الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: القرآن العربي عند الأشعرية
بينتُ في شَرْح اعتقادِ السَّلَفِ أنَّ هذا القرآنَ العربيَّ المؤلَّفَ من الحروف العربيَّةِ، المشتمل على المَعاني من الأوامرِ والنَّواهي، والأخبار، وغير ذلك مِمَّا خاطبَ الله تعالى به العبادَ، وأنزلَه على رسولِهِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بواسطةِ الأمين جبريلَ عليه السلام، على الأحْرُف السَّبْعَة تيسيراً على الأمَّةِ، وهذا القرآن هو كلامُ الله على الحقيقةِ بألفاظِهِ ومعانيهِ، وبحروفهِ وكلماتهِ وآياتهِ وسورهِ، غيرُ مخلوق، مِنْ أوَّل الفاتحةِ إلى آخر الناس، لا قرآنَ سواهُ، وبسَطْتُ ذلك بالأدلَّةِ، وبيَّنْتُ في الباب الثاني في إقامةِ الحُجَّة على بُطلان اعتقادِ اللفظيَّة، الذين يعتقدونَ خَلْقَ الألفاظِ العربيةِ، بالحُجَج القَواطِع من كتاب الله تعالى واعتقادِ السَّلَف، وسُقْتُ هناكَ من نُصوصِ الأئمَّة ما فيه الكفَايةُ والمَقْنَع لِمَنْ طلبَ الهدى وقصَدَه، ورامَ اتِّباعَ السَّلَف وتَرْكَ البِدَع.
ولكن الأشعريةَ -رأسَ القائلينَ بخَلْق الألْفاظ- أبَوُا التسليمَ لهذا المُعْتَقد السَّلَفي، وقالوا فيه بقَوْل الجَهميةِ الضُّلال: بأنَّه مخلوقٌ، وليسَ هو كلامَ الله على الحقيقةِ، وإنَّما هو عبارةٌ عنه، لأنَّ كلامَ الله عندهم هو
المعنى القائمُ بنفسهِ -كما شرَحْناه عنهم-.
وهذا القولُ فاقوا فيه المعتزلةَ، لأنَّ المعتزلةَ كانوا يُسَمُّونَ هذا القرآنَ العربيَّ كلامَ الله، ويصفونَه بالخَلْق، أمَّا هؤلاء فوافَقوهم في وصْفهِ بالخَلق، لكنهم زادوا عليهم نَفْي كونهِ كلامَ الله، وهذا وإنْ كانَ حقيقةَ قولِ المعتزلةِ، إلَاّ أنَّهم لم يُصَرِّحوا به تصريحَ الأشعريةِ.
ويتلخَّصُ اعتقادُهم في القرآن العربيّ في الأمور الآتية:
1 -
هو عِبارةٌ ودَلالةٌ على الكلام القَديمِ، وليسَ هو الكلامَ القديمَ.
2 -
لا يُسَمَّى كلامَ الله على الحَقيقة، إلَاّ على معنى أنَّه خلَقَه في اللَّوْح المَحفوظ أو غيره.
3 -
يُسَمَّى كلامَ الله مَجَازاً من تَسْمية الدَّالّ باسْم المَدلول.
4 -
الأكثرون منهم على أنَّهُ مَخلوقٌ في اللَّوْح المَحْفوظ، ومنهم من قال: في غيره، ومنهم من قال: هو قوْلُ جبريلَ عليه السلام، ومنهم من قال: هو قولُ محمَّد صلى الله عليه وسلم.
5 -
لَمْ يَنزِلْ إلى الأرض إلَاّ ما هو مَخلوق.
وهذه بعض نُصوصِهم الصَّريحةِ تُثْبِتُ صحَّة ما ذكرتهُ عنهم:
قالَ أبو بكرٍ الباقلّاني: "إنَّ الكلامَ الحقيقيَّ هو المعنى الموجودُ في النَّفسِ، لكن جُعِلَ عليه أماراتٌ تدلُّ عليه، فتارةً تكونُ قولاً بلسانٍ على حكم أهل ذلك اللسانِ وما اصْطَلحوا عليه وجَرى عُرْفُهم به وجُعِلَ لغةٌ لهم، وقد بيَّنَ تعالي ذلك بقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] فأخْبَرَ تعالي أنَّه أرْسَل موسى عليه السلام إلى بَنِي
إسرائيلَ بلسانٍ عِبْراني، فأفهَمَ كلامَ الله القديمَ القائِمَ بالنفسِ بالعِبْرانية، وبَعَثَ عيسى عليه السلام بلسانٍ سريانيّ، فأفهَمَ قومَهُ كلامَ الله القديمَ بلسانهم، وبعَثَ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم بلسانِ العربِ، فأفهَمَ قومَه كلامَ الله القديمَ القائِمَ بالنفسِ بكلامِهم، فلغةُ العرَب غيرُ لغة العِبْرانية، ولغة السّريانية غيرهما، لكنَّ الكلامَ القديمَ القائمَ بالنفسِ شيءٌ واحدٌ لا يَخْتَلِفٌ ولا يتغيَّر
…
" (62).
حتى قالَ: "فصحَّ أنَّ الكلام الحقيقيَّ هو المعنى القائمُ بالنَّفْس دونَ غيرهِ، وإنَّما الغيرُ دليلٌ عليه بحُكْم التَّواضُعِ والاصطلاح، ويجوزُ أنْ يُسَمَّى كلامًا إذْ هو دليلٌ على الكَلام، لا أنَّه نفسُ الكَلام الحقيقيّ"(63).
ويُفْصِحُ عن مُنْشِىءِ هذا الكلام العربيّ فيقولُ: "والمَنزولُ به هو اللُّغَة العربية التي تَلا بها جبريلُ، ونحنُ نتلو بها إلى يوم القيامةِ، لقوله تعالى:{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] والنَّازِلُ على الحَقيقةِ، المنتقِلُ مِنْ قُطْرٍ إلى قُطْرٍ قَوْلُ جبريلَ عليه السلام، يدلُّ على هذا قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
…
} وذكَرَ الآياتِ، ثمَّ ذكَرَ آيةَ التكوير، ثم قالَ: "وهذا إخبار مِن الله تعالى بأنَّ النظمَ العربيَّ الذي هو قِراءةُ كلام الله تعالى هو قولُ جبريلَ، لا قول شاعرٍ، ولا قول كاهنٍ
…
" (64).
قلْتُ: وقد بيَّنا الحقَّ في تفسير آيتَي الرَّسولَيْن في الباب الثاني في
(62)"الإِنصاف" ص: 106 - 107.
(63)
"الإِنصاف" ص: 107.
(64)
"الإِنصاف" ص: 97.
شَرْح مسألة اللفظِ، بما يُبْطِلُ مذهبَ الباقلّاني ومَن تابَعَه، فارْجِع إليه.
وقال صاحبُ "كفاية العوام" -منهم-: "وليسَ المُرادُ بكَلامِهِ تعالى الواجب لَهُ تعالى الألفاظ الشَّريفةَ المُنْزَلَةَ على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، لأنَّ هذه حادثةٌ، والصِّفةُ القائمةُ بذاتهِ تعالى قديمةٌ، وهذه مشتملةٌ على تقدُّمٍ وَتأخُّرٍ وإعرابٍ وسُوَرٍ وآياتٍ، والصِّفَةُ القديمةُ خاليةٌ عن جَميع ذلك، فليسَ فيها آيَاتٌ، ولا سُوَرٌ، ولا إعرابٌ، لأنَّ هذه تكونُ للكلام المُشْتَمل على حروفٍ وأصواتٍ، والصِّفَةُ القَديمةُ مُنزَّهةٌ عن الحروفِ والأصوات"(65).
حتى قال: "ويُسَمَّى كلُّ من الصِّفةِ القديمةِ والألفاظِ الشَّريفةِ: قرآنًا، وكلامَ الله، إلَّا أنَّ الألفاظَ الشَّريفة مخلوقةٌ، مكتوبةٌ في اللَّوْح المَحفوظ، نزلَ بها جبريلُ عليه السلام على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بعدَ أنْ نزَلت في ليلة القَدْرِ في بيت العزَّة: مَحَلٌّ في سَماءِ الدُّنيا"(66).
وقال الباجوريُّ: "مَذْهَبُ أهْل السُّنة -يريدُ الأشعريَّةَ- أنَّ القرآن بمعنى الكلامِ النَّفْسي ليسَ بمَخلوقٍ، وأمَّا القرآنُ بمعنى اللَّفْظ الذي نَقرؤه فهو مَخلوقٌ"(67)
وقالَ: "مَنْ أضيفَ لَهُ كلامٌ لفظيٌّ دلَّ عُرْفًا أنَّ له كلامًا نفسيًّا، وقد أضيفَ له تعالي كلامٌ لفظيٌّ، كالقرآن، فإنَّه كلامُ الله قطعًا، بمعنى أنَّه خلقَهُ في اللَّوْح المَحْفوظ، فدلَّ التزامًا على أنَّ له تعالى كلامًا نفسيًّا، وهذا
(65)"كفاية العوام" ص: 102 - 103.
(66)
"كفاية العوام" ص: 104 - 105.
(67)
"شرح الجوهرة" ص: 94.
هو المُراد بقولِهم: القرآنُ حادثٌ، ومَدلولُهُ قديمٌ، فأرادوا بمَدْلولهِ الكلامَ النَّفسيَّ، وتكفي الإِضافةُ الإِجماليةُ وإنْ لم يكن اللفظيُّ قائمًا بالذَّاتِ" (68).
وقال صاحب "الجوهرة":
فكلُّ لَفْظٍ للحَدوثِ دَلَّا
…
احْمِلْ على اللَّفْظِ الذي قَدْ دَلَّا
فقال الباجوري في "شرحهِ": " (على اللفظ) أي على القرآنِ، بمعنى: اللفظ المُنْزَل على نبيّنا صلى الله عليه وسلم، المُتَعَبَّد بتلاوتهِ المُتحدّى بأقصَرِ سورةٍ منه، والرَّاجحُ أنَّ المنزَلَ اللفظُ والمعنى، وقيل: المُنْزَل المعنى، وعبَّر عنه جبريلُ بألفاظٍ من عنده، وقيل: المنزَل المعنى، وعبَّر عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بألفاظٍ من عندِه، لكن التحقيق الأوَّلُ، لأنَّ الله خلقَهُ أوَّلًا في اللَّوْح المَحْفوظِ، ثمَّ أنزلَه في صحائفَ إلى سَماءِ الدنيا، في مَحَلٍّ يقالُ له: بيتُ العزَّة، في ليلةِ القَدْر، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ثمَّ أنزَلَهُ على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مُفَرَّقًا بحسب الوقائع".
حتى قال: "والحاصِلُ أنَّ كلَّ ظاهرٍ من الكتابِ والسُّنَّة دلَّ على حدوثِ القرآن فهو مَحْمولٌ على اللفظِ المَقروء، لا على الكلام النَّفْسي"(69).
قلت: يَعْنونَ بهذا قولَه تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} وما في مَعناه مما ذكَرْناهُ عن أسْلافهم الجَهمية في الفصل
(68)"شرح الجوهرة" ص: 73.
(69)
"شرح الجوهرة" ص: 95.
السابق، وأظهَرْنا زيفَهم فيه.
فهذه نصوصُ بعض مُحَقِّقي الأشعريَّة، وهي أبْيَنُ مِنْ أنْ تُشْرَحَ، وأصرَحُ مِنْ أنْ تُوَضَّحَ، مُصَرِّحَةً بخَلْق هذا القرآنِ العربيّ الذي يقول الله تعالى فيه:{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 37] والذي تحدَّى الخلقَ أنْ يأتوا بسورة مثله، فوافَقوا الجهميةَ في قولِهم، ونَبذوا مذهبَ السَّلفِ وأهْلِ السُّنَّةِ واعتقادَهم وَراء ظُهورهم، وكابَروا، فتظاهَروا بالرَّدِّ على الجَهمية، والانتسابِ لأهْل السُّنَّةِ، وسأذكرُ لك قريبًا مقالةَ أحَدِ فُحولهم في أنهم موافقونَ للمعتزلةِ في هذه القضية، تُنْبِيكَ عن بَراءتهم من اعتقادِ أهلِ السُّنَّةِ من السَّلَف والأئمَّة في مسألة كلام الله تعالى.
ولقد أبطلتُ قولَ هؤلاء اللَّفظية في الباب السابق، بما فيه غُنْيَةٌ إنْ شاءَ الله.
وأقولُ هُنا إلزامًا وإفحامًا: لقد صرَّحْتُم -معشرَ الأشعرية- في غير موضعٍ من كُتُبِكم في صَدَدِ الرَّدِّ على المُعتزلة، بأنَّ كلامَ الله لوكانَ مخلوقًا لكانَ مخلوقًا في مَحَلٍّ، ولَكانَ صفةً لذلك المَحَلِّ الذي خُلِقَ فيه، لا صفةً لله تعالى.
وقولُكُم هذا صَوابٌ ومعقولٌ موافقٌ للمنقولِ، فإنَّه إذا خَلَقَ الله تعالى حركةً أو وَصْفًا في مَحَلٍّ كانَ ذلك المَحَلُّ هو المتحرّكَ الموصوفَ بذلك الوَصْفِ، لا الخالقُ تعالى، فإنَّه لا يوصَفُ بخَلْقهِ، فكلامُه تعالى المضاف إليه صفتهُ، فإن قيلَ: مخلوقةٌ، وجَبَ أن تكونَ قائمةً بمخلوقٍ لا بالله تعالى، وأنتم تُقرّون بهذا، فإذا كانت قائمةً بمخلوقٍ لم تَجُز إضافتُها لله
تعالى على أنَّها صفةً له، وهذا موافقٌ لإِلزامكم للمعتزلة.
وهذا القرآنُ العربيُّ معلومُ الإِضافةِ إلى الله تعالى بالضَّرورة، فإنَّ
الأمَّةَ مُتَّفقةٌ على ذلك، وقد تلَقَّتْ ذلك عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على أنَّهُ كلامُ
الله لا كلامُ غيره، ففي نَفْي إضافتهِ إلى الله تكذيبٌ للرَّسولِ صلى الله عليه وسلم بما جاءَ
به، وتجهيلٌ للصَّحابة رضي الله عنهم، وهم أجَلُّ مِنْ أنْ يَجْهَلوا أنَّه لو كانَ مخلوقًا لكان مخلوقًا في مَحَلٍّ، فيكون بهذا صفةً لذلك المَحَلِّ لا لله تعالى.
وأنتم -معشرَ الأشعرية- قُلْتُم: إنَّ الله خَلَقه، قال أكثرُكم: في اللَّوْح المَحْفوظ، وقال آخرون: في غيره.
وهذا يُلْزِمُكم على أصلِكم الذي ألزَمْتُم به المعتزلةَ أنْ يكونَ كلامَ اللّوحِ، لا كلامَ الله، فلا يَحْسُنُ منكم إضافَتُه إلى الله بحالٍ من الأحوالِ، ولكنَّكُم أرَدْتم التَّشبيهَ على الأمَّةِ والتَّلبيسَ عليها، وسَتْر مقالتِكم الشَّنيعة التي هي في الحَقيقة مقالَة الجَهمية، فكَسَوْتُموها زورًا بِكساء أهْلِ السُّنَّةِ، لِتُخْفوا حقيقةَ أمْرِكم.
فكذَّبتُمُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم في أنَّه كلامُ الله، وجَهَّلْتم أصحابَه والتَّابعينَ لهم بإحسان، الذين لَمْ يكونوا يعرفونَ هذا القرآنَ العربيّ إلَّا أنَّه كلامُ الله ووحيُه وتنزيلُه.
بل تَبَجَّحَ بعضُكُم فافترى، وزادَ إفْكاً أنَّه قَوْلُ جبريلَ، ولَبَّسَ على النَّاس بما لَمْ يَفْهَمْهُ هو من القرآنِ، وأضَلُّ منهُ وأكْفَرُ مَنْ قالَ منكُم: إنَّه مِنْ إنشاءِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنتُم أيُّها المساكينُ تُورِدونَ خِلافَ أصحابِكم في كونِهِ
مَخلوقًا في اللَّوح، أو في الهَواءِ، أو في جِبريلَ، أو محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، مَوْرِدَ مسائل الفُروع الخِلافية.
وأمَّا قولُ إمامكُم الجُوَيْني ومَن تَبِعَه: إنَّ إطلاقَ كَلام الله على الكَلام النَّفسي، والنَّظم العربيّ، حقيقةٌ فيَهما جميعًا (70)، فهو أبْعَدُ شَيْءٍ عن المَعقول الذي تدَّعونه، فإنَّه إنْ كانَ كلامَ الله على الحقيقةِ على هذه المقالةِ، بطلَ أن يكونَ مخلوقًا، سَواء كان ما سَمَّيْتُموه بالكلام النفسيّ، أو النّظمِ العربيّ، وهذا يُبْطِلُ أصلَكم، ولكنَّ الأمرَ ينطوي على سِرٍّ لا تُظْهِرونَه على كل حالٍ خشيةَ أن تبدوَ سوآتُكم، وتنكشفَ عَوْراتُكم، وهو الذي صرَّحَ به شارحُ الجَوْهرة حينَ قال:"إنَّه كلام الله قَطْعًا، بمعنى أنَّه خَلَقَهُ في اللَّوْح المَحْفوظ" فهذه الحقيقةُ المُرادَةُ عندَكم.
قال شيخُ الإِسلام ابن تيمية: "فإن قيلَ: إنَّه كلّه كلام الله تكلّمَ به، وبلّغَه عنه جبريلُ إلى محمَّد -كما هو المَعلوم من دين المُرْسَلين- كانَ هذا صَريحًا بأنَّه لا فَرْقَ بين الحُروف والمَعاني، وأنَّ هذا من كلام الله، كما أنَّ هذا من كلامِ الله، وإنْ قيلَ؛ إنَّه خَلَقَ في غيرهِ حروفًا منظّمةً دَلَّتْ على معنى قائمٍ بذاتهِ، فقَدْ صرَّحَ بأنَّ تلكَ الحروفَ المؤلَّفةَ ليست كَلامَه، وأنَّهُ لم يتكلَّمْ بها بحالٍ، وإذا قيلَ: إنَّ تلكَ تُسَمَّى كلامًا حقيقةً، وقد خُلِقَتْ في غيره، لَزِمَ أنْ تكونَ كلامًا لذلك الغَيْر، فلا يكونُ كلامَ الله، وهو خِلافُ المَعلوم من دين الإِسلام، وإنْ قيلَ: لا يُسَمَّى كَلامًا حقيقةً كانَ خلافَ المعلومِ من اللُّغَةِ والشَّريعةِ ضَرورةً"(71).
(70) انظر: "الإِرشاد" للجويني ص: 108.
(71)
"مجموع الفتاوى" 6/ 535.
فالتَّحقيقُ الذي لا مِرْيَةَ فيه أنَّ الأشعريةَ يعتقدونَ أنَّ القرآنَ العربيَّ مخلوقٌ، وهذا عَيْنُ قَوْلِ المُعْتزلةِ الجَهميةِ.
شبهة:
ومَعَ التَّحقيقِ الذي ذكَرْنا في اعتقادِهم، فإنِّهم نَصُّوا على أنَّ القرآنَ الذي نتلوهُ كلامُ الله، متلوٌّ بألْسِنَتِنا على الحَقيقةِ، مَكتوبٌ في مصاحِفنا على الحَقيقةِ، محفوظٌ في صدورِنا على الحقيقةِ، مسموعٌ بأسماعِنا على الحقيقةِ.
وهذه شُبْهَةٌ التبسَت حقيقتُها على كثيرٍ من النَّاس، وخاصَّةً من بعض إخوانِنا السَّلَفيينَ، فإنَّهم لمَّا رَأوْا ذلك في "الإِبانة" للأَشْعَريّ، وغيره من أتباعهِ، حَسِبوها موافقةً منهم لاعتقادِ أهْلِ السُّنَّة.
وليسَ الأمْرُ كذلك، فإنَّ القومَ حين فصَّلوا اعتقادهم بانَ حقيقةُ المعنى الذي أرادوا وراءَ هذه الألفاظِ المُجْمَلةِ، بل إنَّهم فسَّروها في غَيْرِ مَوْضع.
قالَ أبو القاسم القشيريُّ -وهو من كِبار مُحقِّقيهم- في "شكاية أهل السُّنَّة" وهو يذبُّ عن الأشْعَريّ: "بل القرآنُ مكتوبٌ في المُصْحَفِ على الحَقيقةِ، والقرآنُ كلامُ الله، وهو قَديمٌ غيرُ مَخْلوقٍ، لم يَزَلْ الله به متكلِّمًا، ولا يزالُ به قائلًا، ولا يجوزُ انفصالُ القرآنِ عن ذاتِ القَديمِ سُبْحانه، ولا الحُلولُ في المَحالِّ، وكَوْنُ الكَلامِ مكتوبًا على الحَقيقة في أبْوابٍ لا يَقْتَضي حُلولَه فيه، ولا انفصالَه عنَ ذاتِ المُتكلِّم، قال الله تعالى:{النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الأعراف:
157] فالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم على الحَقيقةِ مكتوبٌ في التَّوْراةِ، فكذلك القرآنُ على الحَقيقةِ مكتوبٌ في المصاحفِ، مَحْفوظٌ في قلوبِ المؤمنين، مَقروءٌ متلوٌّ على الحَقيقةِ بألسنةِ القارئينَ من المُسْلمينَ، كما أنَّ الله على الحقيقةِ لا على المَجاز مَعْبودٌ في مساجِدنا، معلومٌ في قلوبِنا، مذكورٌ بألْسِنَتِنا" (72).
قلتُ: فأفصَح بالمثَل الذي ضَرَبه عن حقيقةِ هذه المَقالةِ، فإنَّ الذي في التَّوْراةِ هو ذكْرُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، لا عَيْنُه، وهذا مِمَّا لا يَشُكُّ فيه أحَدٌ، فالمكتوبُ على الحقيقةِ في التَّوراةِ هو ذكْرُهُ صلى الله عليه وسلم، كما أنَّ المذكورَ بالألسنةِ على الحَقيقةِ هو اسْمُه تعالى، فليسَ مُرادُ القَوْمِ أنَّ القرآنَ الذي هو كلامُ الله عندَهم لا النَّظم العَربيّ مكتوبٌ في المصاحِف على الحَقيقةِ، بمَعنى أنَّ عَيْنَ كلامِ الله تعالى مكتوبٌ في المَصاحِفِ، أو عَيْنَ كلامهِ مَحْفوظٌ في الصُّدورِ، أو عَيْنَ كلامهِ مسموعٌ بالآذانِ، وإنَّما كتابةُ ذلك وقراءتُهُ وتلاوتُهُ، وهذه جَميعًا مَعاني مخلوقةٌ عندهم، إذ هي العِباراتُ عن الكلامِ القَديم.
وأفْصَحَ عن ذلك ابنُ فَوْرَك، فقال: "كلامُ الله تعالى مَحْفوظٌ في القلوب، متلوٌّ بالألسنةِ، مكتوبٌ في المصاحِفِ، كما أنَّ الله جلَّ ذكرُه مذكورٌ بالألسنةِ، معبودٌ بالجَوارح، ولا يَجوزُ أنْ يكونَ في شَيْءٍ من ذلك حالًّا، ومثلُ هذا قولُهُ تعالى:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93] والمُرادُ حُبُّ العِجْل، لأنَّ العِجْل لم يَحُلّ في قلوبهم، واعلم أنَّا لا نأبى أنَّ كلام الله تعالى مَحْفوظٌ على الحَقيقةِ بحِفْظٍ في القلوب، مَكتوبٌ على الحَقيقةِ في المَصاحف كتابةً حالّةً فيها، متلوٌّ بالألسنةِ بتِلاوةٍ فيها، مسموعٌ
(72)"شكاية أهل السنَّة" ص: 40.
في الأسماعِ، غيرُ حالٍّ في شَيْءٍ مِنْ هذه المخلوقات، ولا نُجاوِز" (73).
وقالَ عبدُ القاهر: "ونقولُ: كلامُ الله في المُصْحَفِ مكتوبٌ، وفي القَلْبِ مَحْفوظٌ، وباللِّسانِ مَتلوٌّ، ولا يقال: إنه في المَصاحفِ مُطْلقًا، ولا نقولُ على الإِطلاق: إنَّ كلامَ الله سُبْحانَه في مَحَلٍّ، ولكن نقولُ على التَّقييدِ: إنَّه مكتوبٌ في المَصاحفِ"(74).
فهذا صَريحٌ منهم أنَّ ما بين الدَّفَّتَيْن كتابةُ كلام الله التي هيَ الألفاظُ العربيةُ، لا كلامُ الله، وما قد شرَحناه عنهم فيما مضى كافٍ في توضيح هذا المُرادِ، ورَفْع الإِشكال الوارد بسَبَبهِ.
وقد ذكرَ شيخُ الإِسلام أنَّهم غَلَطوا في التَّمْثيلِ الذي ذكَروهُ غَلَطَيْنِ: غَلَطًا في تَصْويرِ مَذْهَبِهم، وغَلَطًا في الشَّريعةِ.
قالَ رحمه الله: "أمَّا الغَلَطُ في تَصْوير مذْهَبِهم، فكانَ الواجبُ أنْ يقولوا: إنَّ القرآنَ في المُصْحَفِ مثْل ما إنَّ العلمَ والمَعانيَ في الوَرَق، فكما يُقال: العِلْمُ في هذا الكتابِ، يقال: الكلامُ في هذا الكتابِ، لأنَّ الكلامَ عندَهم هو المعنى القائمُ بالذَّاتِ، فيصوَّر له المَثَلُ بالعِلْم الَقائم بالذَّاتِ، لا بالذاتِ نفسِها.
وأمَّا الغَلَطُ في الشَّريعة، فيقال لهم: إنَّ القرآنَ في المصاحفِ مِثْلما أنَّ اسمَ الله في المَصاحف، فإنَّ القُرآنَ كلامٌ، فهو محفوظٌ بالقُلوبِ، كما يُحْفظ الكلامُ بالقلوبِ، وهو مذكورٌ بالألسنةِ كما يُذْكَرُ الكلامُ بالألسنَةِ، وهو
(73)"مشكل الحديث" ص: 130.
(74)
"أصول الدين" ص: 108.
مكتوبٌ في المَصَاحفِ والأَوْراقِ، كما أنَّ الكلامَ يُكْتَبُ في المَصاحفِ والأوْراقِ، والكلامُ الذي هو اللفظُ يُطابِقُ المَعنى ويدلُّ عليه، والمَعنى يُطابِقُ الحَقائقَ المَوْجودةَ.
فمَنْ قالَ: إنَّ القرآنَ مَحْفوظٌ كما أنَّ الله معلومٌ، وهو متلوٌّ كما أنَّ الله مذكورٌ، ومكتوبٌ كما أنَّ الرسولَ مكتوبٌ، فقد أخْطأ القياسَ والتَّمْثيلَ بِدَرَجَتَيْن، فإنَّه جعَلَ وجودَ المَوجوداتِ القائمةِ بأنْفُسِها بمنزلةِ وجودِ العبارةِ الدالَّة على المعنى المُطابقِ لها، والمُسلمونَ يعلَمونَ الفرقَ بين قولِهِ تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77 - 78] وبينَ قولِهِ تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] فإنَّ القرآنَ لم يَنْزِلْ على أحَدٍ قَبْلَ مُحمَّدٍ لا لفظُه ولا جَميعُ مَعانيهِ، ولكنْ أنْزَلَ الله ذِكْرَه، والخبرَ عنهُ، كما أنزَلَ ذِكرَ محمَّدٍ والخبرَ عنه.
فذكْرُ القرآنِ في زُبُر الأوَّلينَ كما أنَّ ذكرَ محمَّدٍ في زُبُر الأوَّلين، وهو مكتوبٌ عندَهم في التَّوْراة والإِنْجيل، فالله ورسولُهُ معلومٌ بالقُلوبِ، مَذكورٌ بالألسُنِ، مكتوبٌ في المُصْحَف، كما أنَّ القرآنَ معلومٌ لمَنْ قبلَنَا، مذكورٌ لهم، مكتوبٌ عندَهم، وإنَّما ذاكَ ذكرُهُ والخبرُ عنه، وأمَّا نحنُ فنفسُ القرآن أنْزِلَ إلَيْنا، ونفسُ القرآنِ مكتوبٌ في مَصاحِفنا، كمَا أنَّ نفس القرآنِ في الكتابِ المَكْنونِ، وهو في الصُّحُفِ المُطهَّرةِ.
ولهذا يجِبُ الفَرْقُ بين قولِهِ تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52] وبين قولهِ تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 2 - 3] فإنَّ الأعمالَ في الزُّبُر كالرَّسولِ وكالقُرآنِ في زُبُرِ الأوَّلينَ، وأمَّا الكتابُ المَسطورُ في الرَّقِّ المَنْشور، فهو كما يُكْتَبُ الكَلام نفسُه [في]
الصَّحيفة، فأيْنَ هذا مِن هذا؟ " (75).
قلتُ: فتأمَّل -أرشَدَك الله- مَدى تناقُض القَوْم المتَبجّحينَ بمعرفةِ المَعقولِ، المُجانبين لِما جاءَ به الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم.
تنبيه:
تَرى في بعضِ نُصوصِ الأشعريةِ المَذكورة قَريبًا وغَيرِها، تَنْزيههم القرآنَ الذي هو كلامُ الله عن الحُلولِ في المُصْحَف، ولو طلبْتَ تفسيرَ الحُلولِ في كَلامهم وجَدْتهم يريدونَ تنزيهَ كلامِ الله تعالى الذي هو صفتهُ عن الكَوْنِ في الورَق، لأنَّ هذا بزَعْمِهم بَيْنونَةٌ للصِّفَة عن المَوْصوفِ ومُفارَقةٌ له، فيَرَوْن أنَّهم إنْ أقرّوا بأنَّ كلامَ الله على الحقيقةِ في المُصْحَف أبَطلوا أنْ تكونَ لله تعالى صفةُ الكَلام، لأنَّ كلامَهُ حينئذٍ يَنْتَقِلُ ويَحُلُّ في الوَرَق.
وهذا منهم جَهْلٌ بحقيقةِ الأمْرِ، فإنَّ نقلَ الكلام ليسَ كنَقْل الحَجَر والصَّخْر، فنقلُ الحَجَر والصَّخْر يزيلُهُ عن مَوْضعهِ إلى المَوْضِع الذي نُقِلَ إليه، بخلافِ الكَلام، فهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كان يُحَدِّثُ أصحابَه بالسُّنَن والشَّرائع، وأصحابُهُ يَحْفَظونَ ذلك وينقلونه عنه، فهَل ما علَّمهم من قوله صلى الله عليه وسلم وَحَفِظُوُهُ زالَ عنه وفارقَه؟ لا يَعْقِلُ هذا عاقلٌ، وإلَّا كانَ ما يتكلَّمُ به المتكلِّم لا يَقْدِرُ أن يتكلَّمَ به أكثر مِن مَرَّة، وإن قُلْنا: فارَقَتْه صفةُ الكَلام وانتقلَتْ إلى غيرهِ بسمَاع ذلك الغَيْر هذا الكلامِ وحِفْظِهِ له، لَما صَحَّ أن يبقى وصفُ الكلام لازمًا له، ولعادَ أبْكَمَ بعدَ تكلُّمِهِ مرَّةً، وهذا غيرُ مَعقولٍ ولا مُتَصَوَّر.
(75)"مجموع الفتاوى" 12/ 383 - 385 وانظر ص: 386 و 565.
ولو صَحَّ ما قالوهُ -أيضاً- لَما صحَّت إضافةُ الكَلام إلى مَن قاله إبتداءً، فالحَديث -مثلاً- سَمِعَه أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه من النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، يُضافُ على قَوْلِ هؤلاء إلى أبي هُرَيْرَةَ لا إلى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، لأنه فارقَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بتكلّمهِ به وحَلَّ في أبي هُرَيْرَةَ فصار قَوْلاً لأبي هُرَيْرةَ، وهذا المعنى زَيْغٌ وضَلالٌ ومُجانَبةٌ للفَهم السَّليم، وبُعْدٌ عن الصَّراطِ المُستقيم.
قال شيخ الإِسلام: "ولهذا يقالُ: فلانٌ يَنْقل علمَ فلان، ويَنقلُ كلامَه، ويُقالُ: العلمُ الذي كان عندَ فُلان صارَ إلى فلانٍ، وأمثالُ ذلك، كما يُقالُ: نقلتُ ما في الكتاب، ونسَخْتُ ما في الكتابِ، أو نقلتُ الكتابَ أو نسَختُه، وهم لا يُريدون أَنَّ نفسَ الحروف التي في الكتاب الأوَّلِ عُدِمَت منه، وحلَّتْ في الثاني، بل لَمَّا كانَ المقصودُ من نسخ الكتابِ من الكتُب ونَقْلِها من جنْس نقْل العِلْم والكلام، وذلك يَحْصُلُ بأن يُجعَلَ في الثاني مِثْلُ ما في الأوَّل، فيبقى المقصودُ بالأوَّلِ مَنْقولاً مَنسوخاً، وإنْ كانَ لم يتغيَّر الأوَّلُ؛ بخلافِ نَقْلِ الأجْسام وتَوابِعها، فإنَّ ذلكَ إذا نُقِلَ من مَوْضِعٍ إلى مَوْضِعٍ زالَ عن الأوَّل"(76).
فهذا النَّظْمُ العَربيُّ مكتوبٌ فيما لا يُحصى من المَصاحفِ، ويحفظُه مَن لا يُحصيهم إلَاّ الله من الخَلائق، وهو نفسهُ الذي سَمِعَه الصَّحابةُ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قرآنٌ واحدٌ كما أنْزِلَ بسُوَرهِ وآياتهِ وحروفهِ وكلماتهِ، وهو نفسُهُ الَّذي في اللَّوْحِ المَحفوظِ، وهو نفسُهُ الذي تكلَّمَ الله تعالى به.
قالَ شيخ الإِسلام: "بَلْ إذا قَرَأهُ الناسُ، أو كَتَبوهُ في المَصاحفِ،
(76)"مجموع الفتاوي" 12/ 288 - 289.
لم يخرُجْ بذلكَ عن أنْ يكونَ كلامَ الله تعالى حقيقةً، فإنَّ الكلام إنَّما يُضافُ إلى مَن قالَه مبتدئاً، لا إلى مَن قالَهُ مُبَلَّغاً مُؤدَّياً، وهو كلامُ الله: حروفهُ ومعانيه، ليسَ كلامُ الله الحُروفَ دونَ المَعاني، ولا المَعانيَ دونَ الحُروفِ" (77).
وقال الإِمام ابنُ قُتَيْبة: "والقرآنُ لا يقومُ بنفسهِ وحدَه، وإنَّما يقومُ بواحدةٍ من أرْبَع: كتابةٍ، أو قراءةٍ، أو حفظٍ، أو استماعٍ، فهو بالعَمَل في الكتابةِ قائمً، والعَملُ خَطٌّ وهو مَخلوقٌ، والمَكتوبُ قرآنٌ وهو غيرُ مَخلوقٍ، وهو بالعَمَل في القراءةِ قائمٌ، والعَمَلُ تَحريكٌ للًّسانِ واللَّهواتِ بالقرآنِ وهو مخلوقٌ، والمَقروءُ قُرآنً وهو غيرُ مخلوقٍ، وهو بحِفْظِ القَلْب قائمٌ، والحِفْظُ عَمَلٌ وهو مخلوقٌ، والمَحفوظُ قرآنٌ وهو غيرُ مَخلوقٍ، وهو بالاستماعِ قائِمٌ في السَّمْعِ، والاستماعُ عَمَلٌ وهو مَخلوقٌ، والمَسموعُ قرآنٌ وهو غيرُ مخلوقٍ"(78).
وقال الحافظُ الذَّهَبيُّ: "إنَّك تَنْقلُ من المصْحَفِ مئةَ مصحَفٍ، وذاك الأوَّلُ لا يتحوَّلُ في نفسهِ ولا يتغيَّرُ، وتُلَقِّنُ القرآنَ ألفَ نفْسٍ، وما في صَدْرِكَ باقٍ بهَيئتِهِ لا يقصلُ عنكَ ولا يغيّرُ، وذاك لأنَّ المَكتوبَ واحدٌ، والكِتابةَ تعدَّدتْ، والذي في صَدْرِكَ واحدٌ وما في صُدورِ المقرئينَ هو عيْنُ ما في صَدْرِك سواءٌ، والمتلوُّ وإنْ تعدَّدَ التالونَ به واحدٌ، مَعَ كونهِ سوراً وآياتٍ وأجزاءً متعدَّدةٌ، وهو كلامُ الله ووحيُه وتنزيلُه وإنشاؤُهُ، ليسَ هُوَ بكلامِنا أصْلاً، نَعَمْ، وتكلُّمنا بهِ وتلاوتُنا له وَنُطْقُنا به مِن أفعالِنا، وكذلكَ كتابَتُنا لَهُ
(77)"الواسطية" - "مجموع الفتاوى" 3/ 144.
(78)
"الاختلاف في اللفظ" ص: 248 - 249 - "عقائد السلف".
وأصواتُنا بهِ من أفْعالِنا، قالَ الله عز وجل:{واللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]
…
" (79).
وقال: "فالمُقرىءُ يُلَقِّنُ الختمةَ مئةَ نَفْسٍ ومِئَتَيْن فَيَحْفَظُونَه، وهو لا يَنْفصِلُ عنه منه شَيْءٌ، كسِراجٍ أوقدتَ منه سُرُجاً ولم يتغيَّر"(80).
وذكَرَ شيخُ الإِسلام رحمه الله اعتقادهم هذا الذي ذكَرْنا، وقال:"بَل كلامُ المخلوقينَ يُكْتَبُ في الأَّوراقِ وهو لم يُفارِقْ ذواتهم، فكيفَ لا يُعْقَل مثلُ هذا في كلام الله تعالى"(81).
فتفسيرُ القوْم للحُلولِ في المصْحَف على ما ذكَرْنا وإنكارُهم له باطلٌ، مَبْنيٌّ على أصلهم في نَفْي أنْ يكونَ ما بَيْنَ دَفَّتَي المصْحَف كلامَ الله على الحقيقةِ، لأنَّ هذا محصورٌ محدودٌ، وكلامَ الله لا نهايةَ له، وهو معنى واحدٌ، وهذا تلبيسٌ قد كشَفناه بفَضْل الله تعالى ومنّته.
وأمَّا إطلاقُ اللَّفْظ: إنَّ كلام الله حالٌّ في المُصْحف، فليسَ مِمَّا جَرَتْ به ألسنةُ السَّلَفِ والأئمَّةِ، وإنْ كانَ قد ذكره بعضُ المُتأخِّرينَ من أهل السُّنَّةِ، إلَاّ أنَّ مذهب السَّلَف أولي بالاتّباعِ، وإنَّه يُخْشَى مِن الإِطلاقِ ورودُ معاني باطلةٍ، وإنَّما يُكْتفى بالقَوْلِ: إنَّ ما بينَ دَفَّتَي المُصْحفِ كلامُ الله بحُروفهِ ومَعانيهِ، منه بدأ وإليه يعودُ، وهو صِفَتُه، غيرُ بائنٍ منه.
قالَ ابنُ قُتَيْبَة رحمه الله: "ولَسْنا نشُكُّ في أنَّ القرآنَ في
(79)" العلوّ" ص: 141.
(80)
"العلوّ" ص: 124.
(81)
"مجموع الفتاوى" 12/ 276.
المَصاحفِ على الحَقيقةِ، لا على المَجاز، كما يقولُ أصحابُ الكَلام: إنَّ الذي في المُصْحف دليلٌ على القُرآن وليسَ به، والله تبارك وتعالى يقول:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 - 79] والنَّبى صلى الله عليه وسلم يقولُ: "لا تُسافِروا بالقُرآن إلى أرضِ العدوّ"(82) يريدُ المُصْحَفَ" (83).
وقد شَرَحْتُ معنى هذا في الباب الأوَّل بما يُزيلُ تلبيسَ الأشعرية ومَن قالَ بقَوْلِهم.
• تعظيم المصحف عند الأشعرية:
اعتقادُ الأشعرية في كَلامِ الله تعالى أنَّه المعنى القائمُ بنفسهِ، وأنَّ هذا لم يَنْزِلْ، وإنَّما نزلَت العبَارةُ عنه، وهذه العبارةُ مخلوقةٌ تَحُلُّ في المَصاحفِ أدَّى بمتأخَّريهم إلى تَهْوين شأنِ المُصْحَف، بل أدَّى بجُهّالِهم إلى الاستهانةِ به، وهذا مِمَّا فاقوا به المعتزلةَ، وشَبهوا به غُلاةَ الجَهميةِ.
وبيانُ ذلكَ: أنَّ تعظيمَه عندَ عُقَلائِهم والقُدَماءِ منهم على وَجْهِ الخُصوصِ، لأجْلِ كونهِ عبارَةً عن الكَلامِ النَّفْسى ودَلالةً عليهِ، فتعظيمُهُ لدَلالتهِ على العظيم.
وبهذا يُفَسِّرونَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لا تُسافروا بالقرآنِ إلى أرضِ العدوّ، فإنّي أخافُ أنْ ينالَه العَدُوُّ"(84).
(82) حديث صحيح، سبق تخريجه ص:201.
(83)
"مختلف الحديث" ص: 136.
(84)
انظر التعليق (82) المذكور قريباً.
والَّذي يُحْمَل إنَّما هو المَصاحفُ الَّتي فيها القرآنُ، وتَعْليلُ النَّهْي عن السَّفَر بها بَيِّنٌ في الخَبَر، وهو الخَوْفُ مِنْ أنْ تنالَهُ أيدِي الكفَّار، فلا تُؤمَنُ منهم إهانَتُه، وهذا المعنى حقٌّ وصَوابٌ، لكنَّه عندَ أهلِ السُّنَّة والأئمَّة لأنَّ فيه كلامَ الله على الحَقيقةِ بألفاظهِ ومَعانيهِ، وهذا وجْهُ النَّهي عندَهم، أمَّا الأشعرية فَلأنَّ فيه العبارةَ عن كلامِ الله.
فجاءَ متأخِّروهُم وزادوا أنَّهُ مَخلوقٌ في اللَّوْحِ المَحْفوظِ، أو غيرِه، أو قَوْلُ جبريلَ، أو محمَّد صلى الله عليه وسلم، فهوَّنَ هذا مِنْ شأنِ المُصْحَفِ عندَهم، حتى فاضَلوا بينَه وبين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قالَ الباجوريُّ:"وهل القرآن بمعنى اللَّفظ المَقروء أفْضَل أو سيّدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم؟ " فأشارَ إلى خِلافٍ عندَهم في ذلك، ثمَّ قالَ:"والحَقُّ أنَّه صلى الله عليه وسلم أفْضَلُ لأنَّه أفضلُ من كلّ مخلوقٍ"(85).
قلتُ: سُبْحانكَ هذا بُهْتانٌ عَظيمٌ، أيُّ جُرْأةٍ هذه الَّتي تُؤدّي بأصْحابِها إلى جَعْلِ صِفَةِ الرَّبِّ تعالى أدْنى من المَخلوقِ -مع شَرَف المَخلوقِ-؟!!
بَلْ إنَّ بعضَهم لمَّا رأوا أنَّ لهذا القرآنَ الذي في المُصْحَف ليسَ كلامَ الله حقيقةً وإنَّما هو دَلالةٌ علَيهِ، رَأوْا أنَّ كلَّ المَخلوقاتِ سِواه أدلَّةٌ على الخالق وصفاتهِ، ومع ذلكَ فلا يَجِبُ احترامُها، وما دلَّ على الخالق أوْلى بالاحترام مِمَّا دلَّ على صِفَتهِ، وصَلَ بهم الحالُ حينئذٍ إلى أنْ قالوا في هذا القرآنِ العربيّ: ما هذا إلَاّ وَرَقٌ ومِدادٌ، فحَصَلَ بذلكَ شرٌّ أّعظمُ.
قالَ شيخُ الإِسلام: "ثمَّ تَبِعَ أقوامٌ مِن أتباعِهم أحدَ أهْلِ المذهَب،
(85)"شرح الجوهرة" ص: 94.
وأنَّ القرآنَ معنى قائمٌ بذاتِ الله فَقَط، وأنَّ الحروفَ ليسَتْ من كلام الله، بَلْ خَلَقَها الله في الهَواء، أو صنَّفها جبريلُ أو محمَّدٌ، فضمّوا إلى ذلك أنَّ المُصْحَفَ ليسَ فيه إلَاّ مِدادٌ ووَرَقٌ، وأعْرَضوا عمَّا قالَه سلَفُهم مِنْ أنَّ ذلك دليلٌ على كلام الله فيجبُ احترامُهُ، لَمَّا رَأوا أنَّ مُجَرد كونهِ دَليلاً لا يوجِبُ الاحترامَ، كالدَّليل على الخالِق المتكلِّمِ بالكلام، فإنَّ المَوْجوداتِ كُلَّها أدلَّةٌ عليه، ولا يجبُ احترامُها (86)، فصار هؤلاء يَمْتَهنونَ المُصْحَفَ حتى يَدوسوهُ بأرْجُلِهم، ومنهم من يكْتُبُ أسماءَ الله بالعَذْرة إسقاطاً لحُرْمَة ما كُتِبَ في المَصاحفِ والوَرَقِ مِنْ أسماءِ الله وآياتِهِ" (87).
قلتُ: ومِمَّا يُصَدِّقُ ما حَكاهُ عنهم شيخُ الإِسلام، ما رَواه ابنُ حَزم في "الفصل" (88) قال: أخْبَرني عليُّ بن حَمْزَةَ المُرادي الصَّقَلِّيُّ الصَّوفيُّ أنَّه رأى بعضَ الأشعرية يَبْطحُ المُصْحَفَ برجلهِ، قالَ: فأكْبَرتُ ذلك، وقلتُ له: ويحَك! هكذا تصنَعُ بالمُصْحَف، وفيه كلامُ الله تعالى؟ فقالَ لي: ويلك! والله ما فيهِ إلَاّ السُّخامُ والسَّوادُ، وأمَّا كلامُ الله فلا، ونحو هذا من القَوْلِ الذي هذا مَعْناه (89).
(86) قال شيخ الإِسلام في موضع آخر: "ولو كان ما في المصحف وجب احترامُه لمجرّد الدلالة، وجب احترام كلِّ دليل، بل الدليلُ على الصانع وصفاته أعظمُ من الدَّالِّ على كلامه، وليسَت له حرمةٌ كحرمة المصْحَف""مجموع الفتاوى" 12/ 391.
(87)
"مجموع الفتاوي" 8/ 425.
(88)
5/ 81 - طبع عكاظ-
(89)
قلتُ: وعليّ بن حمزة هذا يكنى أبا الحسن، ترجم له الحافظ الحُمَيدي في "جذوة المقتبس" ص: 313، وقد سَمِعَ منه، وقال:"كانَ يتكلَّم في فنونٍ، ويُشارك في علوم، ويتصوَّف".
وأنتَ -وفَّقك الله- قَدْ تَعْجَبُ من هذه الحالِ الَّتي وصَل إليها بعضُ الأشعريةِ، وقد لا تُصَدِّقُ ذلكَ ابتداءٌ وتَسْتَنْكِرُه، مِن أجْل ما تراهُ مِنْ تظاهُرهم بتكريمِ المَصاحفِ، وتَعْظيمِها، وتَقْبيلها، والقيامِ لها حين الإِتيان بها، ولكنَّكَ حينَ تُدْرِكُ ما شَرَحْناهُ من اعتقادِهم، فليسَ يبعُدُ وقوعُ ذلك من سَفلَتِهم الذين لم يَقْدروا الله تعالى قَدْرَه.
ولهؤلاء السُّفَهاءِ سَلَفٌ في الاستهانةِ بالمُصْحفِ وعَدَمِ تَعْظيمهِ، ذلك هو الجَهْمُ بن صَفْوانَ -رأس الجَهميَّة- فقدْ قالَ أبو نُعَيْمٍ البَلْخِيُّ -وكانَ صدوقاً-:
كانَ رَجُلٌ من أهْلِ مَرْوٍ صديقاً لِجَهْم، ثمَّ قَطَعَه وجَفاهُ، فقيلَ له: لِمَ جَفَوْتَه؟ فقال: جاءَ منه ما لا يُحْتَملُ، قرأتُ يوماً آيةَ كذا وكذا، فقالَ: ما كانَ أظرف محمَّداً، فاحتملْتُها، ثمَّ قرأ سورة طه، فلمَّا قالَ:{الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: أمَا والله لو وَجَدْتُ سَبيلاً إلى حَكِّها لَحَكَكْتُها من المُصْحَف، فاحْتَمَلْتُها، ثمَّ قرَأ سورةَ القَصَص، فلمَّا انتهى إلى ذِكْرِ موسى قال: ما هذا، ذكَرَ قصَّةً في مَوْضِع فلمْ يُتِمَّها، ثمَّ ذكَرَ ههُنا فلمْ يُتِمَّها، ثمَّ رَمى بالمُصْحَفِ منْ حجرِهِ برِجْلَيْهِ، فوثبتُ علَيه (90).
وهذا المَعنى الذي تَقْشَعِر منه الجلودُ، وتنفرُ منه القُلوب، ويأباه دينُ المُسلمينَ، لم يكن عِنْدَ قُدَماء الأشعريَّة، والله تعالى أمرَ بالعَدْلِ، فإنَّ أولئكَ -على ما ذَكَرْنا عنهم من الاعتقادِ في القرآن العَظيم- إلَاّ أنَّهم كانوا
(90) رواه البخاري في "خلق أفعال العباد" رقم (70) وعبد الله بن أحمد في "السنَّة" رقم (190) وسنده صحيح.
يعظّمونَ المصْحَفَ، ويبجّلوله لدَلالته عندَهم على القديمِ النَّفسي، بل إنَّك تجدُ فيهم مَن يُصرِّح بتكفيرِ مَن استهانَ بالمصْحَف.
ولكنَّ بدعةَ هؤلاء الأوائل ضرَّتْ بهؤلاء السُّفَهاء، فإنَّهم توسَّعوا فيها حتى أخْرَجَتْهم من الإِسلام، وهذا شأنُ البِدَع وتأثيرِها على أصحابِها.
قال شيخُ الإِسلام: "فالبدَعُ تكونُ في أوَّلها شِبْراً، ثم تكثرُ في الأتباع حتى تصيرَ أذْرُعاً وأميالًا وفراسخَ"(91).
وحين ذكرَ شيخُ الإِسْلام بدْعَة الأشعريّة واعتقادَهم الباطلَ الذي شَرَحْناه، قال:"وهذا القَوْلُ فيه نوعٌ من الضَّلالِ والنّفاقِ، والجَهْلِ بحُدودِ ما أنْزَل الله على رسُولهِ، وهو الذي أوقَعَ الجُهال في الاستخفافِ بحُرْمةِ آياتِ الله وأسْمائِهِ، حتى ألْحدوا في أسْمائِهِ وآياتِهِ"(92).
وقال: "وقد اتَّفقَ المسلمونَ على أنَّ مَن استخفَّ بالمصْحَف، مثل أنْ بُلْقِيَه في الحُشّ، أو يركضهُ برجْلهِ، إهانةً له، أنَّه كافرٌ مباحُ الدَّم"(93).
• • • • •
(91)"مجموع الفتاوى" 8/ 425.
(92)
"مجموع الفتاوى" 12/ 382.
(93)
"مجموع الفتاوى" 8/ 425.