المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامس: اللفظية المثبتة مبتدعة - العقيدة السلفية فى كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية

[عبد الله الجديع]

فهرس الكتاب

- ‌مدخل

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌التنبيه على مسائل يحتاج إليها قبل الشروع في المقصود

- ‌ المسألة الأولى:

- ‌ المسألة الثانية:

- ‌ المسألة الثالثة:

- ‌ المسألة الرابعة:

- ‌ المسألة الخامسة:

- ‌مجمل خطة تأليف الكتاب

- ‌الباب الأول: العقيدة السلفية في كلام رب البرية

- ‌الفصل الأول: بيان حقيقة الكلام

- ‌المبحث الأول: حقيقة الكلام

- ‌المبحث الثاني: حقيقة المتكلم

- ‌المبحث الثالث: أنواع الكلام

- ‌ الأول: الخبر:

- ‌ والثاني: الإنشاء:

- ‌الفصل الثاني: عقيدة السلف في إثبات الصفات

- ‌قاعدة جلية في الاعتقاد

- ‌الفصل الثالث: شرح اعتقاد السلف فى كلام الله تعالى

- ‌المبحث الأول: جملة اعتقاد أهل السنة في كلام الله تعالى

- ‌المبحث الثاني: الأدلة المثبتة لصفة الكلام

- ‌المبحث الثالث: التكليم في الدنيا

- ‌المبحث الرابع: التكليم في الآخرة

- ‌المبحث الخامس: كلام الله تعالى غير مخلوق

- ‌المبحث السادس: الوقف في القرآن

- ‌المبحث السابع: كلام الله تعالى بحرف وصوت

- ‌المبحث الثامن: كلام الله تعالى بمشيئته واختياره

- ‌المبحث التاسع: تفاضل كلام الله تعالى

- ‌المبحث العاشر: كلام الله تعالى منزل منه ، منه بدأ وإليه يعود

- ‌الباب الثاني: توضيح مسألة اللفظ بالقرآن ورفع ما وقع بسببها من الاشكال

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأول: تفسير الألفاظ المجملة التي وقع بسببها الاشكال

- ‌المبحث الأول: بيان هل اللفظ هو الملفوظ؟ أم غيره

- ‌المبحث الثاني: تبيين المراد بقوله تعالى {إنه لقول رسول كريم}

- ‌الفصل الثاني: مسألة اللفظ وموقف أهل السنة

- ‌المبحث الأول: جملة اختلاف الناس في مسألة اللفظ

- ‌المبحث الثاني: اللفظية النافية جهمية

- ‌المبحث الثالث: إقامة الحجة على بطلان اعتقاد اللفظية النافية

- ‌المبحث الرابع: بيان غلط اللفظية النافية على الامامين أحمد والبخاري

- ‌المبحث الخامس: اللفظية المثبتة مبتدعة

- ‌الباب الثالثعقائد الطوائف المبتدعة في كلام الله تعالى وكشف أباطيلهاوفيه تمهيد وثلاثة

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولذكر جملة أقوال طوائف أهل البدع

- ‌ أولا: المتفلسفة وبعض غلاة الصوفية:

- ‌ ثانيا: الجهمية من المعتزلة وغيرهم:

- ‌ ثالثا: الكلابية:

- ‌ رابعا: الأشعرية:

- ‌ خامسا: السالمية ومن وافقهم من أهل الكلام والحديث:

- ‌ سادسا: الكرامية:

- ‌الفصل الثانيكشف تلبيس الجهمية المعتزلة في كلام الله تعالى وحكم السلف والأئمة فيهم

- ‌المبحث الأول: ذكر شبه المعتزلة ونقضها

- ‌المبحث الثاني: ذكر ما حرفت المعتزلة من معاني التنزيل لابطال صفة الكلام

- ‌المبحث الثالث: المعتزلة فى الميدان

- ‌الفصل الثالثكشف تلبيس الأشعريةفي إثبات صفة الكلام لله تعالى

- ‌المبحث الأول: تعريف الكلام عند الأشعرية

- ‌المبحث الثاني: إبطال كون كلام الله تعالى معنى مجرداً

- ‌المبحث الثالث: القرآن العربي عند الأشعرية

- ‌المبحث الرابع: أسماء الله تعالى عند الأشعرية

- ‌المبحث الخامس: وجه التوافق بين قولي المعتزلة والأشعرية في القرآن

- ‌المبحث السادس: الأشعرية وأهل السنة في مسألة القرآن

- ‌خاتمة

الفصل: ‌المبحث الخامس: اللفظية المثبتة مبتدعة

‌المبحث الخامس: اللفظية المثبتة مبتدعة

اللفظيةُ المُثْبِتَة -كما سبق في المبحث الأول- هم القائلونَ: (ألفاظُنا بالقرآن غيرُ مَخلوقة) ويريدونَ بهذا الإِطلاق اللفظَ الذي هو كلامُ الله المؤلَّف من الحروفِ العَربيةِ، ويُريدون به أيضاً الرَّدَّ على اللفظية النافيةِ القائلينَ:(ألفاظنا بالقرآن مخلوقة).

ولكنَّهم حين أطلَقوا هذه المقالَة -مع صِحَّة مُرادهم- جاء من بعدِهم أقوامٌ وافَقوهم في إطلاق اللفظِ، وأدخَلوا في ذلك فِعْلَ العبدِ وحركَتَه وصَوْتَه، وممَّا أوقَعَهم في ذلك إطلاقهُم القول: إنَّ التلاوةَ هي المتلوُّ، والقراءةَ هي المقروءُ، وقد بَيَّنا فيما سَلَفَ فسادَ هذا الإِطلاق.

فمَنَعَ الإِمامُ أحمد رحمه الله إطلاقَ هذا اللَّفْظِ: (ألفاظُنا بالقرآن غير مخلوقة) لأمْرَيْن:

الأوَّل: أنَّه لفظٌ مُبْتَدعٌ، لم يتكلَّم فيه السَّلَفُ.

والثاني: لِما يجُرُّ من الوقوعِ في المَحذور، كما جَرَّ بعضَ مَن جاء بعدُ من أتباع هذه المقالةِ، فمنهمِ من توقَّفَ: هل يدخلُ في اللفظ صوتُ العبد وحركَتُهُ؟ أم لا؟ وتجرّأ آخرونَ فأدخلوا فعلَ العبدِ وحركتَهُ وصوتَهُ.

ص: 269

وهذا سياقٌ لبعض ما تيسَّرَ الوقوفُ عليه من كلامِ إمام السُّنَّة أبي عبد الله أحمد بن حنبل في شأنِ هذه الطائفةِ.

1 -

قَدْ سَبَقَ عنه أنه كان يكرَه الكلامَ في اللفظ بإثباتٍ أو نفيٍ.

2 -

وقال أبو بكر بن زَنْجَوَيْهِ: سمعتُ أحمدَ بن حنبل يقول: "مَن قالَ: لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو جَهْميٌّ، ومن قال: غير مخلوق، فهومبتدعٌ لا يُكلَّم"(75).

وحكى نحوَ هذا الحافظُ الإِمام محمَّدُ بن جَريرٍ الطَّبريُّ عن أحمد، وقال الإِمام أبو عثمانَ الصابونيُّ عقبهُ:

"وأمَّا ما حكاهُ محمَّدُ بن جَرير عن أحمدَ رحمه الله أنَّ من قال: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق فهو مبتدعٌ، فإنَّما أرادَ به أنَّ السلفَ الصالحينَ من أهل السُّنَّة لم يتكلَّموا في باب اللَّفظ، ولم يُحْوِجْهم الحالُ إليه، وإنَّما حدَثَ الكلامُ في اللَّفظ من أهْلِ التعمُّقِ وذَوي الحُمْقِ، الذينَ أتَوْا بالمُحْدَثاتِ، وبحَثوا عمَّا نُهوا عنه من الضَّلالاتِ وذَميم المَقالات، وخاضُوا فيما لم يَخُضْ فيه السَّلَفُ من علماءِ الإِسلام، فقال الإِمام أحمدُ: هذا القولُ في نفسِهِ بدعةٌ، ومِن حقّ المتديِّن أن يدَعَهُ وكلَّ بدعةٍ مبتدَعَة، ولا يتفوَّهَ به ولا بمِثْلِهِ من البِدَعِ المبتدَعة، ويقتَصِرَ على ما قالَهُ السَّلَفُ المتَّبعةُ: إنَّ القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوق، ولا يزيدُ عليه إلَّا تكفيرَ مَنْ يقولُ بخَلْقِهِ"(76).

(75) رواه الخلال في "السنَّة" كما في "مجموع الفتاوى" 12/ 325 بسند صحيح عن أحمد.

(76)

رسالته في السنَّة نص (17).

ص: 270

3 -

وقال الإِمام أبو بكْرٍ المَرّوذيُّ رحمه الله: قالَ لي أبو عبد الله -يعني أحمدَ-: "قد غِيضَ قلبي على ابن شَدَّاد" قلتُ: أيّ شيْءٍ حَكى عنكَ؟ قال: "حكى عني في اللَّفظ" فبلغَ ابنَ شدَّاد أنَّ أبا عبد الله قد أنكرَ عليه، فجاءَنا حَمْدويه بن شدَّاد بالرُّقْعَة فيها مسائل، فأدخلْتُها على أبي عبد الله، فنظَرَ، فرَأى فيها: إنَّ لَفْظي بالقرآن غيرُ مخلوقٍ -مع مسائلَ فيها- فقال أبو عبد الله: "فيها كلامٌ ما تكلَّمْتُ به" فقامَ من الدِّهْلِيز فدخَلَ، فأخرَجَ المِحْبَرةَ والقلَمَ، وضرَبَ أبو عبد الله على موضِعِ: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق، وكتَبَ أبو عبد الله بخطِّه بين السَّطْرَيْن:"القرآنُ حيثُ تصرَّفَ غيرُ مَخْلوق" وقال: "ما سَمِعْتُ أحداً تكلَّم في هذا بشَيْءٍ" وأنكرَ على مَن قال: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق (77).

قلتُ: حَمْدُويْهِ بن شَدَّاد هذا أحدُ أصحاب الإِمام أحمد.

4 -

وقال صالحُ بن أحمد بن حنبل:

تَناهى إليَّ أنَّ أبا طالبٍ (78) يَحْكِي عن أبي أنَّه يقولُ: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق، فأخبَرْتُ أبي بذلكَ، فقال:"مَن أخبَرَكَ؟ " فقلتُ: فلانٌ، قال:"ابْعَث إلى أبي طالب" فوجّهتُ إليه، فجاءَ، وجاء فُوران (79)، فقال

(77) رواه الخلّال في "السنَّة" عن المرّوذي به -كما في "مجموع الفتاوى" 12/ 424 - 425 - وروى هذه القصة أيضاً أبو محمد فُوران صاحب الإِمام أحمد بنحوها، أخرج ذلك البيهقي في "الأسماء" ص: 265 بسند صحيح.

(78)

اسمه أحمد بن حُميد أبو طالب المشكاني، كان من أجل أصحاب أحمد، وكان أحمد يُكرمُه ويعظّمه، مات سنة (244).

(79)

اسمه عبد الله بن محمد بن المُهاجر، كان من خاصة الإِمام أحمد، مات سنة (256).

ص: 271

له أبي: "أنا قلتُ [لكَ]: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوقٍ؟ " وغضِبَ، وجعلَ يَرْعُدُ، فقال له: قرأتُ عليكَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقلْتَ لي: "هذا ليسَ بمَخْلوقٍ" قال: " [فَلِمَ حَكَيْتَ عني] أني قلتُ لكَ: لفظي بالقرآن غيرُ مَخلوق؟ وبلغَني أنَّكَ وضَعْتَ ذلك في كتابِكَ، وكتبتَ به إلى قَوْمٍ، فإنْ كانَ في كتابِكَ فامْحُهُ أشَدَّ المَحْوِ، واكْتُب إلى القَوْم الذينَ كَتَبْتَ إليهم: أنِّي لم أقلَ لكَ هذا" وغَضِبَ، وأَقْبَلَ عليه فقال:"تَحْكي عنّي ما لَم أقُل لكَ؟ " فجعَلَ فُوران يَعْتَذِرُ إليه، وانصَرَف من عنده وهو مَرْعوبٌ، فعادَ أبو طالبٍ فذكرَ أنَّه قَدْ حَكَّ ذلكَ من كتابهِ، وأنَّه كتَبَ إلى القَوْم يُخْبِرُهم أنَّه وَهَمَ على أبي عبد الله في الحِكايةِ (80).

قلتُ: وهذه القصَّةُ صَحيحةٌ مشهورةٌ عن الِإمام أحمدَ، رَواها عنه ابنه صالحٌ، وأبو بكر المَرّوذيُّ، وفُوران بن محمَّد، والثلاثة من خَواصِّ أصحابهِ، وكلّهم شَهِدوا القصَّةَ.

رواية أبي بكر المرّوذي:

قال رحمه الله: بلَغَ أبا عبد الله عن أبي طالب أنَّه كتَب إلى أهْلِ نَصِيبينَ (81): أنَّ لفظي بالقرآن غير مخلوقٍ.

قال أبو بكرٍ: فجاءَنا صالحُ بن أحمدَ، فقالَ: قُوموا إلى أبي، فَجِئْنَا،

(80) رواها صالح في "المحنة" ص: 70 - 71 ومن طريقه ابن الجوزي في "المناقب" ص: 155، وذكرها شيخ الإِسلام عن كتاب "المحنة" -كما في "مجموع الفتاوى" 12/ 423 - 424 - .

(81)

اسم مدينة معروفة، كانت عامرةً، على جادّة القوافل بين الموصِل والشام.

ص: 272

فدخَلْنا على أبي عبد الله، فإذا هو غضبانُ شديدُ الغَضَب، قد تبيَّنَ الغضَبُ في وجهِهِ، فقال:"اذْهَبْ فَجِئْني بأبي طالبٍ" فجئتُ به، فقعَدَ بين يَدَيْ أبي عبد الله وهو يَرْعُدُ، فقال:"كتبتَ إلى أهلِ نصِيبينَ تخبرُهم عنّي أنّي قلتُ: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق؟ " فقال: إنَّما حكيتُ عن نَفْسي، قال:"فلا يَحِلُّ هذا عنْكَ ولا عن نَفْسِي، فما سمعتُ عالماً قال هذا".

قال أبو عبد الله: "القرآن كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ كيفَ تصَرَّف".

فقيلَ لأبي طالب: اخْرُجْ وأخْبِرْ أنَّ أبا عبد الله قد نَهى أن يقالَ: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق، فخرجَ أبو طالب فلقيَ جماعةً من المحدِّثينَ فأخبرَهم أنَّ أبا عبد الله نَهاه أنْ يقولَ: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق (82).

رواية فُوران بن محمد:

قال رحمه الله: جاءَني صالحٌ -وأبو بكْرٍ المَرّوذيُّ عندي- فدعاني إلى أبي عبد الله، وقال: إنَّه قدْ بلغَ أبي أنَّ أبا طالبٍ قد حكى عنه أنَّه يقولُ: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق، فقمتُ إليه، فتَبِعَني صالحٌ، فدارَ صالحٌ من بابهِ، فدخَلْنا على أبي عبد الله، فإذا أبو عبدَ الله غضبانُ شديدُ الغضَبِ، بَيِّنُ الغضبُ في وجههِ، فقال لأبي بكر: اذهَبْ فجئْني بأبي طالب، فجاءَ أبو طالب، وجعلتُ أسَكِّنُ أبا عبد الله قبلَ مَجيءِ أبي طالب، وأقولُ: له حُرْمَة، فقعَدَ بين يَدَيْه -وهو متغيّرُ اللَّونِ- فقالَ له أبو عبد الله:"حكَيْتَ عنّي أني قلتُ: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق؟ " فقال: إنَّما حكيتُ عن

(82) رواها الخلّال في "السنَّة" عن المرّوذي به -كما في "مجموع الفتاوى" 12/ 360 - 361 - .

ص: 273

نفسي، فقال. "لا تَحْكِ هذا عنكَ ولا عنّي، فما سمعتُ عالماً يقولُ هذا" -أو العلماءَ، شكَّ فُوران- وقال له:"القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ حيثُ تصرَّفَ".

فقلتُ لأبي طالب -وأبو عبد الله يسمَعُ-: إنْ كنتَ حكيت هذا لأحَدٍ فاذهَبْ حتى تُخْبِرَه أنَّ أبا عبد الله نهى عن هذا، فخَرَجَ أبو طالب فأخبرَ غيرَ واحدٍ بنَهْي أبي عبد الله، منهم: أبو بكر بن زنْجَوَيْهِ، والفضلُ بن زياد القطَّانُ، وحَمْدان بن عليّ الورَّاقُ، وأبو عُبَيْد، وأبو عامر، وكتبَ أبو طالبٍ بخَطِّه إلى أهلِ نَصيبينَ بعدَ مَوْت أبي عبد الله يُخبِرُهم أنَّ أبا عبد الله نهى أنْ يقال: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق، وجاءني أبو طالب بكتابهِ وقد ضرَبَ على المسألة مِن كتابهِ.

قال زكريّا بن الفَرَج -راوي القصَّة عن فُوران-:

فمضَيْتُ إلى عبد الوهّاب الورَّاق، فأخذَ الرُّقْعَةَ فقَرأها، فقال لي: مَن أخبرك بهذا عن أحمد؟ فقلتُ له: فُوران بن محمد، فقال: الثِّقَةُ المأمونُ على أحمد.

قال زكريّا: وكانَ قبلَ ذلك قد أخبرَ أبو بكرٍ المَرّوذيُّ عبدَ الوهّاب، فصارَ عند عبد الوهّاب شاهدان (83).

(83) أخرج هذا السياق الخلّال في "السنَّة" -كما في "مجموع الفتاوى" 12/ 425 - 426 - وزكريا بن الفرج هذا لم أعرفه، إلَّا أنَّ البيهقيَّ أخرجَ القصة في "الأسماء" ص: 265 - 266 من طريق أخرى عن فوران بإسناد صحيح، فزال ما يخشى.

ص: 274

قلتُ. فهذه الحكايةُ الصَّحيحةُ قاطعةٌ في عَدَم قولِ الإِمام أحمدَ بهذه المقالةِ، بل هي صريحةٌ في كونِه لم يتفوَّهْ بها، وإنَّما كان ما نقلَ عنه أبو طالب خطأ تأوَّله، فعنَّفه أحمدُ ونَهاه عنه.

فكلُّ ما وَرَدَ عنه من القولِ بها فإنَّ هذه الحكايةَ تُكَذِّبهُ.

5 -

وقال البخاري رحمه الله:

"وقعَ عندِي عن أحمد بن حنبل على اثنين وعشرينَ وجْهاً، كلُّها يُخالِفُ بعضُها بعضاً، والصَّحيحُ عندي أنَّه قال: ما سمعتُ عالماً يقول: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق"(84).

قلتُ: فهذه النصوصُ التي ذكرتُ عن الإِمام أحمدَ كافيةٌ في بيان اعتقادِه في هذه القضيةِ، فكما أنَّه أنكرَ بدعةَ اللفظيةِ النافيةِ أنكرَ كذلك بدعة اللفظيةِ المُثْبِتَة، ولم يُوافِقْ أيّاً من الطائفتين على بدعَتِهم، وأولئك النافيةُ جهَّمهم، وَهؤلاءِ المُثْبِتَة بدَّعَهم وأمَرَ بِهَجْرِهم.

• بيان خطإ من أخطأ على الإِمام أحمد في هذه المسألة:

ولكنَّ أقواماً من أهْلِ السُّنَّة والحديثِ أرادوا ردَّ بدعةِ اللفظيةِ النافيةِ القائلينَ: (ألفاظُنا بالقرآن مخلوقةٌ) فقابَلوهم بإطلاقِ الضِّدِّ، فقالوا:(ألفاظُنا بالقرآن غيرُ مخلوقة) ولم يكن مرادُهم إلَّا إثباتَ أنَّ هذا القرآنَ

(84) ذكر هذا شيخ الإِسلام، قال: ورأيتُ بخط القاضي أبي يعلى رحمه الله على ظهر كتاب "العدة" بخطه قال: نقلت من آخر كتاب "الرسالة" للبخاري في أنَّ القراءة غير المقروء، فذكره.

ص: 275

العربيَّ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، لكنَّهم لم يتفطَّنوا لخُطورةِ هذا الإِطلاقٍ، وكانَ حَريّاً بهم أن يسلُكوا مسلكَ الإِمام أحمدَ في المنعِ من ذلك، وعدمِ رَدَّ البدعةِ ببدْعَةٍ.

فلمَّا وقعَ ذلكَ منهم، وفيهم أئمَّةُ أعلامٌ، مثلُ: الحافظِ الإِمام أبي حاتِم الرازي، تَبِعَهم عليه طائفةٌ من أهْلِ السُّنَّة المَعروفينَ بالانتسابِ إلى عقيدةِ الإِمام أحمدَ، مثل: أبي عبد الله بن حامد، وأبي نَصْرٍ السِّجْزيّ، وأبي عبد الله بن مَنْدَه، وآخرينَ سِواهم، وظنّوا أنَّ هذا هو مذهبُ أحمد واعتقادُهُ، بل إنَّ منهم مَن كان يقطَعُ بأنَّه اعتقادُ أحمدَ وقولُه المحقَّقُ الذي رَجَع إليهِ، واعتَمَدوا عدى نقولٍ عنه في ذلكَ، وادَّعى بعضُهم أنَّ حكايةَ أبي طالبٍ السابقة مكذوبةٌ عليه (85).

قال شيخ الإِسلام: "وليس الأمرُ كمَا قالَه هؤلاء، فإنَّ أعلمَ الناس بأحمدَ وأخصَّ الناس وأصدَقَ الناس في النَّقْل عنه همُ الذينَ رَوَوْا ذلك عنه، ولكنَّ أهْلَ خُراسانَ لم يكن لهم من العِلْمِ بأقوالِ أحمد ما لأهْلِ العِراقِ الذين هم أخصُّ به"(86).

وقال فيما احتجّوا به من رواياتٍ عن أحمدَ أنَّه قال ذلك: "وهي رواياتٌ ضعيفةٌ بأسانيدَ مَجْهولةٍ، لا تُعارِضُ ما تواتَرَ عنه عندَ خواصِّ أصحابهِ وأهلِ بَيتهِ والعُلماءِ الثَّقاتِ، لا سِيَّما وقَدْ عُلِمَ أنَّه في حياتهِ خطَّأ أبا طالب في النَّقْلِ عنه، حتى ردَّهُ أحمدُ عن ذلكَ وغَضِبَ عليه غَضَباً

(85)"مجموع الفتاوى" 12/ 207 - 208، 361.

(86)

"مجموع الفتاوى" 12/ 208.

ص: 276

شَديدًا" (87).

• ذكر ما جر إليه إطلاق هذا القول من البدع:

الألفاظُ المُبْتَدَعةُ لو كانَ المقصودُ منها حسَنًا فإنَّها لا تَخلو من مَفْسَدَةٍ شَرْعيَّةٍ، ولو لَمْ يقَعْ بسَببها إلَاّ الإِحداثُ المذمومُ لكانت حريّةً بأن تُنْبَذَ وتُتركَ، فكيفَ إذا كانت بابًا لِبدَعٍ أعظمَ منها، ولمفاسِدَ أكبرَ منها، شأنَ هذه البدعةِ، فإنَّه كانَ من مقصودِ مُبْتَدِعها الرَّدَ على اللفظية الجَهمية الذين أطلَقوا القولَ:(ألفاظنا بالقرآن مخلوقة) فقابلوا باطِلَهم بباطِلٍ، وبدعَتَهُم ببدعةٍ، ولقد كانَ يكفِيهم ما كفى غيرَهم من أئمَّةِ الهُدى كالإِمام أحمد وغيره، فيُبْطِلوا البدعةَ بدلائل القرآنِ، ويكْشِفوا زيْفَها بواضِح البَيان، مَعَ الاستغناءِ عن الألفاظِ المُحْدَثة، ولكنَّها زلّةٌ كانَت، فالله المستعان.

وقد حَدَثَت بسبَبها بدعتانِ شَنيعتان، وقعَتا من بعضِ الجَهَلة لامِمَّن ذكَرْنا من الأئمَّةِ:

البدعة الأولى: القول بأنَّ فعْلَ القارئ الذي هو صَوتُه وحركتُهُ بالقراءةِ غيرُ مخلوق.

فجعَلوا ذلك من كلام الله، وصَوْتَ القارئِ هو صَوْتُ الله، وهذا ضَلالٌ مُبينٌ، وزَيْغٌ عن الصراطِ المستقيم، وهو باطلٌ من وجوهٍ كثيرةٍ:

1 -

أنَّ أفعالَ العبادِ جميعًا مخلوقةٌ، وهي عقيدةُ السَّلَف الكِرام.

قالَ اللهُ تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].

(87)"مجموع الفتاوى" 12/ 361 وانظر: 7/ 659 و"درء التعارض" 1/ 269.

ص: 277

وعن حُذيفةَ رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يَصْنعُ كلَّ صانعٍ وَصَنْعَتَه" وتَلا بعضُ الرُّواةِ عند ذلك: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (88).

قالَ إمامُ المحدّثينَ الحُجَّةُ الحافظُ يحيى بن سعيدٍ القطّانُ رحمه الله: "ما زلتُ أسمَعُ مِنْ أصحابِنا يقولونَ: "إنَّ أفعالَ العبادِ مخلوقةٌ" (89).

قال البخاريُّ رحمه الله: "حرَكاتُهم وأصواتُهم واكتسابُهم وكتابَتُهم مخلوقةٌ، فأمَّا القرآنُ المَتلوّ المُبينُ، المُثْبَتُ في المصحفِ، المَسطورُ، المكتوبُ، المُوعى في القلوب، فهو كلامُ الله، ليسَ بخَلقٍ، قال الله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] "(90).

وقال الإِمامُ أبو عثمانَ الصابونيُّ: "ومِن قولِ أهْلِ السُّنة والجَماعة في أكسابِ العباد أنَّها مخلوقةٌ لله تعالى، لا يَمْتَرونَ فيه، ولا يعدّونَ من

(88) حديث صحيح.

أخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد" رقم (117) وابن أبي عاصم في "السنَّة" رقم (357، 358) والبزار رقم (2160 - كشف الأستار) والحاكم 1/ 31، 32 وابن الطبري 3/ 538، 539 والبيهقي في "الاعتقاد" ص: 144 و"الأسماء والصفات" ص: 26، 260، 388 من طرق عن أبي مالك الأشجعي عن ربْعي بن حِرَاش عن حذيفة.

قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم" وأقرّه الذهبي، قلتُ: إسناده صحيح.

(89)

رواه البخارى في "خلق أفعال العباد" رقم (125) بسند صحيح عنه.

(90)

"خلق أفعال العباد" رقم (126).

ص: 278

أهلِ الهدى ودين الحقّ مَنْ يُنْكِرُ هذا القولَ ويَنْفيه" (91).

2 -

أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أضافَ صوتَ القارئ وتحسينَهُ إليه دونَ القرآنِ الذي هو كلام الله تعالى، وذلكَ في غير ما حديثٍ عنه، مِنْ ذلك قولُهُ صلى الله عليه وسلم:"زينَّوا القرآنَ بأصِواتكم"(92) وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أذِنَ الله لشَيْءٍ، ما أذنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوتِ، يتغَّنى بالقرآنِ يَجْهَرُ به"(93) ففرَّق النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بينَ صَوْتِ القارئ والقرآن المتلو الذي هو كلام الله، فأضافَ الصَّوْتَ إلى القارئ، لأنَّه من كَسْبِهِ وعَمَلِه.

3 -

القارىءُ إنَّما يُبَلّغُ القرآنَ بصوتهِ وحركَةِ نفسهِ، فالكلام كلامُ الباري، والصَّوْتُ صَوْتُ القارئ، وهذا المعنى مُتَصوَّرٌ معقولٌ في كلّ كلامٍ، فلِمَ لا يُتَصوَّر في كلام الله تعالى؟ فإنَّ المحدَّثَ إذا حدَّثَ بحديثِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم:"مَن كذَبَ على متعمِّدًا فليتبوّأ مقعَدَهُ من النار"(94)، فإنَّ الكلامَ كلامُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بلا شَكٌ ولا رَيْب، والمحدّثُ إنَّما بلّغَهُ بصَوْتِ نفسِهِ، وحركةِ لِسانِهِ، ولا يقالُ: إنَّ الصَّوْتَ المسموعَ من المحدّث هو صَوْتُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ولَوْ قالَ ذلكَ قائلٌ لما كانَ معدودًا في عقلاءِ بني آدَم، فإذا كانَ هذا ظاهِرًا في كلام المخلوقِ، فأولى وأحْرى أنْ يكونَ أظهرَ في كلام الله تعالى، ذلكَ لأنَّ صِفةَ المَخلوقِ تشْبَهُ صِفَةَ مثلهِ ومَعَ ذلك أمكَنَ التَّمييزُ

(91) رسالته في السنَّة نص/118.

(92)

حديث صحيح، سبق تخريجه ص:174.

(93)

حديث صحيح.

متفقٌ عليه من حديث أبي هريرة.

(94)

حديث متواتر.

ص: 279

فيها، وصِفَةَ الله لا تَشْبَهُ صِفَةَ المَخلوقِ فلِمَ عَسُرَ التمييزُ فيها؟

ولقد أنكرَ الأئمَّةُ رحمهم الله هذه البدعَةَ حين ظهَرتْ، كالبخاري رحمه الله تعالى وغيرِهِ، وقَدْ أخَذَ الإِمامُ أبو بكر المَرّوذىُّ - أخصّ أصحابِ الإِمام أحمد به - أجوبةَ أئمَّةِ الإِسلام وعلمائهِ في وقتهِ، من أهل بغدادَ، والبَصْرةِ، والكوفةِ، والحَرَمَيْنِ، والشامِ، وخُراسانَ، وغيرهم من الأئمة في ذلك (95).

وقد ساقَ شيخُ الإِسلام منهم جماعةً، منهم:

أبو بكر الأثْرَم، ومحمد بن بشَّار بُنْدار، ويعقوب بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، ومحمَّد بن عبد الله المُخَرَّمي، والعبَّاس بن محمد الدُّوريّ، وعبد الكريم بن الهَيْثم العاقوليّ، وأحمد بن سِنان الواسطي، وعليّ بن حَرْب المَوْصلي.

قلتُ: وهؤلاء جميعًا من ثِقاتِ المحدِّثينَ وحُفَّاظِهم.

قال شيخ الإِسلام: "ومَن شاءَ الله تعالى من أئمَّةِ أهْل السُّنَّة وأهلِ الحَديث، من أصحاب الإِمام أحمد بن حنبل وغيرِهم، يُنْكِرونَ على مَن يَجْعَلُ لَفْظَ العبد بالقرآنِ، أو صوتَه به، أو غيرَ ذلك من صفاتِ العبادِ المتعلِّقةِ بالقرآنِ غيرَ مخلوقةٍ، ويأمُرونَ بعقوبتهِ بالهَجْرِ وغيرِه"(96).

والبدعة الثانية: أنَّ أقوامًا جَعَلوا كلامَ الله مجرَّدَ الحُروفِ والأصواتِ، والمَعانيَ ليسَتْ داخلةٌ في ذلك.

(95)"مجموع التفاوى" 12/ 422.

(96)

"مجموع الفتاوى" 12/ 422.

ص: 280

وهذه البدعةُ ظاهرةُ الفَسادِ، وقد بَيّنتُ في الباب الأوّل ما فيه كفايةٌ لإِثباتِ كون الكلام اسْمًا لِلّفظ والمعنى جَميعًا، ليسَ اسْمًا لواحدٍ منهما دونَ الآخر. ورُبَّما نسَبَ خُصومُ هذه الطائفةِ إليها أنَّها تقولُ بأنَّ المِدادَ الذي يُكْتَبُ به كلامُ الله، والوَرَقَ أو الجِلْدَ الذي يُكْتَبُ فيهِ، أو ما في معنى هذا ليسَ مَخْلوقًا، وهذا في الحَقيقة قولٌ لم يقلْ به أحدٌ له مُسْكَةٌ من عَقْلٍ، وربَّما وقعَ فيه بعضُ الجُهُال المُتَطرَّفينَ (97)، وفَسادُهُ أظهرُ من أن يُسْتَدَلَّ له. والله أعلم، ولا حولَ ولا قوّة إلَاّ بالله.

• • • • •

(97) انظر: "مجموع الفتاوى" 12/ 381، 383.

ص: 281