الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: أسماء الله تعالى عند الأشعرية
إنَّ عقيدةَ الأشعريَّةِ في كلام الله تعالى جَرَّتْهم إلى إدخالِ أسمائِهِ الحُسْنى ضِمْنَ ما اعتقْدوهُ، ولكن في ألفاظِهم في ذلك لَبْسٌ لا يَفْطن له مَن لم يفهَمْ مرادَهم، فإنَّهم يُطلقونَ القولَ: أسماءُ الله غيرُ مخلوقةٍ، وهذا الإِطلاقُ لأهل السُّنَّة أيضاً، ولكنَّه عندَ الأشعريةِ خِلافُ ما هُوَ عليه عند أهل السُّنَّة.
وبيانُ ذلك:
أنَّ الأشعريةَ كانوا يقولونَ: الاسمُ هو المُسمَّى، ويُطْلقونَ القولَ بذلكَ، ومُرادُهم: أنَّ الاسمَ هو عَيْنُ المُسمَّى، فاسمُ الله عندَهم هو الله، فالاسمُ عندَهم هو الذَّات، وليس هو الدالَّ عليها، وهذا المعنى لمْ يَسْبِقهم أحدٌ إليه، ولا يَعْرِفُ النَّاسُ الاسمَ إلَاّ القَوْلَ الدالَّ على المُسمَّى.
فلمَّا حُجّوا بتعدُّدِ أسماءِ الله تعالى، والذَّاتُ واحدةُ غيرُ متعدَّدةٍ، قالوا: المُرادُ بالأسماءِ حالَ التعدّدِ التَّسْميات لا الذَّوات، فحديثُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ لله تسعةً وتسعينَ اسماً" معناه: تسعةً وتسعينَ تسميةً، وقوله تعالى:{ولِلهِ الأسْماءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] معناه: التَّسْميات،
والتَّسْمياتُ هي الأقوالُ المؤلَّفةُ من الحُروفِ، مثل:(الرَّحمن، الرَّحيم، السَّميع، العَليم)(1) وهذه مخلوقةٌ عندَهم؛ لأنَّها ألفاظٌ، والألفاظُ مخلوقةٌ.
وهذا مِنْهم خَرْقٌ لِما دَلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ وكلامُ العَرَب، فإنَّ العربَ لا تَعْرِفُ التَّسميةَ إلَاّ النُّطْق بالاسم والتكلُّم به، وليسَتْ هي الاسمَ نفسَه، وأسماءُ الأشياءِ هي الألفاظُ المُعَرِّفةُ بها الدَّالَّةُ عليها، ليستْ هي أعيانَ الأشياءِ (2).
فـ (زيد) اسمُ عَلَمٍ بلا نِزاعٍ، فإذا سُمّيَ أحدٌ به لم يكنْ هو عَيْنَ المسمّى، وإنَّما هو اللَّفْظُ الدَّالُّ عليه، وإطلاقُ هذا اللَّفظ على زيد هو تسميتهُ به، وهذا بَيَّنٌ لا يَخْفى إنْ شاء الله.
وقد نَطَقَ الكتابُ والسُّنَّةُ بأنَّ لله تعالى الأسماءَ الحُسْنى، فقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] وقال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لله تِسعةً وتسعينَ اسْماً، مئةً غير واحدٍ، مَن حفِظَها دخَلَ الجنَّةَ"(3).
فقالت الجَهميةُ والمُعْتزلةُ: الاسمُ غيْرُ المسمَّى، فأسماءُ الله غيرُهُ، وكلُّ شَيْءٍ غيرُ الله مخْلوقٌ، فـ (الرَّحمن، الرَّحيم، الحَيّ، القيّوم
…
) هذه الأسماءُ المؤلَّفةُ من الحُروفِ، وغيرُها من الأسماءِ الحُسنى مخلوقةٌ
(1) انظر: " أصول الدين" لعبد القاهر ص: 114 - 115.
(2)
انظر: "مجموع الفتاوى" 6/ 195.
(3)
حديث صحيح جليل.
وقد تناولته بالتخريج والشرح في جزء مفرد.
عندَهم.
فأرادَ الأشعرية ومَنْ على شاكِلَتِهم إبطالَ قولِهم، فقالوا: الاسْمُ هو المسمَّى، أي: عينُهُ، فاسْمُ الله هو الله، والله غيرُ مَخلوق، فاسمهُ غيرُ مَخْلوق، وهذا في الحَقيقة لا تُخالِفُ فيه الجَهْميةُ، فإنَّهم يعتقدونَ أنَّ الله تعالى غيرُ مخلوق وهم إنَّما قالوا بخَلْق الأسماءِ التي هي الأقوالُ الدَّالَّة على المُسمَّى كـ (الرَّحمن، الرَّحيم) وهذه عندَ الأشعريَّةِ تَسْمياتٌ، وهي ألفاظٌ مَخْلوقةٌ، فأيّ فَرْقٍ بين اعتقادِ الطائفتين من جِهَةِ الحَقيقة والمَعنى؟
قالَ شيخُ الإِسلام: "وافَقوا الجَهْميةَ والمعتزلةَ في المعنى، ووافقوا أهلَ السُّنَّة في اللَّفْظ"(4).
والسَّلفُ لم يكونوا يَعْرِفونَ الكلامَ في الاسم والمسمَّى، وإنَّما يعلَمون أنَّ لله تعالى الأسماءَ الحُسنى، ولما ظهَرَت مقالةُ الجَهمية في ذلك أنكَرَها الأئمَّةُ، وكانَ في علماءِ السُّنَّةِ مَنْ أطلقَ القولَ في الرَّدّ علَيْهم، فقال: الاسمُ هو المُسمَّى، وهذا الِإطلاقُ مُوافقٌ لإِطلاقِ الأشعريةِ، لكن يُخالِفه في المَعنى، فإنَّ مَن أطْلق ذلكَ من أئمَّةِ السُّنَّة لم يُريدوا أنَّ الاسمَ هو عَيْنُ المسمَّى.
وأكثرُ أئمةِ السُّنَّة على إنكار هذه المقالةِ نَفْياً وإثباتاً، لأنَّ كُلاًّ من الإِطلاقين بدْعَة تجرُّ إلى محاذيرَ، كما جرَّت الجَهمية والأشعرية إلى القولِ بخَلْق الأسماءِ الحُسنى (5).
(4)"مجموع الفتاوى" 6/ 192.
(5)
انظر لتفصيل هذه المسألة (قاعدة في الاسم والمسمَّى) لشيخ الإِسلام ضمن "مجموع الفتاوى" 6/ 185.
ويُبْطلُ قولَ هؤلاء المُبتدعةِ أنَّ أسماءَ الله تعالى مِن كلامِهِ، وقَدْ بَيَّنا الاعتقادَ فيه، وأنَّه غيرُ مَخلوقٍ، فأسماؤُهُ تعالى غيرُ مخلوقةٍ.
وعلى ذلك نَصَّ الأئمةُ رحمهم الله، واستدلّوا بذكْرِ الأسماءِ في كلام الله على بُطْلانِ قَوْل مَن يقولُ بخَلْق القُرآنِ العَربيّ المُبينِ.
فمِنْ ذلك:
1 -
قولُ الإِمام الشافعيّ رحمه الله: "مَن حلَف باسْم مِن أسماءِ الله فحنثَ فعليْهِ الكفَّارةُ، لأنَّ اسمَ الله غيُر مَخْلوقٍ، ومَن حَلَفَ بالكعبةِ أو بالصَّفا والمَرْوَة فليس عليه الكفَّارةُ، لأنَّه مخلوقٌ، وذاكَ غيرُ مخلوقٍ"(6).
قلتُ: والحَلف إنَّما يقَعُ بالألفاظِ، كـ (والله، والرَّحمن، والخالق، والعزيز) ونحو ذلك، فلو قيلَ: هذه ألفاظٌ مخلوقةٌ، وغيرُ المَخلوقِ إنَّما هو مسمَّاها -كما يقولُه مُحَقِّقو الأشعرية- وهذه موضوعةٌ للدَّلالةِ عليه، فلا فَرْقَ حينئذ بين الحَلِفِ بها، والحَلِفِ بالكعبةِ والصَّفا والمَرْوَة، لأنَّ الجميعَ مخلوقٌ، وذلكَ لأنَّ الحالفَ إنَّما يحلِفُ بالاسْم الذي هو القَوْلُ واللَّفْظُ المؤلَّفُ من الحُروفِ، الذي يُرادُ به المُسمَّى، وهذه عندَ الأشعرية تَسْمِياتٌ مَخْلوقةٌ.
2 -
وقَوْلُ أبي داودَ: سمعتُ أحمَدَ -يعني ابن حنبل- ذكَرَ له رَجُلٌ
(6) أثر صحيح، سبق تخريجه ص 128.
وعلَّق محقَّق "آداب الشافعي" -ذاكَ الأشعري- على قوله: "وذاك غير مخلوق" بقوله: "يعني مسمَّاه ومدلوله" كذا قال، وهو تفسير لِما ذَكَرْناه عنه وعن أشباههِ من الأشعرية مُدَّعي التَّحقيق من أنَّ أسماء الله المؤلَّفة من الحُروف المتعدِّدة الكثيرة هي تسميات مخلوقة لا أسماء.
أنَّ رَجُلًا قالَ: إنَّ أسماءَ الله مخلوقةٌ، والقُرْآنُ مَخْلوقٌ، قال أحمدُ:"كُفْرٌ بَيِّنٌ"(7).
وقال عبد الله بن أحمدَ: سمعت أبي رحمه الله يَقُولُ: "مَن قالَ: القرآنُ مخلوقٌ، فهو عندَنا كافرٌ، لأنَّ القرآنَ من عِلْمِ الله عز وجل، وفيه أسماءُ الله عز وجل "(8).
3 -
وقَوْل إسحاقَ بن راهُوَيْه: "أفْضَوا -يعني الجَهمية- إلى أنْ قالوا: أسماءُ الله مخلوقةٌ، لأنَّهُ كانَ ولا اسْمَ، وهذا الكفْرُ المَحْضُ، لأنَّ لله الأسماءَ الحُسْنى، فَمن فرَّقَ بين الله وبين أسْمائِهِ وبين علْمهِ ومشيئتهِ، فجعَل ذلك مخلوقاً كلَّه، والله خالِقُها، فقَدْ كَفَرَ، ولله عز وجل تسعةٌ وتسعونَ اسماً، صحَّ ذلكَ عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَهُ، ولقَدْ تكلَّمَ بعضُ مَنْ ينْسَب إلى جَهْمٍ بالأمْرِ العَظيمِ، فقال: لو قُلْتُ: إنَّ للرَّبِّ تسعةً وتسعينَ اسْماَّ لَعَبَدْتُ تسعةً وتسعينَ إلهاً، حتى إنَّه قالَ: إنِّي لا أعبُدُ الله الواحدَ الصَّمَدَ، إنَّما أعْبُدُ المُرادَ به، فأيّ كلامٍ أشَدُّ فِريَةً وأعظمُ من هذا، أنْ يَنْطِقَ الرَّجلُ أنْ يقولَ: لا أعبُدُ الله؟ "(9).
قلتُ: والجَهْميَّةُ أرادوا إنكارَ أسماء الله بدَعْوى أنَّ تعدْدَها تعدّدٌ للآلهة، فقالوا: هي غيرُ الله، وهي مَخْلوقةٌ، ليُبْطِلوا تعلُّقَها بالله تعالى، والأشعريَّةُ قالوا: التعدُّدُ دليلُ الحدَثِ والخَلْق، والقَديمُ لا يتعدَّدُ والأسماءُ
(7) سبق تخريجه ص 128.
(8)
سبق تخريجه ص 128.
(9)
رواه ابن أبي حاتم -كما في "السنَّة" لابن الطبري رقم (352) - وسنده صحيح.
مَعدودةٌ، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَن أحْصاها دَخَلَ الجَنَّةَ" وَلا يقعُ الحَصْرُ والإِحصاءُ إلَاّ لما هو مَخلوقٌ، فهذِهِ الأسماءُ مخلوقةٌ، وهي دالَّةٌ على المُسمَّى، كَما أنَّ الألفاظَ في الكلام دالَّةٌ على الكَلام الحَقيقيّ، ولَيْسَتْ هي الكلامَ، لكنَّهم عَسُرَ عليهم القولُ: إنَّ الأسماءَ مخلوقةٌ، فقالوا: هي غيرُ مخلوقةٍ، لأنَّ الاسْمَ هو المُسمَّى، والمتعدِّدَ هو التَّسْمياتُ لا الاسْمُ، فأبْطَلوا المعلومَ من اللُّغَة والشَّرْع بفاسدِ الرأي.
ولقد أورَدَ البخاريّ رحمه الله إلزاماً على الجَهْمية، هو واردٌ على الأشعريَّةِ أيضاً، قال:
"وقالوا: إنَّ اسمَ الله مخلوقٌ، ويلْزَمُهم أن يَقولوا إذا أذَّنَ المؤذِّنُ، لا إِشله إلَاّ الذي اسْمه الله، وأشْهَد أنَّ محمَّداً رسولُ الذي اسمه الله، لأنَّهم قالوا: إنَّ اسمَ الله مَخْلوق"(10).
فتأمَّلْ -رحمك الله- مذهبَ الأشعرية في أسماءِ الله، واعْلَم أنَّهم يُنزّهونَ اسْمَ الله القَديم عن أنْ يكونَ مُؤلّفاً من حُروفٍ مَنْظومَةٍ.
يقولُ ابنُ عَساكر -وهو منهم معَ ما لَه من العِلْم والجَلالة -وهو يَصِفُ المُشبّهةَ: "وَغَلَوا في إثبات كلامِهِ -أي الله تعالى- حتى حَسِبوهُ يَحْتمِلُ بجَهْلهم تجزّؤاً وانقساماً، وظنّوا اسمَ الله القَديم ألِفاً وهاءً تتلو لاماً ولاماً"(11).
قلتُ: وهذه الجُمْلَة ليْسَت مِن مُعْتقَد المُشبّهةِ الضُّلاّل، وإنَّما هو
(10)"خلق أفعال العباد" رقم (108).
(11)
"تبيين كذب المفتري" ص: 25 - 26.
معتقَدُ أهل السُّنَّة الأبرياءِ من اعتقادِ أصْحابِ البِدَع، وقد شَرَحْناه عنهم فيما سبَقَ في الباب الأوَّل، وبيَّنا أنَّ كلامَه تعالىَ يتجزَّأ ويتبعَّضُ، وهذا القرآنُ أبْيَنُ حُجَّةٍ عليه، ونبيّن هُنا أنَّ أسماءَ الله تعالى هي ألفاظٌ دالَّةٌ على المَعاني، عَرَّفَ الله بها نفسَه، كما عَرَّفَ نفْسَه بسائرِ صفاتهِ، فإنَّ أسماءَه صفاتٌ له تعالى، واسمُ (الله) هو المؤلَّف من ألف وهاء تتلو لاماً ولاماً، لأنَّ اسْمَ الله عندَنا ما دَلَّ على ذاتهِ تعالى، ألا ترى أنَّ الله أمرَ عبادَه بتسبيحهِ كما أمرهم بتسبيح اسْمهِ، فقال:{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 42] وقالَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وقالَ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74، 96 الحاقة: 52]؟ والعِبادُ يُجيبونَ: سُبْحان الله، سُبحانَ رَبّي الأعلى، سبحانَ ربي العظيم، فبيَّن تعالى أنَّ تسبيحَ اسمهِ تسبيحٌ له، لأنَّ الاسمَ إنَّما يُراد به المُسَمَّى، ومثل ذلك في دعائه تعالى بأسمائِهِ وذِكْره بها.
وكذا بيَّنَ أنَّ اسمَه تعالى مُبارَكٌ، فقال:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78] وقال: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] فأسماؤهُ تعالى مباركَة لبَرَكةِ المُسمَّى بها، وهو الرَّبُّ تعالى.
والمقصودُ هنا بيانُ أنَّ الأشعريَّة جانَبوا الصَّوابَ باعتقادِهم أنَّ الأسماءَ الحُسنى المتعدِّدَة لله تعالى إنَّما هي التَّسْميات، وهي ألفاظٌ مُحْدَثةٌ مَخلوقةٌ، واسْمُ الله القَديم هو ذاتُه تعالى.
وبيان أنَّ هذا ليسَ بينَه وبين قَوْلِ الجَهْمية فرْقٌ في المعنى والحَقيقة، إذْ الجميعُ قالوا بخَلْق الأسْماءِ، التي هي الألفاظُ التي يُرادُ بها
المُسمَّى، ومَنعوا من ذلكَ للتَّعَدُّدِ، إلَاّ أنَّ الجهميةَ صَرَّحوا أنَّ التعدُّدَ في الأسماءِ تعدّدٌ في الذَّواتِ، وهذا عندَهم تعدّدٌ للآلهةِ، والأشعرية لم يُصَرِّحوا بذلك، فالخِلافُ بينَهم وبين الجَهميةِ في هذه القضيَّة خِلافٌ لَفْظيٌّ.