ بألسنتهم

ص: 181

التي يعقلونَها ويفهمونَها.

3 -

وقالَ تعالى مُخاطباً أهلَ النار: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} الآيات [المؤمنون: 105 - 108].

فهذا قولُه تعالى وكلامُه، إنَّما يُكَلِّمُ به أهلَ النار بعدَ أن يُصارَ بهم إليها، ولم يقع ذلك بعدُ، وإنَّما أخبرَنا عنْ وقوعهِ، ولا يفقَهُ مؤمنٌ، بل ولا عاقلٌ أنَّ الله تعالى قَدْ كَلَّم أهلَ النَّارِ من الأزلِ -كما يدّعيه بعضُ أهْلِ البدع- فقال لهم:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} وهم لم يوجَدوا بَعْدُ ولَمْ يُخْلَقوا.

4 -

وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:

"احتجّ آدمُ وموسى

" فذكر الحديثَ، وفيه:

"

فقال آدمُ: أنتَ موسى الذي اصطفاكَ الله برسالتهِ وبكلامهِ، وأعطاكَ الألواحَ فيها تبيانُ كلّ شَيْءٍ، وقرَّبك نجيّاً، فبِكمْ وجَدْتَ الله كتبَ التّوراةَ قبلَ أن أخْلَق؟ قال موسى: بأربعينَ عاماً

" الحديث (52).

فأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تَكَلُّمَ الرَّبّ تعالى بالتوراة كان مُوَقَّتاً بوقتٍ، وذلك قبلَ خلقِ آدم بأربعينَ سنةً، هذا معَ أنَّ كلامَه تعالى قديمُ النَّوْعِ، وصفةَ الكَلامِ له ثابتة في الأزَلِ، إلَاّ أنَّها متعلَّقةٌ بمشيئتهِ واختيارهِ، فلمَّا شاءَ أن

(52) حديث صحيح.

سبق الكلام عنه في التعليق على المبحث الثاني ص 84 - 85.

ص: 182

يتكلَّمَ بالتَّوراةِ تكلَّمَ بها، فخطَّها لموسى بيدهِ، جلَّ وعَلَا.

5 -

جميْعُ ما سقتُهُ من أدلَّةِ التكليم في الآخرةِ لم يقَعْ منه شيْءٌ بعدُ، وإنَّما يقَعُ في الآخرة، وهو أبْيَنُ من أن يُفصَّلَ.

وقد سبقَ النقلُ عن الإِمام أحمدَ رحمه الله من طريق حنبل بن إسحاق قال: قلتُ لأبي عبد الله -يعني أحمد-: الله عز وجل يُكَلِّمُ عبدَه يوم القيامةِ؟ قال: "نَعَمْ، فمنْ يقضي بين الخَلائق إلَاّ الله عز وجل، يكلِّمُ عبدَه ويسألهُ، الله متكلِّمٌ، لم يزَل الله يأمرُ بما يَشاءُ وَيَحْكُم، وليس له عَدْلٌ ولا مِثْلٌ، كيفَ شاءَ، وأنَّى شاءَ"(53).

6 -

وفي حديث جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهما في حَجَّةِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "نَبْدأ بما بدأ الله به" فبدأ بالصَّفا وقرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ

} [البقرة: 158](54).

وفي هذا دليل على أنَّ كلامَ الله يتلو بعضُه بعضاً، ويسْبِقُ بعضُه بعضاً.

قال شيخ الإِسلام: "وقد قالَ الإِمام أحمد رضي الله عنه وغيره من الأئمَّة: لم يزل الله متكلّماً إذا شاءَ، وهو يتكلَّمُ بمشيئتهِ وقدرتِهِ، يتكلَّمُ

(53) سبق تخريجه ص 114 - 115.

(54)

حديث صحيح.

أَخرجه مالك 1/ 372 وأحمد 3/ 388، 394 ومسلم رقم (1218) وأبو داود رقم (1905) والترمذي رقم (862، 2967) والنسائي 5/ 236، 239 ، 240 - 241 وابن ماجة رقم (3074) من طرق عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر به.

وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".

ص: 183

بِشَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ" (55).

وقال أبو عبد الله بنُ حامد: "ولا خلافَ عن أبي عبد الله -يعني أحمد- أنَّ الله كانَ متكلِّماً قبلَ أن يخلُقَ الخَلْقَ، وقبل كلّ الكائناتِ، وأنَّ الله كان فيما لم يزَل متكلِّماً، كيف شاءَ، وكما شاءَ، وإذا شاءَ أنزلَ كلامَه، وإذا شاءَ لم يُنْزِله"(56).

قلتُ: فأفادَ هذا النقلُ عن الإِمام أحمدَ أمرين:

الأوَّل: أنَّ صفةَ الكلام لله تعالى ثابتةٌ له في الأزَل ليسَتْ مُحْدَثَةً ولا مَخلوقةً.

والثاني: أنَّ كلامَه تعالى متعلقٌ بمشيئتهِ، فهو يتكلَّم إذا شاءَ، ويسْكُتُ إذا شاءَ.

وأمَّا قولُ ابنِ حامد في نقله الذي حَكَينا: "وإذا شاءَ أنزلَ كلامَه

" إلخ ففيه نَظَرٌ، ذلك لأنَّهُ مُفهِمٌ أنَّه تعالى لا يتكلَّمُ بعدَ خلق الخَلْق، وإنَّما يُنزِل كلامَه الَّذي تكلَّمَ به، وهذا المعنى ليسَ هو قولَ الإِمام أحمد -كما ينقله شيخ الإِسلام وغيره- وإنَّما قولُه: إنَّ الله تعالى يتكلَّم بكلامٍ بعدَ كلام، وفي الأدلَّة التي سُقْنا دَلالةٌ بَيّنةٌ على ذلك، وهذا الذي قاله أبو عبد الله بنُ حامد إنَّما هو على طريقة بعض فُضَلاءِ الحنابلة الذين كانوا يَذْهَبون إلى قِدَمِ الكَلام المُعَيَّنِ قبلَ خلقِ الخَلْقِ، والتَّحقيقُ أنَّ هذا ليسَ

(55)"مجموع الفتاوى" 12/ 588 وانظر: "شرح حديث النزول" ص: 155.

(56)

"درء التعارض" 2/ 76 عن كتاب ابن حامد في أُصول الدين.

ص: 184

مذهبَ السَّلَفِ، وهو خلافُ ما دلَّتْ عليه الأدلَّةُ من أنَّ كلامَه تعالى متعلقٌ بمشيئتهِ ولا نُؤوّلُ ذلك بأنَّ إنزالَ كلامه متعلقٌ بمشيئتهِ، وقد أرادَ ابنُ حامد معنى اعتقادِ أحمدَ ولكنَّه أخطأه، وأصابه شيخُ الإِسلام حين قالَ: "

وهو يتكلَّم بمشيئتهِ، يتكلَّم بشيء بعدَ شيء".

وسَبَقَ أن قرَّرنا أنَّ الله تعالى له الكمالُ المُطلَقُ، والمتكّلمُ بمشيئته واختياره أكمَلُ ممَّنْ لا يتكلَّمُ بمَشيئتهِ واختياره، بلْ إنَّه لا يُتَصوَّر متكلمٌ بغير مشيئةٍ ولا قُدْرةٍ ولا اخْتيارٍ، وإنَّما يوصَفُ بذلك الأخرسُ، فإنَّه لو قَدَّر الكلامَ في نفسهِ لا يَقْدِر على التكلُّم به والتلفُّظِ به للآفةِ التي فيه، والله تعالى مُنَزَّهٌ عن هذا النَّقْصِ، وهو أعلى وأجلُّ من أن يتَّصف به، فمَنْ لَمْ يُثْبِتْ له الكلام بمشيئتهِ واختيارِهِ فهو واصفٌ له بالنَّقْصِ والآفَةِ، تعالى عن ذلك عُلُوّاً كبيراً.

ص: 185